مساء القمح.. "إحنا جينا نغني للناس.. غنينا عليهم"

"إحنا جينا نغني للناس، غنينا عليهم يا حليم".. جملة قالها الراحل صلاح جاهين عقب نكسة 67 للراحل عبد الحليم حافظ، بعد سلسلة من الأغاني الوطنية التي تمدح القومية العربية والوطن العربي والقوة العربية إلى أن اختبر الواقع حقيقة تلك الأغاني فما كانت سوى أغاني وطنية مثيرة للمشاعر وتحرك الأحاسيس نحو حب الوطن لا تعبر عن الواقع في شئ.
وهكذا اختبر واقعنا المعاصر بيانات صحفية عديدة أصدرها مسئولين في الحكومة قبل بدء موسم توريد القمح - منتصف أبريل الماضي - ليكتشف الفلاح الفقير والمواطن الآمل في التغيير أن تصريحات المسئولين في الحكومة لا تختلف كثيرا عن الأغاني الوطنية، فبعد سيل من التصريحات من جانب وزارة التموين بزيادة السعة التخزينية للصوامع وتحويل 105 شون إلى حديثة ومتطورة والانتهاء من إنشاء 17 صومعة جديدة من أصل مشروع يهدف إلى بناء 60 صومعة جديدة، والإعلان عن تأهب واستعداد الحكومة لاستلام القمح المحلي من المزارعين، فوجئ الجميع بتكدس سيارات الأقماح أمام الصوامع والشون وسط تأخر الاستلام أو الرفض التام لاستلام قمح محلي في الوقت التي تذهب فيه مصر لاستيراد نحو 70% من احتياجها من الأقماح من الأسواق العالمية لسد الفجوة بين حجم الإنتاج والاستهلاك.
ووسط تبادل الاتهامات بين وزارتي التموين والزراعة واللوم المتبادل حول أسباب تكدس شحنات القمح في الشارع أمام الصوامع والشون وتأخر ورفض استلام الصوامع تنكشف حقيقة بيانات المسئولين المنفصلة عن الواقع، والتي لا تعدو كلمات طيبة تخدر الآم الوطن والمواطنين حتى يختبرها الواقع فينكشف عدم جدواها.
وكإجراء سريع لاحتواء الأزمة اتخذت وزارة التموين عدة قرارات مثل إلغاء استلام القمح وفقا للحيازة وتشكيل لجنة استلام تتضمن الموردين خارج كشوف الحصر واللجوء للشون الترابية بالمحافظات، وفي الوقت التي تظهر فيه تلك القرارات كحلول لاحتواء الأزمة الحالية إلا أنها تناقض ما قبلها من قرارات التطوير والتحديث وزيادة السعة التخزينية وتفويت الفرصة على الفاسدين في خلط القمح المستورد بالمحلي لتوريده لهيئة السلع التموينية.
ورغم اتخاذ رئيس الوزراء قرارات عاجلة بتشكيل غرفة عمليات دائمة لتقديم التسهيلات لعمليات التوريد وتخصيص مليار جنيه لصالح الموردين لحقها ملياران أخران، مخصصة لسداد قيمة القمح المورد، إلا أن تعدد الجهات المعنية بالاستلام والجهات المعنية بصرف المستحقات وضبابية الموقف منذ بدايته، حالت بين تلك القرارات وحل الأزمة لا سيما مع استمرار شكاوى المزارعين والموردين من تكدس السيارات أمام الصوامع والشون في الشارع وتخبط المزارع بين تضارب القرارات وتعدد الجهات والبيروقراطة المتأصلة في نسيج الجهاز الإداري المصري.
وتتوقع وزارة التموين شراء 4 ملايين طن من القمح المحلي في الموسم الحالي، بسعر ثابت 420 جنيها للأردب، مقابل أكثر من 5 ملايين طن خلال موسم حصاد العام الماضي بنفس السعر، ولعل تراجع كمية الاستلام المتوقعة خلال موسم التوريد الحالي ليس بسبب انحصار زراعة الأقماح في مصر إلا أنه كان أملا في التصدي لفساد بعض الموردين بخلط أنواع رديئة من القمح المستورد بالمحلي وتسليمه للهيئة العامة للسلع التموينية والاستفادة من دعم الحكومة للقمح المحلي بسعر أعلى من المستورد وتحقيق الأرباح من قوت المواطن الفقير ومن المتوقع بشكل كبير أن يجد الفاسدون فرصتهم وسط هذا التضارب والتخبط وانشغال المسئولين بتبادل الاتهامات في تنفيذ عملياتهم الفاسدة وتحقيق الأرباح على حساب المواطن الذي يتابع تصريحات المسئولين مستبشرا بها خيرا دون جدوى.
لذا أيها القارئ وجب التنويه أني كمحرر صحفي نشرت بإسمي بيانات عديدة وطنية حول تحديث وتطوير منظومة استلام القمح ومارست هوايتي في بث الأمل في قلوب المحتاجين إليه، ولكن بعد مكاشفة الواقع لي ولك بحقيقة ماجرى خلال موسم توريد القمح واللجوء لشون ترابية تهد المال العام وفشل كشوف الحصر في الكشف بين القمح المحلي والمستورد، أقر أني كنت أغني عليك لا إليك، تحياتي.