الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

منال الشرقاوي تكتب: درويش الإسكندرية

منال الشرقاوي
منال الشرقاوي

في الغمر العميق للتاريخ الموسيقي المصري، تتلألأ شخصية السيد درويش البحر كنجم لامع يضيء سماء الموسيقى العربية. وُلد في أحضان الإسكندرية في السابع عشر من مارس عام 1892، وكانت تلك البداية الواعدة لمسيرة فنية استثنائية.


منذ صغره، أُيقظت أوتار الفن في روحه، حيث بدأ ينشد ألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري. كانت موهبته تتلألأ كنجم ناشئ في سماء الفن، حتى انطلق في رحلة فنية استثنائية أثرت بشكل جذري في الموسيقى العربية.


في عام 1905، خطى سيد درويش عتبات المعهد الديني في إسكندرية، حيث انبثقت له روح التعلم والتأمل. غير أنه سرعان ما اكتشف دعوة قلبه نحو الفن، فاتجه إلى مقاهي الفنون ليجد نفسه في عالم الغناء والموسيقى. سفره إلى الشام في نهاية عام 1908 شكل فصلاً هاماً في حياته، إذ أثرت تجاربه هناك في بناء هويته الفنية. ثم عاد إلى مصر عام 1912، حاملاً معه حقيبة غنائه وتأثيراته الشامية.


بعد عودته من الشام، بدأ سيد درويش في كتابة قصائد جديدة تعكس تأثير هذه التجارب. زاد توجهه نحو الطبيعة والمشاعر الإنسانية في قصائده، وأصبحت أعماله تحمل بصمة شامية واضحة. أصبح لديه فهم أعمق للثقافة الشامية والعربية بشكل عام. شكل هذا السفر نقطة تحول مهمة في مساره الأدبي وساهم في تطوير هويته الفنية. في أواصر الفجر الفني لمصر، انفتحت صفحة ملحنٍ شاب على مسرح الحياة الفنية، أسماه الفنان الكبير سلامة حجازي بفمٍ مليء بالإعجاب. فقد تحولت لحظة استماعه لألحان سيد درويش في عام 1914 في الإسكندرية إلى لحظة اكتشاف فني جديد يعلو سماء المسرح الغنائي المصري.

إن إسهاماته في الأدب العربي لا تزال تؤثر على الأجيال الجديدة من الكتّاب والشعراء، وتظل رحلته إلى الشام واحدة من أهم الفصول في تاريخ الأدب العربي. وكما يحدث لكل فنان عظيم، استطاع سيد درويش أن يغزو عالم الفن في القاهرة، واستطاع أن يُسجل اسمه بأحرف من ذهب في سجلات الموسيقى المصرية. فقد قدم ألحاناً لكبار الفرق المسرحية، وأخذ يلحن لأسماء عظيمة.


استقر قلب سيد درويش في صدر القاهرة، وكأن العاصمة كانت تستنشق لأول مرة عبير هذا الفنان المتميز. كانت أولى خطواته في عاصمة الفن العربي تحت سقف فرقة جورج أبيض، حيث تمتع بفرصة قيادة الموسيقى في إحدى أشهر المسرحيات آنذاك، "فيروز شاه". لكن، كالعادة في عالم الفن، لم يكن استقبال الجمهور للفن الجديد دافئًا في البداية. كان للفنان الشاب تحد كبير في كسر الرتابة واستحضار تأثيره السحري. وفيما كانت أصوات المعجبين بسلامة حجازي تتسلل إلى أذنيه، اضطر سيد درويش إلى إثبات نفسه، بقوة ألحانه وحسّ الفن الفريد. الانتصار لم يأتِ باليسر المطلوب، ولكن في عام 1917، ارتفعت الألحان الساحرة لسيد درويش مجدداً. فتلقاه سلامة حجازي بابتسامة راضية، حيث طلب منه تلحين رواية كاملة لفرقته، فيروز شاه. وفي هذه اللحظة، انفتحت قلوب الجماهير على مصراعيها لتستقبل الفنان النابغة وموهبته الاستثنائية.


سيد درويش، بسحره وعبقريته الموسيقية، لم يكن فقط ملحنًا، بل أصبح رمز للابتكار والتفرد في عالم الموسيقى المصرية. بألحانه الرائعة، وإبداعه الفني، ترك بصمته اللامحدودة في مسيرة الفن العربي الكلاسيكي. في كواليس الفن العربي، تألق سيد درويش كنجم متعدد المواهب، حيث لم يقتصر إبداعه على مجال الموسيقى وحسن الأداء الغنائي، بل توسعت أواصر إبداعه لتشمل ميادين فنية متنوعة، مثل التمثيل والأوبرا العربية.
كان لسيد درويش إسهامات متميزة في تحويل وجه الموسيقى العربية، والذي لم يقتصر أثره على هذا النطاق فحسب، بل تجاوز الحدود إلى ميادين فنية أخرى. استحضر لنا فنانًا شاملاً، أضفى على مسيرته الفنية طابعًا خاصًا، حيث اندمج فن التلحين في لوحات فنية متعددة. أرسى سيد درويش أسسًا جديدة في عالم الموسيقى العربية، حيث أطلق العنان للألحان والنغمات التي ألهمت الأجيال. أهّل سيد درويش لنفسه مكانة لامعة في قلوب عشاق الفن العربي، وكتب فصلاً لامعاً في تاريخ الموسيقى العربية، ترجم فيه تنوعه الفني إلى مجد يتوارثه الأجيال.
في مهدها، كانت الموسيقى المصرية تعزف نشيد الطرب فقط، ولكن مع ظهور سيد درويش على خشبة الفن، انفتحت أبواب الإبداع بشكل جديد وأخذت الموسيقى تتحدث لغة أعمق وأوسع. كان هدف الشيخ سيد في هذا الميدان الفني العظيم أكثر من مجرد إحياء ألحان الطرب، بل كان يسعى إلى تحويلها إلى رسالة أكبر وأعظم. أحد الأهداف الرئيسية التي جعلت سيد درويش يتلاعب بأوتار الموسيقى بإتقان كانت الاستخدام الفعّال لهذا الفن العظيم في خدمة الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي. كان يروج لفكرة أن الموسيقى يمكن أن تكون أداة فعّالة في تحفيز الوعي وتشكيل التفاعل الاجتماعي والسياسي. تحوّلت المقامات واللحن الذي كانت تحمل في طياتها أوجاع الحياة إلى نداء وطني يلامس قلوب السامعين.
وأصبح درويش الإسكندرية صوت الشعب والمعبر عنه، ولسان حاله ،أصبح "فنان الشعب". 
وكما تنبعث الحياة في هذا الطابع الفني الفريد، فقد استمر النشيد الوطني المصري والذي لحنه في بدايات القرن العشرين في الاحتفاظ بمكانته كرمز وطني. إنه يحمل في تلحينه بصمة الشيخ سيد درويش الفذة، التي استمرت في الإلهام والفخر للمصريين على مر العقود.
"بلادي بلادي بلادي  لكِ حبي وفؤادي".