الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. محمد بشاري يكتب: الفلسفة.. نجاح من قلب الفشل

د. محمد بشاري - أمين
د. محمد بشاري - أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

هل يصح نقد العقل للدين

إن الإجابة على التساؤلات الدائرة حول كل من الدين والعقل، والتعامل معها كجدلية لا يمكن بنائه دون الأخذ بعين الاعتبار الموقف الإنساني الأصيل من المادية والمنهج الذي يعتمد على التجريب المطلق، وفي ذات الوقت النظر لمكنون وماهية الروح في عقل ووجدان الباحث في القضايا ذات الصلة. ولكن في ذات الوقت، لا بد لنا من توفير "روح النقد" السليم، من خلال الانطلاق من أرضية غير زائفة، وذلك يكون بالتأكد من سلامة كليهما، فنقد العقل للدين إذا كان العقل غير متزن لن تصح رؤيته، وإن كان متزناً ولكن الدين مشوب بضبابية أو اجتزاء أو تطويع، فلا يمكن الاعتداد بالرأي النقدي الناتج ولا اعتباره ناضجاً إلا على العينة التي تناولها. ومن ناحية ثانية، فإن النقد حتى يرتقى بأهدافه للتقييم المفضي للتقويم لا بد أن ينطلق من خلفية موضوعية نقية من الايدولوجيات، وخالية من السعي لإثبات رأي يسبق التدارس والإمعان، وبالتالي فإن النقد الفلسفي والعقلي للدين لا يصح إلا بشروط ومحددات تضمن سلامته من المآزق الفكرية.

الثمار الفلسفية:  من ... إلى!
وبصورة أكبر وأكثر عمقاً، فإن البيئة التي تحتضن العملية الفلسفية، جديرة بالوضع بعين الاعتبار في سياق معاينة الحصاد الفكري والاستفادة منه، إذ تشكل الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية مؤثراً قوياً ومباشراً فيما يرد تالياً لها، وهذا لا يعد البتة من باب الغلو والتصعيب والتعقيد، فكم من مبدع ومفكر وفيلسوف ورجل دين أحيلت أفكاره للزوال مر التاريخ وامتداده؟ وكم من عالم صاحب حق وعلم وافر آمن به الناس بعد نفيه وفنائه؟ وكم من نظرية نطبق حذافيرها في واقعنا بعد أن هجرت على الرفوف حتى أثقلت بغبار الإهمال والتقليل؟ وفي سياقنا الذي يتناول التفكير النقدي العقلي للدين، يشار للفيلسوف الكبير إيمانويل كانط مؤلف كتاب: (الدين في حدود مجرد العقل)، الذي اضطر للاعتذار عن انتاجه الفلسفي حين اصطدم مع سمفونية الوجود السياسي والثقافي في بلده، سيما في ظل حكم الكنيسة وسطوتها البارزة،  محدثاً ضجة دعت للتراجع عن الاستمرار في حقل التفكير المعمق في مجال الدين، رغم أنه لم ينفصل عن زمانه الذي نعت حينها ب"عصر التنوير" المعروف باستناده وبكل ما أوتي من قوة على العقل، الذي أخذ به حينها "مرجعية سامية" على ما سواها، الأمر الذي فسر شيوع "عقيدة العقل" دون الرغبة بالالتفاف حول الدين الذي اقتصر حينها على اعتباره "دين طبيعي" لا أكثر.

وفي الالتفات للإنتاج الفلسفي والنقدي الكانطي، نجد ملامح التأثر الواضحة في "الكوكبة البيئية" له، إذ تبدو فلسفته متشبعة بتأثير بدا جله قبل وأثناء وبعد فترة حياته، وما فيها من تفاصيل حروب دينية، وطائفية، ونزاعات، وغيرها. الأمر الذي يبدو واضحاً في تكوينه النفسي والفكري عند تتبع مؤلفاته التي ضمت جميعها انعكاسات هذا التأثر. ومن ناحية أخرى فإن هذا الطرح، سواءاً أعلق بكانط أو غيره، لا يعني التسليم لكل ما ينجبه العقل البشري لمجرد ارتفاع مقام منتجه سواء أكان علمي أو فلسفي أو ديني، أو غيره، فهنا ندخل في شروحات وفحوى القداسة التي نحن لسنا بصدد الحديث عنها، ولكن المؤكد أن المقصود هو التأني في الأخذ أو الرفض، وليس غير ذلك، وبخاصة في ضوء الاستفادة القصوى من العديد من التجارب الإنسانية "الفاشلة" بمعنى أن الفشل لا يعني انتهاء الصلاحية، بل يعني خبرة جديدة لصاحبها، وخبرة مجانية لمن يعيد قراءتها مستفيداً منها، باعتبارها نقاط تنبيه ونوافذ جديدة على أفق لم تكن واضحة من قبل.