سد النهضة قضية سياسية وحلوله "4"

لقد أجادت أثيوبيا ونجحت فى تجميع دول المنبع فى كتلة واحدة ضد مصر والسودان وتوقيع اتفاقية عنتيبى. واستغلالا لمناخ التعاون فى مشروع مبادرة حوض النيل الذى بدأ عام 1999، قامت أثيوبيا ببناء سد تكيزى على نهر عطبرة، ونفق تانا بليس على النيل الأزرق وبدون اخطار مصر عن هذه المشاريع، ومصر لم تحتج أو حتى تطالب بمعلومات عن المشروعين. ونجحت أثيوبيا عام 2008 فى اقناع مصر بالموافقة على تكليف مبادرة حوض النيل باعداد دراسات الجدوى لسدودها على النيل الأزرق. وقامت المبادرة باعداد هذه الدراسات والتى رفضتها مصر عام 2010 لأن السدود لها أثار كارثية على الحصة المائية المصرية وعلى الطاقة الكهربائية للسد العالى وخزان أسوان وكذلك على البيئة المصرية. وتم ايقاف مخطط السدود الأثيوبية مرة ثانية، حيث أوقف السادات المحاولة الأولى فى نهاية السبعينات من القرن المضى، ولكن لم تتوقف المحاولات الأثيوبية.
ومع ثورة يناير المصرية عام 2011، وبالتزامن مع تنحى مبارك، تم الاعلان فى احدى الصحف المحلية فى فبراير 2011 عن بناء سد اكس فى موقع سد الحدود (أحد السدود الأربعة الأثيوبية)، ثم تم وضع حجر أساس السد فى الثانى من أبريل 2011، ولكن بمسمى جديد سد الألفية وبسعة أكبر تصل الى 60 مليار متر مكعب بدلا من 14.5 مليار متر مكعب لسد الحدود طمعا فى الظروف الداخلية المصرية.
ومع تزايد تدهور الأوضاع الداخلية، تزايد الطمع الأثيوبى فى مصر، فتم زيادة سعة السد مرة ثانية الى 74 مليار متر مكعب عام 2012، وبمسمى جديد سد النهضة. ان البدء فى بناء سد النهضة هو بداية حقيقية لتنفيذ اتفاقية عنتيبى بالقوة على مصر. ان البدء فى بناء سد النهضة يمثل بداية حقيقية لتنفيذ المخطط الأمريكى الأثيوبى لالغاء السد العالى ودورة فى الحفاظ على مصر فى سنوات الجفاف والفيضانات المنخفضة وعلى دوره فى توليد الكهرباء.
ان البدء فى بناء سد النهضة هى بداية لتنفيذ مخطط سدود متكامل ليس فقط على النيل الأزرق بل على عطبرة والسوباط والنيل الرئيسى. أى أن البدء فى بناء سد النهضة يمثل فى الواقع بداية حقيقية لتقزيم دور مصر الاقليمى وبزوغ الدور الأثيوبى كقوة اقليمية كبرى. فهل نترك هذه الأزمة لمفاوضات فنية فرضت أجندتها أثيوبيا. ان الحكومة الأثيوبية لن تتراجع أمام شعبها أو أمام المنطقة والعالم عن مخططاتها لهذا السد بسهولة. ان الأمر يتعلق بطموح أثيوبيا السياسى لتصبح قوة رئيسية فاعلة فى المنطقة وذلك بالسحب من الرصيد السياسى لمصر، وأن أثيوبيا ترى أن الفرصة الحالية فرصة ذهبية، وذلك فى ظل عدم الاستقرار والمشاكل الداخلية فى مصر، وقد لا تأتى هذه الفرصة مرة ثانية لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجى والذى طال انتظار تحقيقه منذ عقود بل منذ دهور طويلة.
والغريب أنه لم تتوافر أى دراسات لهذا السد وقت وضع حجر اساسه بل أن العديد من دراساته اكتملت عام 2013 كما جاء فى تقرير اللجنة الثلاثية الدولية لسد النهضة. واللجنة الثلاثية كان قد تم تشكيلها فى ديسمبر 2011 من خبراء من أثيوبيا ومصر والسودان، بالاضافة الى أربعة من الخبراء الدوليين. وانتهت اللجنة من أعمالها فى نهاية مايو 2013 باصدار تقرير نهائى يفيد بأن معظم الدراسات الأثيوبية للسد غير مكتملة وشمل التقرير عدة توصيات باعادة العديد منها مع ايضاح أن السد ستكون له أثار سلبية على مصر.
والغريب أن مصر حتى الأن لم تنشر نتائج هذا التقرير الداعم لها وبالرغم من عدم سريته. وبعد ثورة يونيو المصرية عقد وزراء المياه فى السودان ومصر وأثيوبيا ثلاث اجتماعات فى مدينة الخرطوم فى شهر نوفمبر وديسمبر 2013 ويناير ،2014 للاتفاق على تشكيل لجنة لمتابعة توصيات اللجنة الثلاثية الدولية من مراجعة واعادة دراسات انشائية وهيدرولوجية وبيئية واقتصادية للسد، وفشلت هذه المباحثات الفنية لأنها مشكلة سياسية فى المقام الأول. وكيف نتباحث حول دراسات انشائية للسد ونحن نعترض على حجمه وارتفاعه لتأثيراته الجسيمة على مصر؟ وكيف نترك أثيوبيا مستمرة فى انشاء السد؟ وأثيوبيا تستخدم عامل الوقت للضغط على مصر وفرض سياسة الأمر الواقع عليها. والمفاوضات الفنية لاغنى عنها فى وضع الحلول والتأكد من عدم اضرارها بمصر، ولكن بعد الاتفاق السياسى على ركائز هذا التفاوض الفنى وأهدافه.
يجب أن يكون هناك طرحا مصريا رسميا لتسوية قضية سد النهضة، فلا أحد يعرف حتى الأن اقليميا أو دوليا عما تريده مصر، وأثيوبيا تروج داخليا وخارجيا أن مصر ترغب فى الغاء السد والاستئثار بمياه النيل وحدها ومنع التنمية فى أثيوبيا وفى دول المنبع. ولكن ماذا يمكن أن تطرحه مصر من حلول؟ ان تقليل سعة سد النهضة التخزينية والتوافق حول السياسات التشغيلية للسد سنوات التخزين يمثل حلا وسطيا وعمليا يحقق قدرا معقولا من الأهداف الأثيوبية ويحقق الفوائد السودانية المتوقعة من السد ويقلل الأضرار المتوقعة على مصر. ولكن هذا الحل لقبوله من الطرف الأثيوبى لابد أن يكون فى اطار تفاهم سياسى يحقق بعض من الاهداف الأثيوبية الاستراتيجية. وفى حالة الاصرار الأثيوبى على السد بأبعاده المعلنة بالرغم من كفاءته التصميمية المتدنية فى توليد الكهرباء والتى تبلغ فقط حوالى 30% ، فانه سيكون واضحا على المستوى الاقليمى والدولى أن التنمية ليست هى السبب الحقيقى خلف بناء السد بل الهدف هو التحكم الأثيوبى فى مياه النيل الأزرق وفى تدفقاته الى مصر والسودان وفى مقادير شعبيهما.