خصت القاصة والروائية إسراء أبو رحاب موقع "صدى البلد" بقصة قصيرة حملت عنوان: "بسيونى بيه"..
وإلى نص القصة:
"ارتمى الجميع فى وقت الظهيرة فى مساكنهم ومخادعهم هاربين من حرها الذى يلفح الوجوه وأغلق الجميع النوافذ والأبواب والبهائم والطيور حتى الزواحف اختبأت فى جحورها حيث كل كائن حى فر إلى أى مكان ظليل يحتمى فيه من الحر. صاحت إمرأة وهى تغلق النافذة: أمال جهنم عاملة إزاى، ألطف بعبادك يا رب. خلت الشوارع وصارت الجسور وحيدة بائسة تواجه لظى الحر وجنونه المسعور. بدا الحال كذلك هادئا صامتا إلى أن صاح أحدهم: بدأت. وراح يدق الأبواب بعنف ويصيح: بدأت. حينها خرج الجميع من الجحور وخلف الأبواب ومن تحت مبردات المياه التى فى الشوارع وخرج كل كائن حي ماعدا البشر ظلوا نائمين لم يشعروا بشىء ربما هذا الشأن لا يخصهم، وتحولت الظهيرة الحارقة إلى ميدان ثورة لا يقل عن شدة حرارتها وهجيرها كان مقصدهم فناء أحد البيوت الواسعة الممتلئة بالقش الذي يفترش أرضه، وعيدان البوص الدائبة من الشمس وتغير الفصول عليها.
ما عاد فى قوس الصبر منزع، ليس هناك قدرة على الصمت والحياة تحت سطوة الظلم والمعاناة أكثر من ذلك، الهجمات الليلية على البيوت، الإتاوات التى يدفعونها،حيث فرض على كل القطط أن يدفعوا ثلاثة أرباع ما يملكون من طعام بيوت بالكاد تساع ساكنيها، يستولى عليها طاردا أصحابها، استشرى نفوذه الطاغى بين القرى حتى أصبح الخوف يسكن فى ركن من أركانها عذابات شردت الأرواح، وأنهكت الصدور تحت لهيبها المشتعل، وقف الجميع فى حلقة غضب عارمة طوقت الفناء، ليجدواها قد بدأت والتحمت الحشود خلف قطهم بسيونى يضرب أتباع الزعيم الخائف المختبىء فى الصومعة القديمة المهترئة صاحت الحشود صيحة غاضبة:اطلع يازعيم.
وهو يغرز أظافره اللامعة فى ضوء الشمس كسيف بتار فى رقبة أحد أتباع الزعيم تذكر القطار الذى غادر به مدينته وموطنه الأصلى إلى قرية بعيدة جدا عن الحياة وبيئته يموء فى قفصه صارخا كالمجنون رافضا البعد عن بيئته وصاحبه وأصدقائه يسألون بعضهم البعض ماذا هم فاعلون بعد أن أنهوا دراستهم فى هذه المدينة الكبيرة عائدين إلى قراهم وكفورهم ونجوعهم؟ ليستيقظ مرة أخرى ليجد نفسه فى فناء أحد البيوت وسط سخرية لاذعة لصاحبه وإستخفافا مهينا له لأنه يرعى قطا ذا فروا كثيفا جدا لا يأكل سوى الخضار واللحوم الحمراء لا فائدة له بينما القطط الأخرى أكثر نفعا منه تأكل الفئران وما يخرج من بطون الأسماك والدجاج أثناء تجهيزها للطهى صاحوا فيه ساخطين: يترمى فى الحوش زى زى بقية القطط، أهو ده اللى كان ناقص، نعمله نومة وأكل مخصوص كمان. تفادى ضربة قوية ورد بأقوى منها والتحم مع آخر.
صيف وشتاء كانا كافيين أن يحولاه من بسيونى قط الجارة ماتيلدا التى أوصت به عند وفاتها لشاب كانت تعلمه اللغة الإنجليزية أعجب به وأطلق عليه بسيونى بيه لحياته المترفة وطوق الذهب الذى حول رقبته وما ينعم به من اهتمامٍ وحب كبيرين إلى قط شوارع يخوض معارك ويتحدى زعيما ظالما يرهب قطط القرية والقرى المجاورة. تقدم الجناح الأيسر يغطى ظهر قائدهم, أحرز القطين الرمادى والأخضر فى الجهه المجاورة للقط بسيونى تقدما لا بأس به. تذكرا حين ألقت سيدة المنزل بقط جميل وغريب لم يحنى رأسه قط وعاملهم الند بالند غير مهتم بما يحدث فى هذا الفناء الملعون ترصده الزعيم وإخوته ضربوه وطرده من الفناء أكثر من مرة جائعا وحين طفح به الكيل قرر أن يدافع عنه مهما تكون النتائج ضرب أحد إخوة الزعيم حين جاء لأخذ طعامه وضربه، فتِحت أعين الجميع ورأوا فيه شيئاً مختلفاً باركته قلوبهم لكن ظلت أفواههم مغلقة،هز الخبر أركان القرية تداولته الألسنة.
لكنه حين تحدى الزعيم ودار بينهما عراكا طاحنا حيث أرقه أن يتجرأ أحدا على إخوته هجم عليه وقف كل شعر فروته وقوس ظهره بأوداجه المنتفخة،مبرزا مخالبه وقدحت عينيه شرراً، دافع الأخير عن نفسه بإستماته عندما تلاقت أعينهم لم يشعر بالخوف لم يعد هناك شىء يقيد روحه مما شجعه على نشب مخالبه فى عنق خصمه وراح يهاجم بدل الدفاع مما فجأ الخصم وهز توازنه فإستعاد ماء وجهه بضربه قوية سددها له،صمد إلى آخر القتال ووقف فى منتصف الفناء معلنا تحديه بل وإنها سيطرته ونفوذه إلى الأبد إنفض الجميع أشعل فيهم فتيل الأمل للتخلص من هذا العذاب . فاق من قيلولته وهو مستلقى فى الظل يمشط فروه أقبل عليه قطين،هب واقفا للدفاع عن نفسه بادراه قائلين:مش جاين نهاجمك إحنا معاك.
وقف على قوائمه الأمامية وثنى قوائمه الخلفية ثم هز ذيله متشككا فيهم:إيه اللى يخلينى أثق فيكم،ممكن يكون ده فخ منصوب لى،فجأة كده صعبت عليكم.
رد عليه القط الأخضر اللون وقد أدرك نظرة الشك التى تنصب أعلامها عينيه:لا مش فجأة،من يوم ما جيت وإنت بتعاملهم الند بالند،ولما ضربت أخو الزعيم وإتحديته هو نفسه قلنا فرصة وجات لحد عندنا.
جلس القط الأخر الرمادى اللون على قوائمه الخلفية ثم حرك شاربه متحدثا: احنا ما نملكش غير أروحنا من الغباء نغامر بيها قبل ما نحقق هدفنا. أطلق صوت مواء مثل صافرة أو إشارة متفق عليها بينهم لا يعرف معنى دلالاتها غيرهم فظهرت جموع قطط كثيرة من أماكن مختلفة ثم حدثه قائلا:كل دول معاك وشاهدين علينا، كل واحد فيهم عنده أمل إنه الظلم ده يخلص.
تتطلع لهم لم يجد سوى الكادحين والمصابين فى معارك سابقة كسور فى أيديهم وأرجلهم،جروح حول أعينهم، أمعائهم خالية، بطونهم ملتصقة، عظامهم بارزة لكن أعينهم تقدح زناد التحدى والثورة.
أطرق برأسه إلى الأرض متأوهاً:آآآه هننهزم دول مستحيل ينطوا حيطة هيدخلوا معركة إزاى؟!!. تتطلعت إليه الأعين بإستماتة، صرخ فيه القط الرمادى غاضبا:كل القطط دى جات تشترى بحياتها حياة جديدة لأولادها، لكن انت عملت إيه؟؟؟ غير الكوابيس اللى بتجيلك وأحلامك بالرجوع اللى دوشتنا بيها فى وإنت نايم وإنت صاحى.
أمسك القط البرتقالى بالقط بالقط الرمادى ومشى ثم إستدار قائلاً:زى ما عندك أمل ترجع،هما كمان عندهم إن الظلم ده ينتهى،وارد إنك ترجع لكن هتكون عملت حاجة فى حياتك تفتكرها.
لفت إنتباه إحدى الجارات وهى تنشر غسيلها، تجمع كل هذا العدد الكبير من القطط خاصة القطط الثلاثة واقفين يتحدثون وجها لوجه حدثت نفسها مندهشة:عجبى على القطط دول،مش ناقص غير يتكلموا زينا.تفرقوا معلقين كل أملهم عليه.
ضعفت عصابة الزعيم والقط بسيونى وجيشه يتقدمان نحو الصومعة الزعيم يريد ضمان ألا يمس إخوته سوء صاحت الجموع :اهجموا على الصومعه
أخرج صوت مواءه كصوت ذئباً برياً يتهيأ لإلتهام فريسته،إلتقطت الحشود الثائرة أسلحتها ومبرزة مخالبها كاشرة على أنيابها فى كل حدب وصوب هجمت القطط التى تصور أنها لن تسطيع قفز حائط بشكل أسطورى غير مهتمة بالموت أو بالحياة فليس لديها سوى هدف واحد وهى تسعى نحوه بثبات جعلت من أرواحهم وأجسادهم طريقا مفتوحا إلى الصومعة أمسكوا إخوة الزعيم وإنهالوا عليهم بمخالبهم حتى طرحوهم أرضا وإستمرت تمزقهم, وإنفرد هو بالزعيم خرج من الجهه الأخرى إلى أرض الفناء وصاروا وجها لوجه نشبت أظافره فى وجه خصمه وأنيابه فى عنقه هجم قطنا هجوما جنونيا محملاً بكل ويلات العذاب والجراح والمرات التى غادر فيها الفناء جائعاً مضطهدا،مجروحا،خصمه ليس سهلا أصابه؛أصابه فى كتفه بقوة حافرا ثلاثة خطوط عميقة وهو يحاول الفكاك من القبضة المحكمة حول رقبته. الناظر من أعلى لا يرى سوى كتلا من اللحم تتقلب هنا وهناك فى أرض الفناء،ظل يضغط على عنقه تحمل كل الطعنات التى تلقاها فى صبرٍ وجلدٍ عظيمين،نجحت محاولة الخصم فى الفكاك من قبضته لم يمهله وقتاً،اشتبك معه مرة أخرى بينما القطين البرتقالى والرمادى يشكلان خط الدفاع لصديقهما لينفرد بالزعيم، إستغل قواه التى خارت وغرز أظافره فى وجهه وأجهز على رقبته وإستمر يمزقها ويمزقها صارخا فى الفناء صرخة أرعبت الجميع الذى لم يدرك أنه مازال يرفض ما فرض عليه, أليس واجبا كان على صاحبه أن يحنو عليه أكثر من ذلك؟؟ وألا يتركه فى هذا الفناء الملعون، خرج صاحبه على صوت الصرخة خائفا عليه وجد فروه الأبيض الذى جعله عراك الشوارع داكنا ملطخا بالدماء صرخ فيه:بسيونى.
فانطلق قافزا فوق أسطح الجيران مستهدفا الوصول إلى الشارع الرئيسى تبعه بنظره حتى فهم مقصده وتركه وخرج يجرى فى شوارع فرعية تمكنه من الوصول قبله والإمساك به لكنه سبقه فالقفز طريقا مختصرا للغاية رأه من بعيد وهو يجرى يعبر قضبان السكة الحديد فاحتضتنه عجلات القطار المتجه إلى المدينة الكبيرة حيث موطنه الأصلى.