"القبر" قصة للأديب يوسف إدريس تدور حول الذكريات الأليمة لفقدان "والده"

ولد يوسف إدريس في 19 مايو 1927 وكان والده متخصصًا في استصلاح الأراضي ولذا كان متأثرًا بكثرة تنقل والده وعاش بعيدًا عن المدينة وقد أرسل ابنه الكبير "يوسف"، ليعيش مع جدته في القرية.
ولأن الكيمياء والعلوم كانت تجتذب يوسف، فقد أراد أن يكون طبيباً وفي سنوات دراسته بكلية الطب اشترك في مظاهرات كثيرة ضد المستعمرين البريطانيين، ونظام الملك فاروق. وفي 1951 صار السكرتير التنفيذي للجنة الدفاع عند الطلبة، ثم سكرتيراً للجنة الطلبة.
وبهذه الصفة نشر مجلات ثورية وسجن وأبعد عن الدراسة عدة أشهر، وقد حاول أثناء دراسته للطبكتابة قصته القصيرة الأولى، التي لاقت شهرة كبيرة بين زملائه.
منذ سنوات الدراسة الجامعية وهو يحاول نشر كتاباته وبدأت قصصه القصيرة تظهر في المصري وروز اليوسف وفي 1954 ظهرت مجموعته أرخص الليال، وفي 1956 حاول ممارسة الطب النفسي ولكنه لم يلبث أن تخلى عن هذا الموضوع وواصل مهنة الطب حتى 1960 إلى أن انسحب منها وعين محرراً بجريدة الجمهورية وقام بأسفار في العالم العربي فيما بين 1956-1960، في 1957 تزوج يوسف إدريس.
وينشر "صدى البلد" قصة قصيرة ليوسف ادريس بعنوان "القبر":
كانت أشجار الكافور طويلة متباعدة وحيدة، وأوراقها تخرفش وتوشوش بنغم مبهم غامض وكان الطريق الذي أتى منه مجهورا كعادته، والناس يسلكون غيره من الطرق، والأطفال يخافونه وينسجون حوله أقاصيص الغيلان وقصور الجن، وأمامه تتبعثر المقابر متقاربة متلاصقة في سكون أمين صادقوهناك على قبوة الشيخ أبو المعاطي الذي لا يؤمه أحد، وقف غراب أسود ينعق في الحاح، وعلى بعد خطوات منه كان أبوه يرقد في قبره وفوقه أحجار وأزمان.
وراح في شيء ممزوج من الوحشة والخوف يحدق في بياض القبر، ويقرأ الكلمات التي نقشتها يد فنان القرية في سذاجة وبلا تزويق، وقرأ الكلمات مرارا، ومع كل حرف كان يستعيد عاما قضاه في بحبوحه أبيه ويذرف عقله الذكريات.
كان رجلا طيبًا ، عبقريًا في طيبته ، والبسمة دائمًا تضيء وجهه الأسمر المرح، وتنير الطريق أمام الناس إلى إنسانيته وسبح في سيل طويل من الذكريات ، ولكنه لم يبلغ منتهاه فقد شعر بعاصفة من الشوق تجتاحه.. الشوق إلى ضحكة أبيه العريضة الخالية من الهم، والشوق إلى كل دقيقة عاشها معه.
ولم يستطع المقاومة وارتمى على القبر وطوق جذعه المستدير بزراعه وبكى، وكان وهو يبكي كأنما يعتصر حياته في دموعه فلا يبقى منها إلا قشر تافه جاف وذكرته الدموع وهو يبكي بعرق أبيه، والصيف، وإقباله الباسم عليه ويديه القويتين حين يضمه، وكان حينئذ يقبله ويتحسس ما جاء إليه به فيقبله مرة أخرى.
كان كلما تذكر الصيف وكلما تذكر الشتاء بكى وبكى، حتى يخيل إليه أن الدنيا تسللت من أمامه حاملة كل ما لها وما عليها تاركة إياهما وحيدين معانقين وعما يشغله عن البكاء، وكذلك راح يخطط بإصبعه رغما عنه في تراب الجبانة الذي أمرضته شمس العصر الصفراء الشاحبة وبدأ إصبعه تتعثر في قطع عظام، وتستخرج بقايا شعر آدمى، وتصطدم بالأسنان البشرية التى ابتلعها الرماد، وشغله خاطر جعله يكف عن البكاء تماما، فهو يستطيع ان يقسم ان هذه العظام ليست لأبيه، فأبوه يرقد من زمن تحت هذا الطين.
ولكن غدا أو بعد غد من يدري ألن تبعثر عظامه وتطفو أسنانه هكذا فوق الأرض ؟؟ وما يدريه أنه لن يستحيل غدا تحت هذا التراب أو هذه الكومة؟، ودار السؤال في رأسه دورات، وفي كل مرة تزداد حيرته وتظلم الحقائق امامه، تبتعد، حتى بدأ يشك في القبر الذي يعانقه حين يتأمل في صوت مرتجف لكنه مسموع: حقيقة ما الذي أعانقه؟، وجاء الجواب شاحبا عليلا ميت الروح كشمس العصر، انه يعانق قبرا من تراب فوق كومة من تراب.
وعز عليه أن تفقده هذه الحقيقة البسيطة كل ما بقي له من أبيه، فسأل نفسه مرة اخرى ليفحمها إفحاما - وأين قبر أبي إذن ؟ ومن بين طيات نفسه برز له خاطر عجيب فقد أدرك ان اباه هناك - في عقله - في تلافيف مخه، حين يستقر القبر الذي يضم حياته ومماته والسنين التي قضاها تحت اجنحته، واما القبور التي تتبعثر أمامه فهي نواتئ جوفاء في أرضنا السمراء، وعاد الى القرية في ذلك اليوم بحقيقة هائلة جديدة.