الإسلام يقطع يد السارق ولا يبترها

أمرنا الله بتدبر آيات القرآن وليس قراءتها فقط ، لأننا بالتدبر نجدها تفسر بعضها بعضا فى انسجام وتكامل يتفقا مع العقل والرحمة والإنسانية ومنفعة البشر، فالقرآن ليس نصاً بشريًا عادياً يمكن تفسيره تفسيراً نصياً حرفياً كما هو الحال عند قراءة جريدة أو كتاب، بل أن بعض الكتب والنصوص البشرية تحتاج لتفكر وتدبر لتفسيرها وفهمها فهماً صحيحاً، فما بالك بكلام رب العالمين؟
وللقرآن الكريم مناهج عديدة ورؤى مختلفة في تفسيره، أئمة مختلفون قدموا تفسيرات مختلفة لنفس الآيات، وكان في هذا الخلاف رحمة لنا بالطبع، ومتنفس فقهي وإفتائي، فلا تفسير محدد يجب أن نلتزم به هو فقط، لأن التفسير هو قول بشر ليس بمعصوم، وجاء مما جاء في تفسيرات القرآن منهج التفسير اللفظي، ولا أدري حقيقة لما نسميه تفسيراً إذا كان كل ما يقدمه هو قراءة القرآن فقط! فنستطيع نحن أن نقرأه دونما الحاجة لأى مفكّر أو مفسّر، فلا إبحار في المعاني والمقاصد، ولا تفكر أو تدبر وهما اللذان لا ينفك القرآن يأمر بهما، ولا بحث عن الربط والانسجام بين آيات القرآن وسوره ككتاب واحد لا تناقض فيه، ثم لمَ يأمرنا الله بتدبر نص إذا كان هذا النص واضحاً تمام الوضوح في نصه الحرفي اللفظي؟! ...
التفسير الحرفي منهج تبنته المدارس الوهابية السلفية فقط، وتستطيع أن ترى ما وصلت إليه تلك المدارس نتيجة التفسير الحرفي، ومهما بلغ مدى انتشار التفسير الحرفي لآية ما، فهذا لا يعنى صحته، فالانتشار لا يعني الصحة، فهناك ما يربو على مليار هندوسي حول العالم، فهل هذا يعني صحة الديانة الهندوسية؟ كما أن هناك 300 مليون بوذي مع أن وجود بوذا نفسه كشخص أمر مشكوك في صحته تاريخياً!
إن النص القرآني مقدس لكن تفسيره من قبل أحد الشيوخ ليس مقدساً، وما قطع يد السارق (بفصلها نهائيا) إلا أحد تلك التفسيرات اللفظية المتوارثة لقوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم).. ولنبحر فى تفسير تلك الآية العظيمة ونتدبرها، مستعينين بالقرآن الكريم نفسه وليس بغيره .. فما معنى كلمة القطع التى ذكرها القرآن؟ إن كلمة القطع عموماً لها معنيين: قطع مادي بمعنى البتر والفصل، وقطع معنوي بمعنى المنع والإبعاد والعزل والتعطيل والإيقاف.. وقد ورد ذكر القطع "بنفس اللفظ" في مواضع أخرى كثيرة في القرآن الحكيم بمعانٍ تتنافى تماما مع البتر، فقد قال سبحانه: [ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار] البقرة 27.. المقصود قطع معنوي يعنى المنع والتوقف عن أداء شيئ ما..
وقوله تعالى [قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون] النمل 32.. قطع معنوي أيضا بمعنى الحسم، وأيضا قول الله تعالى: [ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجيزهم الله أحسن ما كانوا يعملون] التوبة121 .. أيضا قطع معنوي بمعنى التجاوز.. .. وقوله تعالى (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) محمد 22.. قطع معنوى بمعنى الهجر والبعد .. حتى حينما ذكر الله تعالى الكافرين وتوعدهم بالقطع، كان قطعاً معنوياً بحتاً، [وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين] أى يوقف تمددهم ويهزمهم..
وقوله [أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين] العنكبوت 29.. حتى قطع الطريق على المسافرين الذى هو توقيفهم وسرقتهم وعدم إكمال رحلتهم بسلام هو قطع معنوي معناه التعطيل والمنع والمقاطعة، وليس قطع الطريق بشقه إلى نصفين، هذا هو المقصود بقطع يد السارق، هو قطع معنوي، أن تمنعه وتعطله وتعزله وتكف يديه عن السرقة وتشل فاعليتها لتحمي المجتمع من سرقته، طبقا لما يشرعه المجتمع والقانون ويكون مناسباً للزمان والمكان، كأمين المخزن مثلا فينقل من هذا العمل إن كان يسرق من مخزنه، أو ربما يُفصل منه، وربما يكون قطع يده بسجنه مثلا، أو رجل أعمال يستخدم نفوذه فتُسن له القوانين التى تمنعه من الإحتكار أو السرقة المقنعة، فبهذا أنت قطعت يديه (وليست يد واحدة) عن السرقة وحميت أموال الناس، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) أى احموا الناس من أياديهم التى تمتد إلى أموال المجتمع وأملاكه، وهو تعبير نستخدمه نحن في لغتنا اليومية للتعبير عن رغبتنا في تحجيم قدرة شخص على فعل شيء ما، فنحن دوماً نود قطع الأيادي التى تمتد داخل الوطن لتثير الفتن وتشعل الأزمات، كما أن شخص مبتور اليدين يستطيع أن يسرق بنفوذه وسلطته، فماذا سنقطع له حينها؟ ألن يصبح عقابه حينها هو القطع المعنوي؟ أن اليد عموماً تعني المقدرة، يد الله مع الجماعة.
ومستعين بآراء كبار معلمي اللغة العربية أقول: إذا كان التفسير الشهير بقطع اليد اليمنى هو الصحيح، فلماذا جاءت الآية الكريمة "فاقطعوا أيديهما" ؟ أيديهما تعني كلتا اليدين (اليمنى واليسرى) وان كان المقصود يد واحدة لكان قال (فاقطعوا يدهما) فهل يحتوى القرآن على خطأ لغوي "حاشا لله"؟ أم أن التفسير بقطع اليد وبترها وتحويل السارق لصاحب عار وفضيحة هو الخاطئ؟؟ القطع المعنوي هو الذي يحقق أمر القرآن أن تقطع كلتا يديه وتشل قدرته على السرقة، فاليد هنا تعنى المقدرة وليست اليد ذات الخمسة أصابع، فهل سيمنع البتر "بفصل كف اليد اليمنى" رجل أعمال من ناهبي أوطانهم من السرقة المعتادة والفساد؟ وهو حتى في الآية ( وقطّعن أيديهن ) للنساء اللاتي رأين جمال سيدنا يوسف تعني أنهن جرحن أيديهن دون أن يشعرن "فقطّعن" بتشديد الطاء وليس "فقطعن" بمعنى بترها وفصلها عن الجسد، ولم ترد كلمة البتر في القرآن الكريم، كما لم يرد لفظ القطع فى القرآن الكريم كرديف للبتر المادي أبداً ولا مرة واحدة!
القطع "المادي" يحول كل سارق إلى إنسان عاجز صاحب عاهة، فتتحول المشكلة من مشكلة فردية إلى مشكلة اجتماعية، كما سيصبح السارق مصدر عار وخزي لكل أفراد أسِرته – ما ذنبهم؟- فماذا جنت أخته المتدينة حتى يتركها خطيبها فور رؤية يد أخيها السارق؟ كما أن باب التوبة مغلق تماما أمام من قطعت يده "بترت"، فالمجتمع لن يغفر له ما غفره الله بتفيذ تلك العقوبة، وقلما يوافق أحد على توظيفه! وماذا لو تبين براءة شخص بعد بتر يده؟ ثم إن هذا الحد لم يطبقه الرسول خلال 23 عاما، ألم يوجد سارق واحد في الدولة التى امتدت أمصار عديدة وفترة زمنية مديدة؟ وإذا أخبرتني أن هذا الحد سيمنع السرقة، سأخبرك عن مجتمعات لا تنفذه ومعدل الجريمة بها "صفر" مثل استراليا والسويد وفنلندا، كما تقترب الإمارات من هذا الصفر، فهل هذه الدول تقطع يد السارق؟ وإذا ما قورنت بالدول التى تطبق هذا الحد المزعوم مثل "الصومال- موريتانيا- أفغانستان- داعش العراق وسوريا" فهل يمكن اعتبار هذه الدول الأخيرة أي شيء إلا الفشل ذاته؟ هل العقاب الجسدي العنيف هو الحل لبناء المجتمعات؟ بإمكاننا تشريع قانون يعاقب بقتل أى مواطن يلقى بالقمامة أرضاّ، لكني فوراً سأخبرك أن معظم دول العالم نظيفة الآن ولا يلقى مواطنوها القمامة أرضاً، ولا يوجد لديهم قانون القتل هذا، فهل صحيح أن العقاب المادي الجسدي يصنع مجتمعاً صالحاً؟ أليست المدارس الخاصة واللغات التى لا تضرب طلابها تحقق نتائج أعلى من المدارس التى تسمح بذلك؟
العقوبة ما هي إلا حماية للمجتمع وليست انتقاماً من الجاني، فالله لا يحمل ما نحمله نحن بداخلنا من سادية وغل وغضب، ولا يشرِّع شيئاً إلا لحكمة ومنفعة، هذه هي أحكام الدين التي تتفق مع العقل والموضوعية والإنسانية وبناء المجتمعات، وتذكر عزيزي القارئ لماذا لم يقل الله "فأقطعوا يدهما"؟
الله من وراء القصد.. وأسأله أن يتقبل عملي ..