"هولوكوست" العريان..!

أيهما أخطر وأكثر إثارة للدهشة, تصريحات الدكتور محمد البرادعي حول المحرقة اليهودية " الهولوكوست " , أم تصريحات الدكتور عصام العريان حول حق اليهود في العودة إلى مصر وأسترداد ممتلكاتهم ؟ للسؤال أهميته بالقطع في تلك المرحلة الدقيقة ,فبينما كنا جميعا نترقب إعلانا عالميا صريحا بحق العودة للفلسطينيين إلى وطنهم الأم إذ بنا نفاجأ بتصريحات القيادي الإخواني عصام العريان مناديا بحق العودة لليهود إلى وطنهم الأم "مصر" , وتلك مفاجأة صارخة بكل المقاييس خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار المأزق الراهن للدولة المصرية في ظل قيادة الإخوان المسلمين.
وبداية تجدر الإشارة إلى أن تصريحات الدكتور البرادعي التي أدلى بها إلى صحيفة ألمانية قبل الاستفتاء على الدستور أسئ تفسيرها وتأويلها بشكل مهول في وسائل إعلام وعلى لسان سياسيين ينتمون بشكل أساسي لتيارات سياسية "متأسلمة", لأغراض خاصة يعلمها الجميع , ولأن ألف باء النظريات الإعلامية علمتنا حتمية الرجوع للمصادر الأصلية للمستندات , فقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن حديث الدكتور البرادعي حول الهولوكوست وأهدافه النهائية لا علاقة لها على الإطلاق بما نشر في وسائل الإعلام المشار إليها من قبل , فكل حديث الرجل كان عمن يحاولون إنكار الحقائق التاريخية ومن بينها المحرقة اليهودية أبان حكم النازي في ألمانيا الهتلرية , وبالتالي لم يتحدث البرادعي على الإطلاق ولم يشر من قريب أو بعيد إلى حتمية إدراج الهولوكوست في الدستور الجديد أو تدريسها في المدارس .وعند هذا الحد فأن تصريحات البرادعي لا تنطوي على أية مخاطر لمصر أو المصريين ولا تقدم أي خدمات أضافية لليهود أو إسرائيل .
أما تصريحات الدكتور العريان فجاءت صريحة وعلى الهواء ولوسيلة إعلام مصرية ومن ثم فأنها لا تحتاج إلى تأويل أو تحريف ولا تحتمل ذلك ولكنها بالقطع تحتاج إلى جهد كبير لتفسيرها ومعرفة خلفياتها في محاولة للوصول إلى أهدافها النهائية , فبالقطع هي ليست مجرد زلة لسان أو كرم زائد أو حتى " عزومة مراكبية " وفقا للمثل الشعبي المصري الشهير , وهي بالقطع قد تكون مقدمة لمبادرة جديدة على غرار مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة القدس في نوفمبر عام 1977 والتي سبقتها مقدمات مهمة كان أبرزها خطابه الشهير أمام مجلس الشعب المصري قبل أسابيع من زيارته التاريخية للقدس وتضمن جملته المثيرة " أنني مستعد للذهاب إلى عقر دارهم , إلى الكنيست ذاته " , وقتها تم تصوير الجملة على أنها جزء من الحرب المعنوية أو الدعائية التي تهدف إلى كشف إسرائيل أمام العالم , ووقتها أيضا أعتبر البعض تلك الجملة مجرد " زلة لسان " , ولكنها في الواقع لم تكن كذلك فسرعان ما تلقفت الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أوروبية أخرى الجملة الشهيرة لتحولها إلى مبادرة حقيقية على أرض الواقع.
فهل يمكن أن تتحول تصريحات الدكتور العريان إلى مبادرة حقيقية تجد طريقها إلى أرض الواقع؟
قبل الخوض في محاولات الإجابة عن هذا السؤال , هناك تساؤل آخر حول التوقيت , فلماذا تلك المبادرة الآن ؟ هي أذن تصريحات مفاجئة لأن سلم الأولويات يحتم انصراف السلطات الممسكة بزمام الأمور الآن في مصر إلى ما هو أهم وأجدى وإلى ما هو أكثر إلحاحا بالفعل متمثلا في مبادئ ثورة الخامس والعشرين من يناير ( العيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ) , وبدون أدنى شك فأن مصر في حاجة لجهود مضنية وعمل شاق يتصل فيه الليل بالنهار للشروع في تحقيق هذه الأهداف , في وقت مازالت عملية التحول الديمقراطي تحاول تلمس خطاها , وفي وقت لازال فيه الوفاق السياسي بعيدا كل البعد عن أرض الواقع ,ومرحلة بناء الدولة ومؤسساتها لم تكتمل بعد , بينما الأوضاع الاقتصادية في غاية الخطورة كما شهد بذلك الخبراء في مختلف المجالات مع تصاعد المطالب الفئوية والعمالية وتزايد مظاهر التردي الاجتماعي وسط غياب الكفاءة الأمنية المنشودة وبدونها يظل الاستقرار بعيدا بعيدا.
وفي ضوء تلك الظروف مجتمعة فلا شك في أن مصر ليست في حاجة إلى مزيد من القضايا الشائكة التي تجر على البلاد مزيدا من المتاعب على غرار عودة اليهود إلى مصر وحصولهم على تعويضات قد تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات , وكأن مصر بذلك تعترف صراحة بلعب دور في آلام اليهود التاريخية , قد لا ترقى بالقطع إلى ما نجم عن المحرقة النازية لليهود ولكنه يرسل رسالة وكأن مصر صنعت " الهولكوست" الخاص بها ضد اليهود !وقد أسهب المتخصصون في هذا المجال وعلى رأسهم الدكتورة البارعة زبيدة عطا أستاذ التاريخ في جامعة حلوان في تفنيد المغالطات التاريخية التي صاحبت طرح هذا الموضوع , وتكاد تكون هذه الأكاديمية الرائعة موسوعة متخصصة في الشأن اليهودي – المصري بما قدمت من حقائق تاريخية ومستندات وأدلة وأرقام , تكشف حقيقة الدور التخريبي لليهود في مصر وكذب المزاعم بمصادرة ممتلكاتهم وثرواتهم قبل طردهم المزعوم من مصر في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر , وقد كشفت الدكتورة زبيدة كيف أن اليهود قد بدأوا في مغادرة مصر وتهريب ثرواتهم وتقديم الدعم للهجرات اليهودية وللكيان اليهودي الجديد في فلسطين منذ الثلاثينيات في القرن الماضي أي قبل قيام ثورة يوليو بنحو ثلاثين عاما ! والغريب أن هناك من يحاول التصدي لمثل هذه التحليلات العلمية والأكاديمية الموثقة بجهل شديد لخدمة أغراض سياسية ومصالح شخصية ضيقة .
وتاريخيا وفي ضوء الحقائق السابقة , ليس لليهود أي حق في مصر بل ربما عليهم الكثير الذي يجب دفعه وتقديمه تعويضا عن تخريبهم لهذا الوطن العظيم في الماضي وعبر كل المراحل التاريخية منذ وعد بلفور المشئوم في بدايات القرن العشرين بمنح يهود العالم وطنا قوميا على أرض فلسين , وفي الوقت ذاته فأن القول بأن مبادرة الدكتور العريان تسهل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الأم يجانبه الصواب بكل تأكيد , فالدعوة إلى عودة يهود العالم من إسرائيل إلى بلادهم الأصلية قد تقع على الدولة العبرية ذاتها كوقع "الهولوكوست" أو كأفكار "الترانسفير" القائمة على التهجير ومبادلات الأرض والبشر , وكأنما هي دعوة لفكيك إسرائيل , ولا يتصور أي متخصص في الشئون السياسية أو العلاقات الدولية أن مثل تلك الأفكار لها محل للنجاح على أرض الواقع.
نحن إذن أمام حالة شديدة الالتباس وتكاد تكون مستعصية على الفهم من حيث التوقيت والأهداف النهائية من ورائها , والأيام وحدها قد تكشف عن ذلك , ولكن لا بأس من محاولة طرح احتمالات وتصورات لهذه الحالة التي أوجدتها تصريحات الدكتور العريان أو مبادرته المتلفزة التي أثارت ردود فعل ايجابية في إسرائيل وأمريكا والدول الأوروبية والأوساط اليهودية العالمية , وبعيدا عن نظرية المؤامرة لا غضاضة في محاولة فهم تلك التصريحات في ضوء بعض مفردات المشهد السياسي الراهن , وفي مقدمة العناصر التي يمكن الاستفادة منها في محاولة مقاربة هذا التطور المثير تلك الحملة الأمريكية – الأوروبية ضد الرئيس مرسي والتهديد الصريح بعقوبات اقتصادية في ظروف صعبة تمر بها مصر نتيجة سياسات الدولة المصرية الراهنة والقلق الدولي على مستقبل الديمقراطية في البلاد , وبالتالي فهناك حاجة ماسة من جانب الرئيس مرسي وحزب الحرية والعدالة والحكومة المصرية لمخاطبة العالم والدول الغربية على وجه الخصوص بلغة مختلفة وتوجهات جديدة تبث الطمأنينة وتعكس للجميع رغبة حقيقية في إقامة دولة عصرية بكل معاني الكلمة , وربما جاءت تصريحات الدكتور العريان في هذا السياق وواكبها أيضا خطاب الرئيس مرسي أمام مجلس الشورى الذي تحدث فيه بإسهاب عن دولة المؤسسات والدولة الحديثة ودولة القانون , وكلها تعبيرات أجمع عديد من الخبراء على أنها رسائل موجهة للغرب تبشر بدولة عصرية ديمقراطية وبسياسات مختلفة عن تلك التي تزعج الغرب وتقلقه في محاولة لتجسير الهوة وتقريب المسافة بين الطرفين.
عند هذا الحد تبدو تلك الدفوع مقبولة في محاولة تفسير تصريحات العريان , ولكن هناك مستوى آخر للمقاربة ربما كان أوسع وأكبر وأعمق دون إغفال دور الخيال في محاولة صياغته ويرتبط ارتباطا وثيقا بمحاولة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفقا لتوجهات وتصورات القوى الكبرى في العالم في ضوء الربيع العربي وتداعياته وأيضا تطلعات القوى العظمى لوضع جديد في منطقة ملتهبة التهابا مزمنا , عند هذا الحد قد يكون من المفيد تقديم تصريحات الأستاذ محمد حسنين هيكل لبرنامج تلفزيوني تحدث خلالها عن رغبة أمريكية – غربية أكيدة في إعادة تشكيل المنطقة وفي الصدارة منها تسوية المشكلة الفلسطينية ,وبالتالي فأن قوى إقليمية مؤثرة سيكون مطلوبا منها أدوارا محددة في هذا السياق وعلى رأسها مصر, وليس ببعيد عن المشهد أو تفسير ما يجري إدراج مادة واضحة وصريحة في الدستور الجديد حول حق لاجئي العالم للإقامة على التراب المصري بكل ترحاب , وبالقطع هي مادة غامضة , ولكن الأحداث التاريخية علمتنا أن ما هو غامض اليوم قد تسهل قراءته في الغد القريب أو حتى البعيد , وأن ما استعصي على الفهم الآن قد يصبح واضحا بعد حين , وربما تكشف الأيام أن تصريحات الدكتور العريان لم تكن موقفا شخصيا ولا زلة لسان وإنما مقدمة لشيء ما, وقد يتضح أيضا أنها جزء من ترتيبات أعمق وأكبر , ووقتها قد ندرك أن "هولوكوست" البرادعي أهون وأخف ضررا وأقل خطورة من هولوكوست العريان.