الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جدل ثقافي في هونج كونج بعد حظر رواية لهاروكي موراكامي

صدى البلد

أثار قرار رقابي في هونج كونج بحظر رواية للكاتب الياباني الشهير هاروكي موراكامي جدلا ثقافيًا حول العالم بقدر، ما يفتح مجددًا "ملف الإبداع والرقابة".

فالرواية الجديدة لهاروكي موراكامي "مقتل قائد الفرسان" اعتبرتها الرقابة في هونج كونج "مبتذلة" وحظرت عرضها في معرض للكتب أقيم مؤخرا بهذه المنطقة ذات الوضع الخاص في الصين والتي كانت توصف دوما بأنها امثولة للانفتاح على كل الأصعدة بما فيها الثقافة.

وبعد حظر عرضها وبيعها داخل معرض الكتاب باعتبارها "إباحية" ، قرر جهاز الرقابة في هونج كونج عدم بيع هذه الرواية الجديدة لهاروكي موراكامي الا لمن هم فوق سن الـ 18 عاما لتصنف بذلك في نسختها المترجمة للغة الصينية كعمل "للكبار فقط".

وهذه الرواية الجديدة والمثيرة للجدل وهي الرواية الـ 14 لموراكامي وصدرت أولا باليابانية في العام الماضي تتكون من جزءين وتتجول بين تيمات هاروكي موراكامي الجامعة مابين الوحدة والحب والحرب والفن.

وتدور الرواية الأخيرة لموراكامي في أجواء ملفوفة بالغموض حول رسام صور شخصية يعيش بعد انفصاله عن زوجته في منزل فنان شهير ومسن يتلقى العناية في دار للمسنين ، فيما يعثر هذا الرسام على لوحة كبيرة رسمها الفنان المسن بعنوان "مقتل قائد الفرسان" ويصاب بهوس من تلك اللوحة.

وموراكامي الذي يتصدر المشهد الأدبي في اليابان ويوصف بأنه احد اعظم الكتاب في العالم المعاصر ولد في الثاني عشر من يناير عام 1949 من كتاب "الذاكرة" بامتياز كما ان رواياته التي تحقق مبيعات كبيرة وتحظى بانتشار عالمي حافلة بألوان التأمل والعزلة والموت والأحلام فيما تتجلى في اعماله مشاعر الحنين للماضي وقد يذهب بعيدا لحد تقمص نجوم الأدب والكتابة في ذاكرة العالم مثلما فعل في كتابه "كافكا على الشاطيء" ليصنع نموذجه الخاص للكاتب التشيكي الراحل فرانز كافكا.

وتقول المحررة الثقافية وناقدة الكتب في صحيفة "الجارديان" البريطانية اليسون فلود ان "موراكامي بأعماله التي تعد اشهر الصادرات الأدبية لليابان قد سقط بروايته الأخيرة في الرقابة بهونج كونج بينما من المنتظر ان تنشر الرواية في ترجمتها الإنجليزية ببريطانيا خلال الخريف المقبل.

وأشارت فلود الى ان موقف جهاز الرقابة في هونج كونج حيال الرواية الأخيرة لموراكامي أثار انتقادات واسعة النطاق وذهب بعض المثقفين والمعنيين بصناعة النشر الى ان ماحدث يلحق اضرارا بصورة هونج كونج باعتبارها "حاضرة العالم الآسيوية" فيما ذهب البعض الآخر الى أن " رؤية مسؤولي الرقابة في هونج كونج للأدب هي رؤية عتيقة وعفا عليها الزمن".

وفي المقابل لا يجوز حجب اراء من يؤيدون مثل هذا القرار . معتبرين أن مثل هذه الرواية حافلة بمفردات تخدش الحياء العام وتنتهك حرمة الآداب العامة وحسن الاخلاق فيما يشير فريق ثالث لحقيقة يدركها اي مبدع حقيقي وهي ان الفن يعني ان يقول المبدع كل مايريد قوله دون ان يقع في فخ الابتذال الصادم او المباشرة الساذجة او "النزعة السوقية التجارية في الكتابة التي تتوسل بالتطرف الحسي والايروتيكي ".

ولايعني ذلك ابدا "فرض تصورات طهرانية على الكتابة الابداعية" وانما السؤال الذي ينجح المبدع الحقيقي في الاجابة عنه هو :"كيف" ؟!..اي كيف يكتب مايشعر به ويريد ان يقوله في اي قضية مهما بلغت حساسيتها؟!..فالقضية في نظر هذا الفريق تتعلق "بماهية الابداع ومعنى الفن" وان كان من الصعوبة بمكان التشكيك في مدى استيعاب مبدع كبير مثل هاروكي موراكامي لهذا المعنى ناهيك عن ان "مفهوم خدش الحياء" كما يقول النقاد " نسبي ويختلف من ثقافة لأخرى" .

وفي خضم الجدل الراهن حول قرار الرقابة في هونج كونج بشأن الرواية الأخيرة لموراكامي ، فان من يدافعون عن قرار الرقابة هناك لهم ان يقولون انه حتى في الولايات المتحدة تصدر روايات يكتب عليها تحذير صارم بأنها "للكبار فقط" ولايسمح بالاطلاع عليها لمن هم دون سن ال18 عاما مثل رواية للكاتبة بينيلوب وارد صدرت بعنوان "حيز للكراهية" وعرفت طريقها لقوائم اعلى مبيعات الكتب وعلى رأسها قائمة نيويورك تايمز.

والأمر يعيد للأذهان ماحدث أيضا بعد عمل روائي اخر ظهر في بريطانيا عام 2011هو "50 ظلا للرمادى" وتصدر لفترة طويلة قوائم أعلى مبيعات الروايات،كما تحول لفيلم سينمائي غير ان صاحبة هذا العمل وهي الكاتبة البريطانية "اى.ال.جيمس" تعرضت لانتقادات قاسية في الغرب فيما اعتبر كثير من النقاد هذا العمل نموذجا للأدب المكشوف والكتابة الرخيصة.

وفيما استبدت نشوة المبيعات بمسؤولى دار النشر التى صدرت عنها الثلاثية حتى ان احدهم وهى سوزان ساندوم رأت من حسن طالعها ان تكون طرفا فى هذه التجربة الاستثنائية بكل المقاييس فى عالم النشر فان الناقد اندرو هاجان قال فى مجلة "لندن ريفيو اوف بوكس" ان الثلاثية طفرة غريبة فى عالم الكتابة الحسية او الأدب المكشوف والأهم انها تثير الكثير من التساؤلات حول سر مبيعاتها المذهلة.

و"50 ظلا" التى تتحدث عن مغامرات حسية فاقعة بين الشابة اناستاسيا وصديقها كريستيان لم تكن مؤلفته اى.ال.جيمس ذاتها تتوقع له كل هذا النجاح المذهل بلغة ارقام المبيعات بل انها اقرت فى مقابلات صحفية بأن كل ماحلمت به كان مجرد رؤية كتبها معروضة فى المكتبات ولم يدر فى خلدها ابدا ان تصل ارقام المبيعات لهذا الحد غير المسبوق.

وقال ايوان موريسون فى صحيفة "الجارديان" البريطانية انك اذا ماأغلقت باب قبو على حفنة من "مدمنى ثقافة البوب ومسلسلات التلفزيون واخبرتهم ان النهاية قد حانت وعليهم ان يقولوا كلمتهم للأجيال المقبلة عبر كتب يؤلفونها فانهم لن ينتجوا سوى هذه النوعية من الكتب" .

واذا كان البعض لايتورع عن وصف هذا النوع من الكتابة بأدب الجماهير فهو فى عيون البعض الأخر من عناصر النخب الثقافية الغربية بمثابة حضيض الانحطاط فى مجرى التاريخ الثقافى الغربى معتبرين ان تلك الكتابة الحسية الفاقعة ليست سوى توليفة لعينة من التجهيل وتملق الغرائز والبحث عن وهم النجومية بأرخص السبل واقبحها والعدوان على جماليات الكلمة.

هى نوعية من الكتابة استهلاكية بأسوأ المعانى وتفتقر للأصالة بل انها مضادة للأصالة وتعادى بالضرورة الابداع الحق ومن ثم فهى كارثة على الثقافة عندما تتصدر اعمال تنتمى لهذه النوعية من الكتابة قوائم مبيعات الكتب على مدى اسابيع طويلة ويتحول من كتبها الى "ظاهرة" من منظور عالم النشر وارقام مبيعات الكتب .

والأمر كما يقول ايوان موريسون ليس بالجديد على اى حال ..فعالم الثقافة والكتاب على وجه الخصوص عرف ويعرف تقلبات الأطوار والمرحل وكذلك النزوات والأهواء والبدع ولكن آيحق لهذا الناقد ان يطرح السؤال :" هل تشكل رواية "50 ظلا للرمادى" حقا خطرا على الثقافة ؟".

لعل موريسون اجاب على سؤاله ضمنا عندما اعتبر ان على اصحاب الأبراج العاجية ان يتنازلوا قليلا عن رطانتهم ويسعون لفهم افضل لرجل الشارع ولغة الجماهير والأسباب التى تدفعها لكل هذا الاقبال على اعمال مثل سلسلة اى.ال.جيمس.

وفى المقابل فان الكثير والكثير من نقاد الأدب فى بريطانيا والغرب ككل رأوا ان ثلاثية هذه الكاتبة البريطانية مهما حققت من مبيعات مذهلة ستبقى نموذجا للأدب المكشوف والرخيص وكتابات البورنو ولن يكتب لها الخلود فى عالم الأدب..ومرة اخرى فان القضية كلها سواء هنا او هناك تتعلق باسئلة الأدب وماهية الابداع ومعنى الفن.

ولئن كان هاروكي موراكامي الذي أثار كل هذا الجدل يجد اسمه كل عام في العقد الأخير ضمن مايعرف بقوائم المرشحين لجائزة نوبل للآداب دون ان يفوز بهذه "الجائزة المأزومة حاليا والتي تقرر حجبها هذا العام" ، فان الأديب التركي اورهان باموق المتوج بجائزة نوبل للآداب لم يكن حظه افضل من حظ موراكامي مع الرقابة ولكن في معرض اخر للكتاب وهو المعرض الذي أقيم في شهر مايو الماضي بالعاصمة الإيرانية طهران.

ففي الدورة الحادية والثلاثين لمعرض طهران الدولي للكتاب التي حضرها اورهان باموق ، فوجيء صاحب "متحف البراءة" بإلغاء فعالياته على هامش المعرض كما تعرضت رواياته وأفكاره لهجمات من جانب أعضاء في البرلمان الإيراني مع ان كتبه ورواياته مثل :"الحياة الجديدة والقلعة البيضاء واسمي احمر وثلج" تحظى باهتمام كبير من القراء في هذا البلد.

وإذ تبقى الرقابة بأنماطها المتعددة قضية تشغل المثقفين في كل مكان بهذا العالم ففي الهند القضية حاضرة وذات تجليات متعددة في المنابر الثقافية والشارع وساحات المحاكم كما يعبر عن ذلك كله الكاتب باترا بريجادا في طرح نشره بالانجليزية واستحوذ على اهتمام لافت في الصحافة الثقافية الغربية.

فباترا بريجادا الذي صدر كتاب له بعنوان :"الهندوس : تاريخ بديل" عن الفرع الهندي لدار بنجوين الشهيرة في عالم النشر وجد نفسه مطاردا بسلسلة من الدعاوى القضائية رغم ان هذا الكتاب الصادر عام 2010 فاز بجائزتين داخل الهند.

وبعد هذه المطاردات القضائية واخطرها كان من ناظرة مدرسة متقاعدة تدعى دينا ناث بارتا وتنتمي لتنظيم هندوسي يميني متطرف اضطرت دار بنجوين لوقف نشر وبيع هذا الكتاب و"فرم ماتبقى من نسخ لديها".

واذا كان الكاتب الهندي باترا بريجادا قد وصف هذا النوع من الدعاوى القضائية بأنه "سلاح للدمار الثقافي الشامل" فالرقابة كفكرة ومفاهيم وممارسات مازالت حاضرة في الثقافة الغربية وذلك يتبدى مثلا في كتابات المؤرخ الثقافي الأمريكي روبرت دارنتون الذي يبدو مهموما "بالتوغل في روح الرقيب والحفر العميق عند جذور ظاهرة الرقابة" والتمييز بين رقابة مؤسسات الدولة ورقابة المجتمع التي قد تكون اشد وطأة واكثر قسوة.

ولئن رأى البعض عدم جدوى الرقابة "في زمن الانترنت العابر للحدود"، لافتين إلى أن "الكتب الممنوعة تكون اكثر الكتب طلبا واكثرها توزيعا سرا او علنا" فان ثمة حاجة لتحديد الآثار البعيدة المدى لهذه الثورة الثقافية الالكترونية في عالم بحاجة لروح المبدع الحقيقي بعيدًا عن "النزعة التجارية وقوائم "البيست سيلر والرغبة الجارفة في الشهرة ولو على حساب معنى الإبداع ذاته".