إن الوصول لمراد الله في آيات القرآن الكريم ، وتفسير معانيه هو غاية لا تدرك، وكل مجهود بشري في هذا المجال ، قد يحتمل الخطأ قبل الصواب ، كما يقول الله تعالى﴿... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ... ﴾ آل عمران 7.
لذا كل ما نحاول فعله هو فقط هو الإجتهاد في تدبر آيات الله، ومحاولة فهمها ، عسى أن نصيب شيئأً مما أراده الله ، دافعنا في هذا ليس الا حبًا لله ، وخوفًا من أن نكون مع من قال عنهم الرسول ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) ﴾ ، سورة الإخلاص ، من السور التى شغلت تفكيري جدًا ـ وخصوصًا بسبب الكثير من الأحاديث الصحيحة الواردة في فضلها وأنها تعدل ثلث القرآن ، لذلك أحببت أن نتأمل معًا هذا السورة ونتفكر في معانيها الدقيقة .
المتأمل للسورة ، يجد أنها تلخص بإعجاز متناهي أربعة قوانين كونية شاملة تحكم جميع الموجودات في هذا الكون : قانون التعدد ، قانون التغير والهلاك ، قانون السببية ، قانون الزوجية والتكافؤ .
أما عن قانون التعدد في هذه السورة، نقول أنالكل متعدد ، البشر متعددون ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ (118)، الكائنات تتعدد، الأشياء تتعدد، تولد كل يوم مئات النجوم والكواكب ، يولد آلاف البشر ، تتكاثر مليارات الكائنات، كل شئ منه صور متعدد وأشكال كثيرة لا تحصى ، الألوان ، الأحجام ، الأوزان ، إذن التعدد قانون كوني مهيمن، يحكمنا جميعًا بلا استثناء، كل مفرد له جمع ، واذا وجدت واحدًا فتأكد أنك ستجد الكثير منه ، فالكون كله مبني على قانون التعدد.
اما قانون البقاء والتغير والهلاك ، فالملاحظ أمكل "من" و "ما" خلق الله في الكون ، في حالة جدل وصراع ما بين البقاء والهلاك، وفي حالة تغير مستمر وتطور دائم من "كان" الى "صار"، الإنسان يولد ثم يتغير ثم يموت ، فكما أن الحياه موجودة بداخلنا ، الموت أيضًا موجود بداخلنا، في كل دقيقة تموت في اجسادنا 60 مليون خلية فاسدة ، وتحل محلها 60 مليون خلية جديدة.
هذا الجدل والصراع بين البقاء والهلاك الدائر في أجسادنا نتيجته محسومة مسبقًا، لأنه حتما سنصل الى يوم ما تنتصر فيه قوى الهلاك داخلنا فنموت وتفنى أجسادنا. ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾. الرحمن (26-27).
الموت والحياه ما هم الا وجهين لنفس العملة ، وعبر الله عن تعادل قوى الهلاك والبقاء في الكون فذكر الله تعالى الموت ومشتقاته في القرآن 145 وذكرت الحياه ومشتقاتها نفس العدد 145 مرة.
الدول والمجتمعات أيضا في صراع بين البقاء والهلاك ، فالتاريخ يحكي عن مئات الدول والإمبراطوريات نشأت ثم اتسعت وقويت ثم ضعفت واندثرت، أيضا الجماد لا يستطيع الهروب من هذا القانون ، الجماد يبلى ويقدم ثم يهلك ، وهو في حالة اضطراب وحركة دائمة ، حتى وإن بدا ساكنًا ، جزيئات المادة في حالة حركة مستمرة ، والذرات بداخلها تتحرك في سرعة مذهلة ، والكترونات تدور بسرعات جنونية داخل هذه الذرات ، كل شيئ داخل الجماد مضطرب ومتحرك ، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ النمل 88.
النجوم تولد وتموت ـ المجرات والكواكب ، الذرات والجزيئات والمواد ، كل شيء حولك سوف يقدم ويهلك ، كل شئ . لا مهرب لأحد أو شئ من أن يسري عليه هذا القانون.
أما قانون السببية السبب والنتيجة، فكلشئ له أصل وسبب نشأ منه ، وكذلك له نتيجة ينشأ عنه ، وما الإنسان الا نموذج بسيط لهذا القانون، الإنسان له سبب أصيل في الوجود وهو الله ، وسبب مباشر وهو الوالدين ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ لقمان (14)، وله نتيجة وهم البنين والحفدة ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ النحل 72 ، فكل جيل ينشأ عن جيل قبله ، وينتج عنه جيل جديد،، تنشأ المواد من مواد أخرى ، وتتحول الطاقة من صورة الى صورة ، كل شئ له سبب ونتيجة.
أما قانون الزوجية والتكافؤ ، نقول أنكل شيء له مكافئ، في الرياضيات هناك الكميات السالبة والكميات الموجبة التي اذا جمعت معها ساوتها بالصفر، القوى تتوازن ، وفهم نيوتن ذلك وعبر عنه بقانونه الشهير "لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له في الإتجاه"، هذه الزوجية والتكافؤ هي سنة كونية، عبر الله في القرآن عن "الأزواج " ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الذاريات/ 49. خلق الله من كل الموجودات : صنفين متقابلين . ذكر وأنثى ، وليل ونهار ، نور وظلام ، وحر وبرد .
خلق المرض ووخلق الدواء، خلق الخير والشر ، الحق والباطل، الأبيض والأسود، وذلك يدل على كمال قدرة الله تعالى الذي يخلق ما يشاء، فيخلق الشيء ويخلق ما يقابله ويكافأه ويناظره في الصفات ، التكافؤ والزوجية قانون كوني صارم ، فلكل شئ مكافئ ونظير وشبيه .
إذًا هي أربعة نواميس كونية قاهرة ومسيطرة ، وكل علوم الكون ما هي الا دراسة لهذه القوانين، الرياضيات تدرس التعدد والأعداد وكيف أن هناك عدد لا نهائي منها ، وتدرس الجبر والمقابلة وغيرها ، الفيزياء تدرس القوى والحركة والسكون ، الطب ما هو إلا دراسة لقانون البقاء والهلاك، وما كل كتب الطب إلا كتب عن مسببات الهلاك وكيف نقاومها، علم الإجتماع يدرس السبب والنتيجة والأصل والفروع والتغير والتعدد، التاريخ ما هو إلا دراسة لوجود وبقاء وهلاك الأمم ، الكيمياء تدرس التغير في المواد وكيف تتفاعل وتنتج مواد جديدة ، وكل ما استحدثه الإنسان من علوم يدور في فلك هذه القوانية الأربعة .
واحد فقط يتعالى عن هذه القوانين، واحد فقط لا تسري عليه، ذلك هو الله ، لقد تنزه الله وتقدس وتبارك وتعالى أن تسري عليه قوانينٌ هو واضعها، وتلخص سورة الإخلاص بإعجاز شديد هذه الحقيقة، وهذا هو جوهر التوحيد، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ﴾
• ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)﴾ لا يسري عليه قانون التعدد فهو "أحد" ليس كمثله شئ
• ﴿ اللَّهُ الصَّمَدُ (2)﴾ لايسري عليه قانون التغير والهلاك (صَمَدَ صَمْدًا، وصُمُودًا: ثَبَتَ وبقى واستمرَّ)
• ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)﴾ لا يسري عليه قانون السبب والنتيجة
• ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾ لا يسري عليه قانون الإزدواجية والتكافؤ، ليس له مكافئ ولا مثيل ولا شبيه ولا نظير (الكُفء و الكُفُوء: هو النظير)
وهذا يفهمنا لماذا سميت سورة الإخلاص بهذا الإسم . لأن الإخلاص هو التصفية وهو الإصطفاء نقول أخلصت الشئ يعني صفيته أو اصطفيته ، أي أن الله أخلصها لنفسه فليس فيها إلا الكلام عن الله سبحانه وتعالى،. كما اصطفى الله نفسه من بين كل شئ واختص نفسه بالكمال، واصطفى نفسه ليتعالى عن جميع القوانين التي وضعها لتحكم خلقه، وسورة الإخلاص تصيفنا من أي شرك ، وهي جوهر التوحيد وإخلاص عبادتنا للأحد الصمد ، واختصاصه هو فقط بالتنزيه والتقديس والعبادة .
سورة الإخلاص تقول لنا : كل ما عدا الله متعدد ، كل ما عدا الله متغير وهالك ، كل ما عدا الله له سبب وفروع، كل ما عدا الله له مكافئ ومقابل ومعادل . الله فقط يتعالى وينزه عن كل هذا .إذن الله هو الأحد الذي ليس له شبيه أو مثيل ، وهو الذي لا يتغير فهو "الصمد" الثابت الباقي المستمر ، وكل شيء غيره يهلك ، والذي لم ينشأ عن سبب ، وليس كمثله شئ .
نعود الآن بعد أن فهمنا الإطار العام لموضوع السورة الى قانون الهلاك بشئ من التفصيل ، لنناقش قضيتين مباشرتين متعلقتين به ، الأولى : هي أن إيماننا بأن الله وحده لا يسري عليه هذا القانون، يرسم بشكل مباشر صورة ليوم القيامة، لأنه يوم الصيرورة النهائية للأشياء، و"ما" أو "من" لم يهلك قبلها سيهلك حتمًا في هذا اليوم ، لأن قانون الهلاك صارم، ولا استثناء فيه لأحد الا الله ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) القصص/88، كل شيئ سيزول ، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾ طه (105)، حتى الملائكة المقربون سيخضعون لها القانون، ويبقى الله وحده ،﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ غافر (16) .
القضية الثانية : أن هذا القانون صارم لدرجة أن الله جعل الإيمان بديمومة الأشياء وبقائها وعدم تطورها أو تغيرها أو فنائها نوع من أنواع الشرك ، لأن يتبعه بشكل مباشر عدم ايمان بيوم القيامة الذي هو يوم المآل النهائي للموجودات، وضرب الله مثلا في القرآن في سورة الكهف عندما دخل أحد الرجلين جنته وهو ظالم لنفسه ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾ ، أي لن يسري عليها قانون التغير والهلاك، وكنتيجة طبيعية قال ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ ، لذا ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ﴾ وذكره بقانون التغير الذي سرى عليه هو شخصيًا قبل لك ﴿بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ ، كما أفهمه أن هذا شرك بالله ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ (38) .
لاحظت هنا كلمة "أحدا" ومتى انسجامها مع سورة الإخلاص، نجد هنا ثلاث درجات الظلم ، الشرك ، والكفر . والظلم هو وضع الشئ في غير محله، والشرك وهو فعل قلبي ، والكفر هو أن تعرف شيئًا وتنكره وتغطيه وتقول أو تفعل شيئًا لإنكار هذا الشيئ . والشرك أكبر أنواع الظلم ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان،13). إذًا فكل من آمن بالثبات والدوام لغير الله أشرك، وكفر بالساعة لأنها الصيرورة النهائية للأشياء.
أخيرًا : لماذا سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ؟ ، تعالوا نتأمل كتاب الله ، سنجد أن معظم مواضيع آيات الكتاب تتحدث في ثلاثة محاور رئيسة: (1) توحيد الله تعالى وقوانين الكون الحاكمة ، (2) تشريع (أحكام وعبادات)، (3) أخبار وأنباء –ومنها القصص القرآني وأخبار الأمم السابقة ، وأنباء يوم القيامة . سورة الإخلاص ، تلخص بإعجاز القوانين الكونية المسيطرة ، وكيف أن الله تعالى هو الأوحد المتعالي على هذه القوانين ، اذن هي تلخص لنا تقريبًا ثلث مواضيع آي كتاب الله الكريم .