الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جمهورية مصر الفيدرالية.. لِما لا؟


وسط زحام النشطاء والسياسيين والجهابذه.. وبعد 7 آلاف سنة من المركزية العنيدة، أطرح تساؤلا جاب وطاف في عقلي لسنوات طويلة: لماذا لا تأخذ مصر بالنظام الفيدرالي؟

ألمانيا وكندا وروسيا وفرنسا وبريطانيا والعديد من الدول المتقدمة قد تحولت بالفعل لنظام فيدرالي منذ فترات طويلة ليتم تقسيم البلاد إلى عدة ولايات فيدرالية تُدَار باللامركزية في الادارة والتفويضفي صنع القرار، وبدون أدنى أشك أجزم بتفوق النظام الفيدرالي على منافسيه من النظم الإدارية الأخرى.

تُشيَد أعمدة النظام الفيدرالي على حرية واستقلالية كل ولاية أو محافظة أو مقاطعة فيدرالية لصنع قراراتها الاقتصادية والادارية والاجتماعية والأمنية وحدها مما يجعلها محصنة ضد أمراض المركزية مثل البيروقراطية وغياب الشفافية والمسائلة وفساد المحليات المترهلة.

الدستور المصري: مصر لا رأسمالية ولا اشتراكية!

السياسة الاقتصادية بوصلة الدولة، رغم تاريخها الطويل، خاضت مصر تجارب عديدة من نظم الاقتصاد والسياسة إلا أنها لم تُقلِع قط عن المركزية ولسبعة آلاف سنة تركزت السلطة والقوة في يد الحكومة المركزية بالعاصمة ولم تحدد بوصلتها حتى اليوم.

من النظام الإقطاعي في عهد محمد على باشا وأبناؤه وأحفاده إلى النظام المركزي الاشتراكي المنغلق في عهد عبد الناصر ثم الانفتاح الليبرالي المشروط في عهد السادات ثم الانفتاح الليبرالي الأقل مشروطية في عهد مبارك ومرسي ثم العهد الحالي الذي تغيب فيه مادة (السياسة الاقتصادية) في دستور مصر الأخير، مما يجعل البلاد على نفس الوتيرة الإدارية المركزية والهوية المبهمة للاقتصاد على الرغم من محاولة الرئيس الأسبق مبارك في تحقيق مزيدا من اللامركزية الإدارية بالبلاد إلا أنها باءت بالفشل بسبب الفساد، وغياب الرؤية الاقتصادية والسياسية التي تقود قاطرة الإصلاح في البلاد.

نعم.. لا يعرف المواطن المصري البسيط بلده اشتراكي أم رأسمالي أم يجمع بينهما فيما يسمى بالطريق الثالث كموضة جديدة في السياسة الاقتصادية، التي تعد بوصلة إدارة الدولة، وهو أمر كارثي للغاية ليطرح تساؤلا حول أفق صائغي الدستور الحالي!

لماذا لم يفكر الساسة المصريين في تحويل مصر لدولة فيدرالية!

ولا يعد ضيق الأفق هنا شيئًا غريبًا لأن هناك الكثير والكثير من الأمور والأفكار الإصلاحية التي لم يفكر بها صناع القرار في مصر على الإطلاق.

أراها خطوة عظيمة لتحقيق التنمية الاقتصادية والإصلاح الإداري والسياسي في مصر لأنها ستجعل كل محافظة مسئولة عن تحقيق التنمية والاصلاح باستغلال مواردها الداخلية وجذب الاستثمارات الخارجية دون الاعتماد على موازنة عامة لا تفرق بين مَن يعمل ومَن لا يعمل.

ولا شك أن الاستقلال الفيدرالي يسري في كافة طبقات صنع القرار بالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية لتتمتع كل محافظة بحرية اختيار حاكم مستقل بانتخابات ديموقراطية حرة ووضع الموازنة والخطط التنموية مما يعد دَفعة للديموقراطية بين أبنائها بالإضافة لامتيازات تنفيذية وقضائية وتشريعية أخرى هائلة في ظل الدولة الاتحادية الفيدرالية.

وعلى الرغم من وجود صعوبات في الانتقال إلى الفيدرالية مثل دمج بعض المحافظات معًا وإعادة تخطيط الهياكل الإدارية بكل محافظة أو ولاية ناشئة، إلا أنها لا تزال مشروع يستحق التفكير والدراسة بجدية لأن كل محافظة تحتاج بالفعل لحرية أكبر في الحركة والادارة وصنع القرار، علاوة على تمتع كل منها بميزة فريدة يمكن تنميتها لتكون العمود الفقري لانطلاقها الاقتصادي مثلما حدث في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، التي تخصصت بصناعة الأفلام والتكنولوجيا المكملة لها ويعد وادي السيليكون تجربة فريدة هناك حيث بات مقرًا لمليارات الدولارات التي تُضَخ في قطاع التكنولوجيا وتعد شركة جوجل وياهو أشهرهم.

وبمناسبة الحديث عن فصل وضم المحافظات، لا ننسى أبدًا حجم الفوضى التي شهدتها التجربة المصرية عقب فصل حلوان عن القاهرة والسادس من أكتوبر عن الجيزة ليشكلا محافظتين مستقلتين عام 2008، ثم إعادة ضمهما للقاهرة والجيزة عام 2011 أي بعد 3 سنة فقط من قرار الفصل وهي فترة قليلة جدًا! ولا يشكل هذا التخبط أمرًا فريدًا بالنسبة للحكومات المصرية.

عشرات القرى تائهة بين المحافظات
بعيدًا عن حلوان والسادس من أكتوبر، وبعيدًا عن بدانة الفساد بالمحليات وبعيدًا عن تفشي البيروقراطية، تستوطن عشرات المشاكل الحدودية بين المحافظات كـ "نار تحت الرماد" لتتفجر خلافات تبعية قرى بالكامل لمراكز تقع بين محافظتين متجاورتين، وتعد قرية (العزة) بالكيلو 43 بالطريق الصحراوي نموذج لهذا الحال، حيث لا تزال تائهة بين محافظتي الإسكندرية والبحيرة فمدارسها تتبع مديرية التربية والتعليم بالإسكندرية، أما باقي الخدمات كالمياه والكهرباء تتبع محافظة البحيرة ونصف أبنائها يحملون بطاقة رقم قومي تابعة لمركز أبو المطامير بالبحيرة والنصف الآخر يحمل رقم قومي من قسم العامرية بالإسكندرية، وعند إجراء أي انتخابات كالرئاسية والبرلمانية، أبناء تلك القرية البالغ عددهم نحو 130 ألف نسمة لا يشاركون بها لأنهم ببساطة لا يحملون بطاقات انتخابية مما يعد انتهاكا صارخا للحقوق السياسية المنصوص عليها بالدستور!! إذًا ينتخبون مَن؟! ويرفعون مطالبهم وشكواهم لمَن لإمدادهم بالخدمات كالصرف الصحي والكهرباء!

"قرى البنجر" بين الإسكندرية ومطروح، "نجوع أبيس" بين الإسكندرية والبحيرة، قرية "أبو النجاة" بين الغربية وكفر الشيخ.. وعشرات القرى الأخرى بالجمهورية التي لا تزال متنازع عليها بين محافظتين متجاورتينويقع أغلبهم في منطقة الظهير الصحراوي الذي يعد متنفس للمحافظات المختنقة كالمنوفية والغربية، كما يعد ضم السادات لمحافظة المنوفية عام 1991 بداية الأمل في التوسع العمراني لأبناء تلك المحافظة على سبيل المثال.

وإذا استقيظ صناع القرار بالبلاد يومًا ليدركوا اقتراحي "التحول للنظام الفيدرالي"، لا شك ستلاشي تلك المشاكل، لأن ضم محافظات معًا في محافظة أو ولاية فيدرالية واحدة متنوعة النشاط الاقتصادي سيخلق أرضية مشتركة واسعة لأبناء ذلك الكيان الجديد لتركيز جهودهم في تشييدالتكامل الاقتصادي والتنمية المستديمة لأبناء تلك القرى والمراكز.

ولابد من التأكيد على أن الانتقال للنظام الفيدرالي لا يعني بالضرورة الانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني، حيث إلغاء منصب رئيسالجمهورية مثل بريطانيا وكندا، لأن الفيدرالية نظام إدارة وليس سياسة، والانتقال للنظام البرلماني في حد ذاته ليس بسيئ بل أثبت فعاليته الإصلاحية في عدة بلدان رغم تخلي تركيا عنه باستفتاء الشهر الماضي.

بنهاية مقالتي، لا أنكر وجود إخفاقات محدودة للغاية في بعض تجارب الفيدرالية مثل السودان الذي خاض تجارب فشل اقتصادي وأمني وسياسي رهيبةتُوِجَت بانفصال الجنوب عام 2011 وحرب دموية في دارفور شردت أكثر من 2 مليون إنسان، وهو ما يؤكد أن نجاح التجربة وبقائها يعتمدبنهاية المطاف على حِنكة النظام الحاكم في تطبيقها وتوفير لها المناخ السياسي والاجتماعي المناسب حيث لا تزال التجربة الفيدرالية نموذجًا ذهبيًا تطمح كل بلدان العالم النامي للحذو حذوه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط