بملامح جميلة وابتسامة بشوشة لم تفارق وجهها ولم يغيرها الزمن، كانت تقف على أطراف أصابعها لتؤدي حركات راقصة في منتهى الدقة والرقة، تدور على المسرح في خفة وتدور معها أعين الجماهير الذين كانوا يتابعون عروضها كأنهم في حلم لا يتمنون أن يفيقوا منه، ثم تقلدت مناصب كانت الأولى في شغلها كأول عميدة لمعهد الباليه، وأول رئيس لدار الأوبرا الجديدة، إنها د. ماجدة صالح أول باليرينامصرية، وواحدة من «الفراشات الخمس»، والتي رغم رغم استقالتها من كلا المنصبين ومكوثها في الولايات المتحدة إلا أنها ما زالت تخدم بلدها خلال إقامتها في الخارج، من خلال أنشطة وفعاليات عن فن الباليه، والتكريمات المستمرة التي تفتخر فيها ببلدها الأم مصر.
أوضحت الفراشة المصرية خلال إقامتها بالولايات المتحدة في حوار خاص لـ«صدى البلد» أهم المحطات والمواقف المؤثرة في حياتها، وإلى نص الحوار..

أنا ماجدة صالح من مواليد القاهرة، ووالدي الدكتور أحمد عبدالغفار صالح، كبير الزراعيين والتعليميين في مصر القرن الماضي، وشغل عدة مناصب فقد كان أستاذا في جامعة القاهرة، وعميد كلية الزراعة في إسكندرية وعين شمس، ووكيل جامعة عين شمس ونائب رئيس الجامعة الأمريكية.

خلال سفر والدي في الخارج لإتمام دراساته العليا تعرف على والدتي فلورانس، اسكتلندية الجنسية، وحصل على الدكتوراة خلال إقامته هناك وتزوجا ثم عادا معًا إلى مصر، واعتبرت مصر بلدها الثاني وعاشت في مصر لتربية ابنائها الأربعة وأنا واحدة منهم، وهي التي شجعتني على تحقيق شغفي لأصبح باليرينا.

كان يوجد الكثير من الاستديوهات الخاصة بمعلمات أجنبيات قد استقروا في مصر، جنسياتهم الروسية أو الإيطالية، وبدئت الدراسة مع سيدة إنجليزية وبعدها التحقت بـ «كونسرفتوار» الموسيقى بالإسكندرية، وهناك كان يوجد قسم للباليه بإشراف معلمات من إنجلترا من الأكاديمية الملكية للباليه، وكانت الفتيات المصريات يلتحقن بهذا التعليم من أجل اللياقة الجسدية والرشاقة، ولم تفكر إحداهن في احترافه بسبب معرفتهم من موقف المجتمع المصري من الموسيقى والرقص.

لا، ففن الباليه لم يكن غريبا على الجمهور المثقف، فالباليه كان معروفا منذ تأسيس «دار الأوبرا» في مصر في عام 1869، وتأثرت مصر بالثقافة الغربية منذ الحملة الفرنسية ووجود محمد علي باشا، وافتتاح قناة السويس، وكانت القاهرة تمتاز بالطابع الأوروبي فكانوا يطلقون عليها «باريس على النيل».

كلف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر زميله من الضباط الأحرار الدكتور ثروت عكاشة بإنشاء وزارة الثقافة، وبالفعل أنشأها عكاشة وكان من أهم أركانها حينها إنشاء أكاديمية للفنون، وهي فريدة من نوعها عالميًا وكانت مخصصة للفنون، وكان من ضمن المعاهد التي تضمها الأكاديمية المعهد العالي للباليه، الذي التحقت به في أولى دفعاته في عام 1958، وتخرجت بترتيب الأولى على الدفعة.

الباليه في بداية دراسته بالمعهد صعد بسرعة صاروخية، حيث تم الاستعانة بالنظام الأكاديمي الروسي، واستعنا بخبراء من الاتحاد السوفيتي، فكان من المعروف ان الباليه في الاتحاد السوفيتي هو الأعرق والأعظم، وهذا الفن موجود في روسيا منذ القرن الثامن عشر، فلم يوجد من هو أفضل من الاساتذة الروس لتأسيس المعهد على أعلى مستوى أكاديمي.
هل دراستك بأولى دفعات المعهد كانت دافع لتفوقك ؟
الدراسة كانت شاقة بالنسبة لي، فكنت أتعلم الباليه مع استكمال دراستي، وكان برنامج يومي يتلخص في الذهاب للمدرسة صباحًا، ثم الباليه بعد الظهر، ثم المذاكرة، وكان هذا الضغط بسبب اتفاقي مع أسرتي بأن يسمحوا لي بتعلم الباليه في حالة إتمام مراحلي التعليمية، فهذه الجملة التي قالها والدي لا أنساها "بتحبي الباليه بس لو كسرتي صباع رجلك انتهيتي"، ومن الصعب جدا ممارسة الباليه، فممارسته كأي رياضة يتم استعمال الجسد فيها، فهو الأداة القائم عليها العرض، "زي اي ماكنة باظت يا اما الاداء بيتأثر يا خلاص انتهاء ومرجعش تاني".

بعد 8 أعوام من إنشاء المدرسة، قدمنا أول باليه بأداء مصريين فقط في عام 1966، حصلت أنا وأربعة من زميلاتي هن مايا سليم، وعلية عبدالرازق، ودود فيظي، وديانا حقاق، على منحة لدراسة الرقص بأكاديمية البولشوي الروسية في عام 1963، وتخرجنا منها بتقدير امتياز وعدنا إلى مصر وشكلنا النواة لأول فرقة أعضائها مصريين، وقدمنا أول عرض باليه بعنوان «نافورة بختشيسراي»، وكان لهذا العرض قصة نجاح غير مسبوقة
فالدكتور ثروت عكاشة تابع التدريبات وسمح لنا بتقديم العروض في دار الأوبرا وحضر بنفسه اول عرض، وبعد نهاية العرض اتصل بعبد الناصر ودعاه لحضور العرض، وحضر عبدالناصر وحرمه في اليوم التالي، ونتيجة لرضاه عن العرض منح المشتركين جائزة للعمل الثقافي، لأنه إنشاء ومولد أول باليه مصري ومنحنا عبدالناصر أوسمة وكانت هذه هي المرة الأولى التي ترعى فيها الدولة فن الرقص وتكرم الراقصين.

حصلت أنا وزميلاتي الاربعة على ميثاق الاستحقاق وجميع الطلبة الذين أدوا الأدوار الرئيسية حصلوا على نوط استحقاق، أما المسئولين المصريين حصلوا على وسام الجمهورية كالعميدة عنايات عزمي والمسئولين الروسيين.
هل كان التكريم دافع لاستكمال مسيرتك الفنية ؟
لا، لم يكن التكريم دافع لي لاستكمال مشواري الفني، فمنذ افتتاح المدرسة والتحاقي بها ودراستي لتسعة أعوام وأنا متمسكة بحلمي بأن أصبح «باليرينا».

بعد فيلم «ابنتي العزيزة»، لم افكر في الاستمرار في التمثيل ولكني فخورة بهذه التجربة.
لماذا اتجهتي من تقديم العروض للعمل الأكاديمي ؟
حريق «دار الأوبرا» في 28 أكتوبر عام 1971 كان أكبر حادث مؤلم في حياتي، فبعدما وصلنا لنجاح هائل، واعتدنا على تقديم عمل جديد وتزايد اهتمام الجمهور والإعلام بفن الباليه، كل هذا توقف وأدى لحدوث فجوة استمرت لمدة 17 سنة، وأثرت بطريقة سلبية جدا على النشاط الثقافي والفني في مصر.
لم يتوقف الباليه ولكن قل النشاط، فكل الفرق المرتبطة بدار الأوبرا اضطرت للبحث على مسارح أخرى، ومنهم مسرح البالون والجمهورية، ولكن والدتي نصحتني " واضح اننا داخلين على مرحلة متدنية شوية لان الاوبرا مكانة عنند الجمهور فالبالون مهما كان مش اوبرا فالباليه فن ارستقراطي ومركزه دار اوبرا".

خضنا تحدي صعب حتى عرضت اليابان على الرئيس السابق محمد حسني مبارك إهداء معرض ثقافي تعليمي في القاهرة ووافق عليه مبارك وقرروا أن هذا المركز يصبح «دار الأوبرا الجديدة»، وعلى أن الوزير ثروت عكاشة كان معد رسومات هندسية لبناء مسرح جديد بالقاهرة بسبب توسع الجمهور، ولكن لا أعلم لماذا لم يتم العمل بها رغم أنها كانت من تصميم مهندس ألماني.
في رأيك كيف يؤثر الإعلام على فن الباليه ؟
لم أنسى دور الإعلام في بدايتنا فكثيرا ما تصدرنا مانشيتات الصحف المصرية، ونلنا قدرًا من الشهرة لدى الجمهور، وكان الإعلام يهتمب ـ«الباليه» بشكل ملحوظ حتى أن التليفزيون القومي كان يذيع برنامج أسبوعي للباليه وهذا كان انفراد مصري.

بعد النجاح الذي حققناه في القاهرة بعرض «نافورة بختشيسراي» في عام 1966، قررت وزارة الثقافة تقديم نفس العرض في أسوان احتفالا بعيد السد العالي، ولم نكن على يقين من رد فعل جمهور الصعيد ولكن تفاجئنا فقد كان نجاح ساحق غير متوقع، وقدمنا 8 عروض، بدلا من 4 عروض فقط، حتى أن الجمهور كان "بيزفنا في الشارع" وأهل أسوان كانوا يستقبلونا من محطة القطر.
وبعد تقديم أحد العروض بأسوان، كنت أقدم فيه دور أساسي وكنت واقفة على المسرح بجانب أستاذ روسي، وجدت بجانبي رجلا عجوزا يرتدي الجلابية قد فرغ من عمله بالأرض، وينظر لي دون أن ترمش عيناه لعدة دقائق في اندهاش ودون حركة، فلما انتهى الخبير من حديثه، نظر هذا الرجل لي كمن أفاق من حلم، وقلت له "أيوه يا عم في حاجة"، فـصُدم الرجل البسيط عندما وجدني أتحدث بلغته، وامتلأت عيناه بالدموع وقال "يا سلام يا ست دي حاجة جميلة"، هذا الموقف البسيط كان له تأثير كبير علي "لخص لي إحساس المصري الدفين بالجمال"
هل هذا الموقف يعد الأكثر تأثيرا عليكي ؟
نعم، لأن هذا الموقف أثبت لي إيماني بعبقرية المصريين وتعدد مواهبهم وحبهم للفن بكل أشكاله.

والدتي – رحمها الله - أوضحت لي موقف الباليه بعد حريق دار الأوبرا عام 1971 لعدم وجود مسرح يوازيه، ولكي أستمر في نفس المجال فيكون من خلال الاتجاه الأكاديمي، فوجب الحصول على المؤهلات العليا، ونصحتني بعدم السفر لروسيا لأنني جربت الباليه الكلاسيكي، فقررت تعلم أمر جديد كاستكشاف آفاق جديدة للباليه بالنسبة إلى مصر وكان مصدر التجديد أمريكا، فقدمت على منحة في أمريكا وتم قبولي وحصلت على الماجستير في عام 1974 من جامعة كاليفورنيا عن «الرقص الشعبي وتطبيقه في الثقافة الأمريكية»، وحصلت على الدكتوراة من جامعة نيويورك عام 1997 عن «تقاليد الرقص الشعبي المصري» باعتباره المصدر الأساسي للإلهام.
ماذا عن أول فيلم تسجيلي عن الباليه المصري؟
قدمت فيلم بالتعاون مع مؤسسة السينما المصرية وقدموا لي كل المساعدات، والفيلم بـ اسم «أشواق الأهالي» للمخرج إبراهيم الموجي، وكان تسجيلا لنماذج للرقص الشعبي المصري في مواقعه وكان المادة المصاحبة لرسالة الدكتوراة، وتم إنتاجه في عام 1978 وأصبح من كلاسيكيات الأفلام الفونوغرافية لتسجيل فلكلور الشعوب، ومرجع أساسي لفن الرقص الشعبي.

عدت إلى مصر وتعينت أول عميدة لمعهد الباليه، وللأسف كانت هذه الفترة صعبة فالمعهد كان في مرحلة انهيار، وكانت أول اهتماماتي نظافة المعهد والمباني، والاحترام، فتحول المعهد إلى مزار لأي وفد أجنبي لوزارة الثقافة.
ولماذا استقلتي ؟
استقلت بعد عامين من المجهود والمواجهة الشرسة، فأعدت ترتيب أولوياتي وفضلت رعاية والدي ووالدتي بسبب تقدم السن، فصحتي تأثرت واستقلت، وأعتبر هذه هي المرحلة الأصعب في حياتي فرغمأن كل دراساتي كانت متجهة للعودة إلى مصر للمساركة في تنمية فن الباليه، ولكن لم أجد ما أعود إليه فالظروف تزداد صعوبة.

تم تعييني كأول رئيس لدار الأوبرا الجديدة بعد 17 عاما من الحريق، وكان وقتها فاروق حسني وزيرا للثقافة وبذلت مجهودا جبارا ولكن لم تنتهي القصة على خير، لأن الوزير الذي عيني هو نفسه الذي أقالني بدون مقدمات وبشن حملة إساءة ضدي، "لقيت مكتبي متشمع بالشمع الأحمر".
لماذا اختلف الاعتماد على الروس في تعلم الباليه في مصر؟
الباليه ظهر في البداية في روسيا فهم أساتذة تعلم الباليه، ولكن خضنا فجوة في حياتنا الثقافية بعد نكسة عام 1967، فأظن أن التحالف مع أمريكا خلال حرب 1973 بدلا من روسيا كان سببا في انسحاب خبراء الباليه الروسيين من مصر، وفي عام 1979 تم طرد الروسيين نهائيا من مصر بسبب اقتحام الاتحاد السوفيتي لاتحاد أفغانستان.

أظن أن سبب الهجوم حاليا على الباليرنات المصريات هو التغيير الذي طرأ على البلد، كنظرة الناس للفن بعد دخول الوهابية في مصر، وحدوث انشقاقات في وجهات النظر المختلفة، ولا أقدر الحكم على سبب هذا التغيير، ولكن الإعلام له دور كبير في تغيير طبع المجتمع.
والباليه ازدهر في فترة كانت الظروف مواتية، في ظل حماية وتشجيع من الدولة لممارسته، وأظن أن تغيير النظرة العامة للباليه بسبب استغلال الباليرنات في عروض غير لائقة، فالأمر وصل لأن طالبات الباليه يظهرن في "زفات العرايس"، و "حطينا راسنا براس العوالم" فكل منا له مكانه ولا يصح استخدام الباليه في الزفة الشعبي، فلقب باليرنا يجب احترامه والحفاظ عليه.

التحرش يعد من مظاهر الانهيار الاجتماعي، فقديما كاان العقاب على التحرش اللفظي رادعا، وأذكر موقف خلال عروضنا «نافورة باختشيسراي»، فكان من المفترض أن يكون الرجال المشاركين في العرض صُلع ووبعد محاولات فاشلة لتغطية شعرهم قام الشباب بحلق شعرهم، وكانت هذه تضحية لأن وقتها أمر المحافظ بأن أي رجل يتم ضبطه يعاكس أو يلمس فتاة يتم حلق شعره.

لم أزر مصر منذ خمس سنوات، فأنا وزوجي عالم المصريات الأمريكي كانت حياتنا بين مصر وأمريكا ولكن بسبب تقدم السن لم نستطع مواصلة زياراتنا.
ماذا عن فيلم «هامش في تاريخ الباليه» ؟
هذا الفيلم من إخراج هشام عبدالخالق ومكون من جزئين، الأول يتناول مولد فرقة الباليه في القاهرة، وسفري إلى أمريكا وباقي الفيلم عن حياتي بشكل شخصي، وأثار اهتماما كبيرا محليا وعالميا.