خطة عزل ترامب

يواصل الرئيس ترامب ممارسة صلاحياته الرئاسية بإصدار أوامره التفيذية غير المدروسة بما فيه الكفاية، ولعل أسوأها كان قرار حظر السفر الى الولايات المتحدة على مواطني سبع دول عربية واسلامية، والذي أمر بتنفيذه بشكل فوري، لاغيا مفاعيل التأشيرات التي صدرت لبعضهم قبل صدور القرار.
ويعجز الكثيرون عن تفهم الأسباب الكامنة وراء تسرع ترامب بإصدار سلسلة من القرارات التنفيذية خلال أسبوع واحد، فكأنه يتصرف كالطفل الفرح بلعبة حصل عليها ولم يكن قد توقع الحصول عليها، فهو يوقع أمرا تنفيذيا بعد الآخر دون دراسة أو تأنٍ وخلال أسبوع واحد من رئاسته، ربما ليؤكد لنفسه بأنه لم يعد حالما، بل أصبح فعلا رئيسا للولايات المتحدة، وهو لذلك فرح الآن ويسعى لممارسة السلطات التي وفرها له ذاك المنصب، وبالتالي يصدر أمرا تنفيذيا تلو الآخر دون دراسة كافية.
واضطر فعلا إزاء المظاهرات المعترضة، بل وصدور احكام قضائية بعدم الالتزام بذاك الأمر التنفيذي، اضافة الى قيام وزيرة العدل (المدعية العامة التي تم الآن عزلها) بإصدار أوامرها الى رجال الأمن بعدم تنفيذ القانون لوجود اشتباه بأنه يخالف القانون، والمقصود القانون الدستوري.
وقد اضطر ترامب الذي يفتقر للخبرة السياسية والدراية القانونية، للتراجع فعلا عن جزء من أمره التنفيذي ليقول بأنه لا يشمل الحاصلين على "الجرين كارد" كما نص الامر التنفيذي لدى صدوره.
والواقع أن المخاوف من طموح دونالد ترامب قد اخذت في التنامي بين صفوف الحزبين، على ضوء تسرعه وهوجته وما يكشف عنه من طموح كبير يدفعه للتطلع لا لأن يكون مجرد رئيس، ورئيس لدورة واحدة، بل رئيس لدورتين كما قال علنا في أحد خطاباته، مؤكدا بأنه باق لثماني سنوات. وكشف عن طموحه، خطابه اللاهب في يوم تدشينه رئيسا، وما تبعه من سلوك لاحق للتدشين تمثل بسلسلة من الأوامر التنفيذية الملهوفة، معتقدا بأنه عبرها سيصبح فعلا في مرحلة ما قائدا أو زعيما أمريكيا اقتداء بجورج واشنطن واضع الدستور الامريكي ومحقق الاستقلال للولايات المتحدة، وبإبراهام لينكولن الذي ألغى العبودية وخاض حربا اهلية ضد الجنوبيين الرافضين لقراره، اضافة للرغبة الأمريكية في الحفاظ على مبادئ المساواة السامية بين السود والبيض من الامريكيين. فهو، أي ترامب، يريد أن يدخل باب التاريخ الأمريكي كما دخلها واشنطن ولينكولن.
ولا يعلم أحد بعدد الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب خلال أسبوع واحد من رئاسته. فإضافة الى قرار منع اللجوء واستقبال المهاجرين أو الزائرين من سبع بلدان اسلامية، واضافة لأمره التنفيذي المثير للجدل والخاص ببناء الجدار العازل على امتداد الحدود مع المكسيك، أصدر سلسلة من الأوامر التنفيذية التي قضت بإلغاء قرارات سابقة صدرت في عهد الرئيس اوباما ؛وقد يتعذر تفهم اصراره على إحباط وتجميد أو إلغاء عدد كبير من المشاريع والاتفاقيات التي أقرها سلفه الرئيس أوباما خصوصا في السنتين السابقتين على انتهاء رئاسته. فعددها كبير ويصعب تفهم الدوافع الكامنة وراءها الا على ضوء خطابات ترامب الانتخابية المتوجهة نحو تشجيع العنصرية.
وجاءت الشعارات الغريبة التي رفعها ترامب في خطاب تدشينه رئيسا، ومنها قوله بأن أمريكا أولا، وامريكا قبل كل شيء، مذ كرة بشعارات هتلر النازية في ثلاثينيات القرن الماضي، لتقرع أجراس الانذار حول توجهات هذا الشخص الحقيقية. فالمصلحة الأمريكية تتقدم على كل مصلحة أخرى لدى تعارضها مع المصلحة الأمريكية. ورغبة منه في انعاش الاقتصاد الأمريكي، واعادة تشغيل المصانع التي أغلقت كخطوة لتشغيل اليد العاملة، بدأ يضع قيودا على تصنيع البضاعة الأمريكية في الخارج من باب الاستفادة من اليد العاملة الرخيصة، مطالبا بعودة الانتاج الى كل المصانع الأمريكية وحفاظا على إنفاق المال بدون مبرر، شرع يظهر تململا من حلف شمال الاطلسي ومن التفاهمات العسكرية التي تقدم الحماية بدون مقابل كما يعتقد، للدول الاوروبية بل ولدول الخليج أيضا.
وربما لم يكن مبتعدا كثيرا عن الصواب في بعض خطواته هذه، لولا ما طرحه لاحقا هذا الرئيس الغامض المتناقض أحيانا في سلوكه وتصريحاته، كشعاره الثاني بقوله إنه سيرد السلطة ...لكم للشعب، وهي "السلطة التي سرقها منكم ساسة واشنطن".
فهنا تجلى بعض الغموض في تلك الشخصية. فهذا الرجل الذي تحدى في ترشحه للرئاسة الكثير معارضيه، بمن فيهم معارضوه من قيادات الحزب الجمهوري الذي ينتمي رسميا إليه، يعلن الآن الحرب ولو بشكل مستتر على كل خصومه في الحزب الجمهوري، قبل خصومه في الحزب الديمقراطي الذين سعوا للحيلولة دون وصوله الى السلطة.
وهذا أخطر ما في توجهات الرئيس ترامب الغامضة والتي قد تنعكس لاحقا على الديمقراطية وعلى الوضع الداخلي في أمريكا، فقوله بأنه سيسترد السلطة من سادة واشنطن ليعيدها للشعب الأمريكي (والأرجح أن المقصود به الشعب الأمريكي الأبيض) يكشف عن بعض المستور في نواياه الغامضة. فالسلطة في واشنطن، في دولة المؤسسات الأمريكية، وفي دولة فيها ستة عشر جهازا أمنيا، وفيها مراكز قوى متعددة، هي غالبا ما تكون موزعة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. اذ غالبا ما يكون أحدهما في الموقع التنفيذي، والآخر في الموقع التشريعي والرقابي، حيث نادرا ما ينفرد حزب واحد بالسلطتين معا، وان انفرد بهما، فليس لفترة طويلة...
لكن الرئيس ترامب الذي يدرك بأنه لبلوغ مركز القيادة، لا ينبغي الاكتفاء بالوصول الى موقع الرئاسة. فموقع الرئاسة يصنع رؤساء فحسب لكن ليس زعماء وقياديين. فما يصنع القادة، خوضهم حروبا ينتصرون فيها.
فجورج واشنطن قد قاد حربا من أجل الاستقلال والتخلص من الهيمنة البريطانية والاسبانية والبرتغالية والفرنسية الذين شكلوا العنصر المستعمر للأراضي الأمريكية، ولينكولن خاض حربا لتوحيد الولايات المتحدة التي مزقتها الحرب الأهلية. وهو لذلك( أي ترامب) سيبحث الآن عن حرب ما يخوضها، وقد تكون الحرب ضد الارهاب بأقوى وأعنف صورها، صورة من صور تلك الحرب، لكن حربه في الداخل الأمريكي ضد من يسميهم بسادة واشنطن، هي الحرب الأكثر جدوى لتكريسه قائدا وزعيما.
ومن هنا بات البعض يشكك بأن ترامب قد يصبح فعلا "يلتسين" الولايات المتحدة، وسوف تقود تصرفاته غير المدروسة، الى انسحاب بعض الولايات من الاتحاد الأمريكي، علما بأن ولاية كاليفورنيا، أكبر الولايات الأمريكية وأغناها، قد قررت فعلا طرح مشروع الانفصال عن الاتحاد في استفتاء شعبي يجرى في 2019.
وهناك احاديث تدور همسا في أروقة واشنطن تفيد بعدم رضاء الحزب الجمهوري عن قرار ترامب الخاص باللاجئين من دول اسلامية، وأن القرار قد اتخذ دون استشارة أي من المعنيين والقانونيين في الحزب. وتتسع الهمسات لتشمل مواقع أخرى في واشنطن تكشف عن غضب كبير على قرارات الرئيس الجديد. ويتوقع الكثيرون انتشارها وتناميها السريع، بحيث لا يتمكن ترامب من البقاء رئيسا للمدة التي يتمناها ولو لدورة رئاسية واحدة، اذ ستجري مساع لإبعاده عن موقع الرئاسة في مدة زمنية قد لا تطول كثيرا.
ولكن الابعاد عنها بسبب الخطر الذي بات يشكله على الديمقراطية ومفاهيمها، لن يكون بالأسلوب العنيف الذي اتبع باغتيال الرئيس جون كنيدي عام 1963 ، بل بنهج توجيه الاتهام له ، اي بنهج الـــ Empeachment أمام الكونجرس بمجلسيه، ليقرر عزله بأصوات قد تتجاوز ثلثي أعضاء المجلس، نظرا لتصاعد الاستياء منه ومن قرارته المستعجلة دائما، وهو استياء في صفوف الجمهوريين كما هو في صفوف الديمقراطيين، الذين بات يجمع بينهما مخاوفهما أيضا من الطموح الخطر لدى دونالد ترامب؛ وهذا اذا تحقق، سيؤدي الى صعود نائبه "مايكل بنس" الى مقعد الرئاسة، علما بأن بنس يلقى رضاء أوسع من أعضاء الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه ترامب ايضا ولو رسميا أو شكليا، لكنه يتصرف انفراديا دون الرجوع الى قيادته أو استشارتها، مما يقود البلد من هزة الى أخرى بعد أسبوع واحد من جلوسه على مقعد الرئاسة.