أوهام نتنياهو

العديد من الكتاب والمفكرين، طالما حذروا بأن استخدام المدافع والقوة النارية والإغارات الجوية على داعش وعلى مصادر الإرهاب الأخرى، ربما يساعد على تحجيمها، مع احتمال استئصالها لبعض الوقت، لكنه لن يؤدي إلى وفاتها، لكونها نشاطا يمثل فكرا، والفكر لا يقاتل بالقوة النارية فحسب، بل بالفكر المقابل.
والفكر المقابل في هذه الحالة، قد يكون فكرا دينيا منفتحا بالصورة التي تعودنا فيها عليه على مدى أجيال سبقت ظهور الإرهاب والإرهابيين، عندما عرفنا الدين الإسلامي الحقيقي، كدين سمح منفتح عادل يحترم الآخر ومقدساته. كما قد يكون فكرا قوميا عربيا عروبيا، وقد يكون أيضا فكرا علميا علمانيا يساريا يطيح بالفكر الوهابي أو يواجهه، محاولا تهذيب بعض تشدده وتطرفه.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للفكر الإرهابي، فان الأمر لم يختلف كثيرا عن الفكر الصهيوني الذي يزداد تشدددا يوما بعد آخر، ولن يواجهه إلا فكر مقابل هو الفكر الفلسطيني الذي لن يذوى ولن يذوب مهما طال الزمن، ومهما سعى وفعل نتنياهو وزبانيته من قضم لأراضي الضفة الغربية عبر بناء المستوطنات، أو من خلال إلغاء مشروع الدولتين المتبنى دوليا منذ العديد من السنوات، كما لن يلغيه كل الرصاص الذي يطلق على صدور شباب وصبايا فلسطين بذريعة الاشتباه بحملهم خنجرا يسعى لقتل جندي إسرائيلي.
وينتعش الفكر الفلسطيني يوما بعد آخر، دون أن يستطيع نتنياهو اغتياله واجتثاثه مهما طال الزمن أو أمعنت القضية الفلسطينية في شيخوختها، ويزداد تألقا وحيويا يوما تلو الآخر، خصوصا في مناسبات الانتصارات الفلسطينية التي هلل لها الفلسطينيون والعرب معا، وإن كانت من نوعية الانتصار الرمزي كالذي تحقق ليلة 24 فبراير، عندما فاز الفلسطيني ابن بيت لحم يعقوب شاهين على لقب Arab Idol، إذ بادر الكثير من العرب من المحيط إلى الخليج (وليس الفلسطينيين وحدهم)، للتصويت لمصلحة يعقوب شاهين رغم اختلاف وتفاوت مواقف دول بعضهم من حيث مدى التأييد أو التحفظ بل والضجر من القضية الفلسطينية، وكانت قد تكررت صورة مشابهة قبل عامين أو ثلاثة، عندما فاز باللقب الفلسطيني (من غزة) محمد عساف.
والمناسبات التي تشعل الحماس بالفكر الفلسطيني وتبعث فيه الحياة والحيوية، تزداد يوما بعد آخر رغم كل المناورات الإسرائيلية لتحجيم مفاعيلها، ومنها اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحدة بفلسطين كدولة عضو بصفة مراقب، وما تبعها من اعتراف عدة دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، ثم انضمام فلسطين إلى اليونسكو، وبعدها لمحكمة الجنايات الدولية وغيرها من الإنجازات الهامة المشابهة. وهناك مناداة الآن لدى دول أخرى للاعتراف بفلسطين كدولة، نكاية بالمساعي الإسرائيلية المعززة أمريكيا للتخلي عن مشروع الدولتين المبارك دوليا، فهناك مناداة من عدة أعضاء في مجلس العموم ومجلس اللوردات البريطاني للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومثلها في دول أوروبية أخرى كفرنسا التي بات عدة سياسيين فيها يحثون الرئيس أولاند على إعلان اعتراف فرنسا بالدولة الفلسطينية قبل انتهاء ولايته بعد بضعة شهور.
وهكذا يخطئ نتانياهو إذا اعتقد أن قضم أراضي الضفة الغربية أو إلغاء مشروع الدولتين.. وما سبقهما من استدراج إلى اتفاق سلام زائف هو اتفاق أوسلو الذي لم يأت بالسلام للفلسطينيين، بل وضع السلطة الفلسطينية في مرحلة الأسر والقيود الكثيفة على تحركهم وقدراتهم في حرية القرار والتصرف كي لا نقول التسلح أيضا.. يخطئ نتانياهو إذا ظن أن هذا كله سيحل المعضلة الفلسطينية ويذيبها في غياهب المجهول، لأنها ستظل حية في منهاج تفكير وعقيدة أكثر من عشرين مليون فلسطيني منتشرين في بقاع الكرة الأرضية من أمريكا لكندا واستراليا واوروبا، إضافة إلى عدة دول عربية. وكلهم يدرسون أبناءهم عن فلسطين وحق الفلسطينيين في أرضهم، والعودة لبلادهم.
وإذا كان اليهود قد ظلوا على مدى ألفي عام يرفعون الأنخاب في كل "يوم كيبور" ليقرعوا الكؤوس قائلين: "العام القادم في أورشليم"، إلى أن وصلوا إلى أوروشليم، فإن عرب فلسطين لن يقرعوا الأنخاب، لكنهم سيظلون يذكرون ويتذاكرون عن فلسطين، مهما طال الزمان، فالكرمل فينا، ولا تسقطوا غصن الزيتون من يدي، وقهوة أمي، و"عروسة" غسان كنفاني وأدبه الفلسطيني الخالص، وقصائد محمود درويش وسميح القاسم وعبد الرحيم محمود، وفدوى طوقان وناجي علوش ومعين بسيسو وآخرين كثر من جيل جديد متجدد، كلهم يغذون الفكر الفلسطيني ويحرصون على إبقائه حيا ناشطا مزدهرا، فهو فكر لن يموت أبدا، ولن تستطيع كل الرصاصات والمؤامرات الإسرائيلية اغتياله مهما بلغ ذكاء اليهودي الصهيوني، الذي بات يقابله ذكاء فلسطيني متوهج، خدع مرة من قبل الإسرائيليين في عام 1948 عندما دفعوهم إلى الهجرة نتيجة مذبحة دير ياسين وانتهاك أعراض النساء وبقر بطون الحبالى، لكن الفلسطينيين لن يلدغوا من ذات الجحر مرتين.