الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد قاسم يكتب: بودي جارد.. هتضحك بالعافية وهات مسكن صداع

صدى البلد

بالتأكيد لا يوجد تعريف محدد للكوميديا، فمنذ اليونان وحتى الآن تجرأ مئات الآلاف من البشر على هذه المهمة المستحيلة، ما هي الكوميديا؟ ما هو الهزل؟ ما الضحك؟ ما الفكاهة.. السخرية؟ أرسطو وصفها في كتاب الشعر، بأنها "محاكاة لأشخاص أردياء"، ويقصد هنا بالرداءة ما يثير الضحك وليس السماجة.. ربما لأن "أبو الفلسفة" لم يشاهد مسرحية "بودي جارد"!

يقول علي أحمد باكثير في كتابه "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية" إن "المسرح عند العرب فن اقتبسناه من الغرب كما اقتبسنا الفنون الأدبية الأخرى التي لم تكن معروفة لدينا"، ونفس الشيء يسري على الكوميديا، فهي في أصلها فن غربي بامتياز، وأصل كلمة كوميديا مشتق من كلمة KUPOS اليونانية والتي تعني اللهو، لكنها لم تعنِ أبدًا السماجة.

نعم.. الفكاهة- كنزعة إنسانية كونية وملكة أدبية- كانت معروفة وشهيرة في التراث العربي، والهجاء في الشعر العربي أصلًا سخرية، فها هو شيخ الفاكهين الجاحظ يكتب البخلاء، وها هو ابن زلال الكوفي يكتب أشعب الطفيلي، والأصفهاني يكتب الأغاني. ومن مصر خرجت فنون شعبية مسرحية كالأراجوز وخيال الظل.

ومع ذلك، وبينما عكف الغرب على ابتكار أشكال وألوان جديدة للدراما في المسرح، بحيث تجاوزت التصنيف الكلاسيكي لها-تراجيديا وكوميديا-بفضل ظهور تيارات فكرية جامحة كالعبثية والظاهراتية والبنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية، ظل مسرحنا المصري حبيسًا لإرادة المُشاهد، ولفكرة "الملهاة" الأسطورية القائلة إن الجمهور المصري في حاجة ماسة إلى الترويح عن مأساة حياته بالضحك.... الكوميديا مُجرد تسلية.

ولهذا في الستينيات مثلا، فضّل المؤلفون فن القِصة على فن المسرحية؛ وكانوا يعالجون قصص نجيب محفوظ ويحيى حقي على المسرح، ولم تشهد الكوميديا المسرحية إلا انتعاشًا ثوريًا وجيزًا في القرن المنصرم منذ الستينيات وحتى التسعينيات-العصر الذهبي للمسرح- إلا أنها ظلت هي الأخرى حبيسة لأسطورة الملهاة، ولأسطورة أخرى حذر منها شيخ النقاد الدكتور محمد مندور منذ أكثر من نصف قرن، ألا وهي أسطورة روض الفرج.

يقول مندور في كتابه عن مسرحنا المصري، إن "من أقبح لأساليب التي ورِثها نجوم الكوميديا عن روض الفرج محاولة كل نجم باستمرارٍ أن يُضْحِك الجمهور من شخصه لا من مواقف المسرحية وحوارها، وهذا أقبح أسلوب، بل على الأصح أقبح آفة يمكن أن يَنْكَبَّ بها فن التمثيل الكوميدي كله، وهي السر فيما يُقحمه هؤلاء النجوم على المسرحيات من حركات وأقوال ومواقف التماسًا للتأثير الرَّخيص في الجمهور، وإضحاكه من أشخاصهم المبجلة بدلًا من التزام الدور والقناعة به".

صحيح أن المرء لا يكتب لنفسه، فعملية القراءة والتلقي لازمة منطقية للكتابة، إلا أن المفارقة تكمن في أن الجمهور دائمًا ما يكون عدوًا لصاحب العمل، دائمًا ما يكون في حالة استنفار قصوى، فيما يقول عبد الفتاح كيليطو، يبحث عن الثغرات ونقاط الضعف في العمل الفني، العلاقة بين المؤلف والقارئ/المشاهد/المتلقي، ليست علاقة صداقة، لأن الأخير دائمًا ما يحقق الموضوعية المطلقة أثناء عملية التلقي، فيما لا يستطيع الأول أبدًا أن يتجاوز حدود الذاتية، فبحسب سارتر، لا يلتقي الكاتب في عمله إلا بنفسه هو ولا يظهر منه إلا ذاتيته هو. 

ما يتحدث عنه مندور هنا، يمكن اعتباره تزلفًا للجمهور من جانب الفنان لحد الرضوخ اتقاءً لشره، فبدلًا من أن يكون المسرح وسيلة لاستفزاز الجمهور والعمل على زيادة تناقضاته الداخلية وتعريه نفسه أمام نفسه، كما يقول سيد المسرح الملحمي بريخت، يساعد المؤلف على تحييد المتلقي بحيث يصبح من الصعب عليه إيجاد "الضحكة الأصيلة" التي تحدث عنها برجسون، والتي أصبح أصلًا من المستحيل العثور عليها بسبب صعوبة تحديد الفارق بين الشيء المهم الجاد والتافه، بحسب تعبير ميلان كوندرا، والضحك في نهاية الأمر كما يراه فرويد لذة لدينا نبحث عنها دائمًا للترويح عن كبتنا.

كان على يوسف معاطي في "بودي جارد" أن يدرك هذا جيدًا وأن يستغل قانون "أقل الجهود" الذي تحدث عنه مندور؛ إذ أن المسرح "يُقدم الأعمال الأدبية والفكرية المجسدة في المسرحية إلى الجمهور بأقل التكاليف العصبية، وبأيسر السبل على الفهم والتصوير".

جمهور المسرحية وقت عرضها على الخشبة، والآن، اختار أن يشاهدها لأسباب بسيطة، هي أنها بطولة عادل إمام، ولكي "يروح عن نفسه" أي يتسلى، فبدلًا من يقدم لهم معاطي قصة جيدة أو فكرة مسرحية Ubermut كما سمّاها، فريدريش دورينمات واعتبرها ركنًا رئيسًا في الكوميديا المسرحية، رأينا أننا أمام عمل شديد الركاكة، شديد السذاجة إلى حد الإزعاج والعِصاب والانتحار أحيانًا، لدرجة الشعور وأننا أصبحنا مجبورين على الضحك لحفظ ماء الوجه.

الفكرة بسيطة ونمطية لحد السأم: السجين أدهم (عادل إمام)، يعقد صفقة مع سجين آخر مليونير يدعى سعد (عزت أبو عوف)، أن يعمل لديه كحارس شخصي لدى زوجته عائشة (رغدة) التي تقع في حب أدهم، ثم يكتشف سعد الخيانة ويلفق تهمة لأدهم، ليكتشف أدهم أن عائشة وسعد اتفقا على هذا الأمر من البداية لأنهما يحاولان الهروب إلى الخارج مع أموالهما.

نبذ معاطي كل التكنيك الذي يميز المسرح عن غيره من الفنون، لم يستغل الديكور والإضاءة والتعبير الجسدي والحركة والمناظر والملابس والأزياء، فكل كهذه الأشياء في المسرحية كانت غاية في الركاكة وانعدام الحس الجمالي، حتى الإخراج المسرحي يبدو مشتتًا فالخشبة تحني ظهرها فقط لعادل إمام، يأتي ويذهب كيفما شاء، وجميع الممثلين مجرد جوقة وراءه يرددون سطورهم بشكل آلي فج، ناهيك عن الإخراج التلفزيوني كان كارثة حقًا وأضاف شعورًا بالنفور والانزعاج طيلة الـ3 ساعات؛ كادرات غريبة ورأسية، حركات مفاجئة وعشوائية للكاميرا وأحيانًا لا تشاهد وجوه الممثلين وأجسامهم.. فوضى.

لكن الطامة الكبرى أن معاطي نبذ أيضًا التكنيك الذي يميز الكوميديا عن اللعب الجذل والفن عن التعبير، ألا وهو القصة والحوار، فقد رأى أن أفضل وسيلة للضحك هي السخرية من أحداث وقعت تزامنًا مع عرض المسرحية، ولهذا يشتكي الجمهور والنقاد الآن من أن إيفهات بودي جارد "عفا عليها الزمن"، وحقًا فإن الكوميديا ليست آنية أو لحظية، بل تتجاوز وتفارق الزمان والمكان، ولهذا لا نزال نضحك حتى الآن على فالستاف، أحمق شكسبير، وعلى متحذلقات موليير، وعلى عبد بيكيت الأخرس.

أخذ معاطي الطريق الأسهل ولم يرسم أي شخصية من شخوص العمل، فلا نعرف من هو كاظم ولا سعد الدين فارس ولا حتى عائشة، إننا لا نعلم أيضًا من هو بطل المسرحية، أدهم، كل ما نعلمه أنه كوكتيل من شخصيات قدمها عادل إمام قديمًا، خاصة حنفي الأبهة وسيد الكواوي، "الفهلوي الفقير أبو دم خفيف اللى بيحب الجنس الناعم وبيحبوه، اللي يفوت في الحديد ويهزم الشر ويطلع من المياه ناشف!".. هذا يبدو جليًا في الفصل الثاني، مشهد المحكمة الذي يبدو محاكاة ساذجة وفقيرة واستفزازية لرائعة شاهد ماشفش حاجة.

أنت تشاهد عملًا يحمل اسم عادل إمام إذن فعليك أن تضحك وإلا....! إذا حاول معاطي نشر المسرحية ورقيًا بالتأكيد لن تبيع نسخة واحدة، فالزعيم طيلة عرضها كانت له مساحة مطلقة لارتجال الكلام والإيفهات.. هذه السلطة الدرامية الدخيلة على الدراما، لم تجعل للقصة نفسها لها أي متنفس سوى في آخر دقائق العمل، وهذا التغريب التعسفي للقصة أظهر على السطح كثافة شديدة في الكليشيهات سواء على مستوى الحركة-نجد الزعيم يقلد شارلي شابلين في بعض المشاهد-أو الحوار ولهذا انزعج بعض "المتحفظين" من الإيفهات الجنسية، رغم أنها من صلب أي كوميديا، إلا أنها في المسرحية ونتيجة لهذه الكثافة ظهرت على السطح لعدم وجود أي تنكيك درامي آخر معها يفاضلها.

 بغض النظر عن شجاعة عادل إمام المعروفة في كسر التابوهات والطرق على المُسلمات-لهذا هو كوميديان وفنان عظيم فمن جوهر الكوميديا، السخرية من أي شيء، والتهكم على أي سقف-ظهرت الإيفهات الجنسية في المسرحية لمجرد أنها إيفهات جنسية، أسهل وسيلة لإثارة خيال الجمهور وإضحاكه، لم يبذل معاطي أي جهد يذكر في صياغة وحبك النكات والمواقف المضحكة. راح مباشرةً لسطح الإيفهات وجوهر النكتة Punch line بدون التمهيد لها، لم تكن هناك "صنعة وحرفة" في توظيف الدراما والمفارقة والتراجيديا، فقبل كل شيء يحصل الجمهور على تأثير الكوميديا الكامن في الترويح والتنفيس، بفضل التركيز على الجوانب البشعة والمنفرة والمظلمة في الحياة وفينا، فيما يقول دورينمات، وقد حدث هذا مع حشرة كافكا المسكينة.

من أخطر النتائج التي ترتبت على تغريب القصة في بودي جارد، هو أن جانبها الإيديولوجي لا يبرر نفسه بنفسه، تنزلق المسرحية فورًا في الوعظ والإرشاد بدلًا من الحِجاج الدرامي ومَنطقة القصة. والمشكلة إن القصة تناقض أيدولوجيتها المثالية الساذجة-الخير والعدالة إلخ إلخ-ففي المشهد قبل الأخير يدخل أدهم وكر الشبان الأربعة الذين دفعوا كفالته وأخرجوه من السجن، عندما يجد لديهم نزعة ثورية يسمّيها معاطي بالـ"فوضوية".

هل حاورهم أدهم بالطريقة السقراطية-الدرامية أيضًا- أم انزعج وشعر بالتهديد؟ الجواب واضح.  يقول لهم أدهم مباشرة: "هذا خطأ" "لا تفعلوا هذا"، وعندما ينفعل أحدهم ويصرخ في وجه أدهم قائلًا: "هو فين ربنا بتاعك دا"، يصفعه أدهم على وجهه ويطرحه أرضًا ويكيل له ضربات بقدمه. وفي المشهد الأخير "يتوب" هؤلاء الشبان، فنراهم يضحكون معلنين أنهم لن يشربوا "دماء الخفافيش والفئران بعد الآن!"، نراهم يرتدون ملابس بيضاء بعد أن كانت سوداء "فوضوية"، حينها فقط يقول لهم أدهم، أنهم تركوا الشر وأصبحوا أخيارا. 

ودائمًا ما يأتي العنف كخيار أول.. ودائمًا ما يكون الأب الكبير على صواب والصغير شاب طائش من أهل الشر والضلال! ألم نرَ نفس الأيديولوجيا الساذجة في الأفلام الدينية في الستينات؟ كفار قريش بوجوه قبيحة وملابس رثة حينما يسلمون يصبح على وجوهم نورًا وبشاشة ويرتدون الناصع من الملابس ويتحدثون دائمًا بنبرة هادئة؟!