الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهال علام تكتب: جائحة الطلاق عالميا

نهال علام
نهال علام

لم يخلقنا الله لنعيش فرادى، بل أوجدنا لنحيا جماعة، نولد في أسرة نكبر بكنف عائلة، نترعرع في حضن مجتمع، ثم نشب عن الطوق فننفتح على العالم الواسع نتجاوز الخطوط ونعبر الحدود وننطلق في فضاء بلا قيود، لنلتقي المزيد من أبناء الأرض فتمتزج الثقافات وتختلط الرؤى التي تُعبِر عن الحضارات فلا تتوقف عند القارات، تمتد بسلاسة فتعبر المحيطات، نستزيد من المسرات ونتعلم من المضرات، نملأ حقيبة الذكريات ونفتح كتاب الحكايات نسطر الملهمات ونبرز  المعضلات، فلا رحلة دون المبهجات والتحديات.

والزواج رحلة بلا تَذكرة، فلا داعي للتِذكرة أن الأصل في الرحلة هو الذهاب دون نية الرجعة للوراء، فالأياب في الزواج متاحاً لكن روح العلاقات ليست أمراً مستباحا، لذا لا عودة دون براءة من سقم الجروح التي تطال الروح، ومهما تمتلك من الجراءة فهى تجربة تخرج منها كالطير المذبوح بجدارة.

ازدياد مرعب لمعدلات الطلاق عالمياً يصاحبه ارتفاع حاد في نسب العزوف عن الزواج فيبدو الأمر غير منطقيا، فذلك بمثابة معول هدم لكل النظريات الاجتماعية التي تحدثت على مدى قرون عن العلاقات العاطفية، ومؤسسة الزواج وقدسيتها الحتمية، ودور الحب والاختيار في اجتياز العقبات الحياتية، وأيضاً ما تلعبه المجتمعات في دعم أو ضحد تلك العلاقات الإنسانية.

لو تحدثنا عن الثقافات العربية وما يتبع الطلاق من ممارسات استثنائية، تجاه النساء بصورة خصوصية، وتزداد كلما تدخلت القبلية والعصبية والتمسك بالعادات العصية، وبالرغم مما سبق فمعدلات الطلاق تجاوزت كل ما سبق إذ لم ترتدع النساء من إرهاب المجتمعات، ولم يهتز الرجال لتبعات تلك الفعلات.

حتى المجتمعات الغربية التي تنعم بسماوات الحرية والتي تنعكس على قرارات الاختيار التي تحدد سقف الحريات، بحسب المنطق يجب أن يكون انعكاساً ايجابيا، ويدعض ذلك أن قوانين الطلاق في تلك الدول عاصفة ودائما لواحد من الطرفين ليست منصفة، ولو ذهبنا لفترة ما قبل الزواج فنجد أن كتالوج العلاقات مفتوح فلا احتياجات مؤجلة ولا رغبات مؤججة، علاقة تشاركية كاملة تخضع فيها تفاصيل الحياة للتجارب الكاملة، وبالرغم من ذلك نسب طلاق غير مسبوقة ومعدلات مثلية غير مفهومة!

ماذا حدث ليس فقط في مجتماعتنا ذات الأصول والتقاليد العريقة ولكن أيضاً في تلك الدول التي تنعم بحرية وقوانين دقيقة، لابد أن هناك سبب وحده هو القادر أن يمحو هذا العجب، لو أخضعنا الأمر للطرق العلمية لوجدنا أن المتغير هي المجتمعات والثابت هو الإنسان، إذاً هذا ما نبحث عنه من عنوان!

خلقنا الله لذا هو الأعلم بصنيعته ألم يقل وقوله الحق "إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا" أصابنا الهلع من الحياة فبالغنا بصنع مستحدثاتها، فبادرت باطلاق شرورها من اختلال ميزان الرغبات والعجز عن اشباع الاحتياجات بعد أن اختلط درج سلم الأولويات، فكل ما ننعم به من خيرات لم تكن ممنوحة لمن سبقنا من الجدود والجدات زرع بداخلنا سأم طرح نبتاً من قلة التحمل وانعدام الأمل في إصلاح ما يصيب العلاقات من عطب، فأصبح الاستغناء هو أسهل الطرق، فكما أن مفهوم السلع المعمرة قد ذهب أدراج الريح، أصبح هذا السلوك أيضاً في العلاقات هو الحاكم وإن تطور من الريح للإعصار فتبعثرت أشلاء المودة في الكون الفسيح.

كل ما ننعم به من تطور لم يمنحنا الهدوء بل جعل أرواحنا منهكة، قدرتنا على العطاء والتحمل مستهلكة، لا نقوى على الاستمرار في ذات النهج كثيراً، أصبحنا مثل الهواتف المحمولة والكمبيوترات النقالة نحدِث برامجنا الداخلية كل فترة وإن طالت فهي قصيرة فعمر الإنسان نفسه ما هو إلا لحظات ليست طويلة، فلو طال بك الأجل لتعيش مئة عام فما هم إلا ثلاثة مليار ثانية أيها الغفلان!
تقضي معظمهم كسلان، متمسك بأرائك البالية التي تجنح بك عن شواطئ الغفران، لا تعرف من النسيان إلا اللحظات الحلوة والنِعم السارة، وهذا هو كتالوجك أيها الإنسان.

ليست الأزمة في ثنائي قررا عدم استكمال الرحلة، ولكن الكارثة في الركاب الموجودين على متنها، أطفال لا ذنب لهم فلم يختاروا الوجهة ولا الصحبة، كل أحلامهم بعض استقرار ليتمكنا من الاستمتاع بالحب والاحتواء وذلك أعظم من أي لُعبة قد تُهدى لهم، ومع تلك الحياة الصاخبة والتحديات الكبيرة التي أصبحت جاثمة على صدر الأُسر لتربي أبنائها تربية لائقة، تحتاج عقول فاهمة وقرارات حاسمة وقلوب باسمة، فالأسر شبه عاجزة عن التعامل الأمثل مع كل تلك المعوقات القائمة والتي تصعب الوصول بالأساس لتعريف مفهوم (التربية اللائقة ) وسط المتغيرات الدائمة، فما بالك بالتربية وسط انشغال الطرفين بما يتماس مع أهوائهم هم الأثنين!

حتى الزيجات الطويلة والتي استمرت لعقود متعاقبة، لم تنجو من مقصلة الطلاق المحدقة، فكم زيجة انتهت بعد سنوات بعيدة! وهذا أمر حديث نسبياً ليس في مصر ولكن الحديث هنا عن العالم أجمع، وهذا في ذاته أعجب! وإن كان الطلاق في تلك المرحلة أقل ضررا وأكثر صدقا وعقلا، لذا مع كل محاولات الدولة الحميدة من الكشف ما قبل الزواج، ومبادرات المجلس القومي للمرأة ودور الأزهر في حملات التوعية، إلا أن كل هذا في رأيي لن يؤتي ثماره المرتقبة، لأن نفس الانسان المركبة لن يخضعها قانون ولن تجد لها مسطرة، تقيس بها حجم التغييرات المقدرة.

علينا أن نتفهم أن الطلاق جائحة بحاجة للتفكير خارج الصندوق بصورة جانحة، سنوات ونحن نُحارب مرآة الحب العمياء واختيارات الأسر التي تفرض زيجات خرقاء، ونظرة المجتمع الحمقاء للعازفات عن الزواج، ولم ينجح كل ماسبق في خفض نسب العلاقات المهترأة في المجتمع، وحتى إشعار آخر ربما لن ندركه إلا في العالم الآخر  يمكن أن نسعى لتحجيم الأثار وهم الضحايا من ثمرة تلك العلاقات من الصِغار، ولن أناشد الدول باصدار القوانين، ولكني سأناشد الضمير الإنساني الذي اتمنى أن يتمتع ببعض يقين أن نفسه ومشاعره وعقله وقلبه يتغير فلاداعي أن يدفع ثمن ذلك من هم مِن صلبه.

فما الذي سيضير المتزوجين حديثاً بتأجيل الانجاب حتى ينقشع ضباب البدايات، فارتفاع نسب الطلاق ليس رادع لمنع الزواج فذلك سنة الكون تلك الرحلة التي نتشاركها بما فيها من مشاعر وعقل وجنون، رحلة لا نية مبيتة فيها للعودة، ولكن من يبدل الكون ويخرج النهار من الليل ويقلب القلوب يعلم أننا ريشة في قلب هوا، لذا نحن بحاجة للسيطرة على النفس التي تمل من المحن والمنح، تأن من النقم كما النعم، لا تُدرك إلا بعد أن تفرغ، ولا تشتاق إلا بعدما تبرح..

الزواج مؤسسة، شركة بحاجة للفن والجِد والصبر والهَندسة، اختيار يعقبه قرار لا يصح أن ينتهي الأمر بالفِرار، فهي مسؤولية نتحملها بكامل قوانا القلبية فلا يصح أن نتركها في لحظة تخور فيها قوانا العقلية، بعض تغافل وقدر من التجاهل قد يكونا هم مفتاح الحياة، وليست تلك الحياة في وصفها أن تكون الجنة، فالجنة محلها السماء.. والأرض جنتها المودة والمحبة والرحمة المتوجين بالاحترام  والارتياح للصحبة، فالحب في أبسط تعريفاته هو المشاركة نقتسم الترح والفرح كما العيش والملح.

الطلاق ليس نهاية العالم ولا بداية معركة، كما أن الزواج ليس بداية هذا العالم ونهاية لأداء واجب ودور في الملحمة، كل منهما قرار يسعى فيه المرء لأفضل الأقدار، ولكن التبعات لكل القرارين هي المشكلة، زواج بذرته جرحى وطلاق ثمرته قتلى، لذا على الجميع التروي قبل قرار الإنجاب فأثره مدوي، وعلينا جميعاً أن نكون على قدر من الفهم لطبيعة الكون الذي يتغير ويتبدل دون سكون، والإنسان جزء من هذا التكوين لذا سيطاله هذا التأثير، فلا تنظر لنفسك اليوم وتراهن عليها بل كن أكثر اتساعا ودراية، حدد عيوبك ومميزاتك وإلى اى مدى ستستطيع التمسك بعاداتك وثباتك وما هي قدرتك على تحمل التغيرات الجذرية في حياتك، وليكن الاختيار لمن هو الأنسب لخريطتك النفسية طويلة المدى، وليكن قرارك هو ألا تكون قراراتك سحب ممطرة تمطر غبرة على من في حياتك قاطرة.