ترامب الزعيم قاهر «الحمار والفيل»!

كلما جلس الرئيس دونالد ترامب وراء مكتبه، وحمل القلم ليوقع به أمرا تنفيذيا جديدا، تهبط القلوب في صدور المدافعين عن حقوق الإنسان، تخوفا من الجديد الذي سيأتي به الأمر الجديد الجاري توقيعه.
فكل أمر تنفيذي وقعه منذ جلس على مقعد الرئاسة، كان يثير ضجة وجدلا في المجتمع الأمريكي وفي العالم، بدءا من توقيعه الأمر القاضي بتجميد العمل بقانون أوباما كير الذي رحب به لدى تنفيذه ملايين الأمريكيين، وإذا به يلغيه بجرة قلم.
كما وقع الأمر القاضي ببناء جدار فاصل على امتداد الحدود الأمريكية مع المكسيك، جاء أخيرا القرار الأكثر إثارة للضجة، وهو قرار حظر السفر إلى الولايات المتحدة الذي فرض على سبع دول إسلامية هي سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال والسودان وإيران، بل واعتبار تأشيرات الدخول الصادرة قبل المنع لاغية، ومثلها وثائق "الجرين كارد" التي تأذن للبعض بالإقامة تمهيدا لحصولها على الجنسية.. هذه أيضا لاغية.
وأثار القرار ضجة كبرى لأنه لا يفرض حظرا مستقبليا، بل حظرا بأثر رجعي يلغي مفعول تأشيرات صدرت فعلا، كما يلغي بطاقات جرين كارد فاعلة وقطعت شوطا في هذا المضمار. ولكن الأهم من ذلك، أن أوامره التنفيذية المتسارعة تلك، تؤكد جديته في كل ما طرحه في حملته الانتخابية، واعتقد البعض أنها مجرد طروحات لغايات انتخابية، وتبين الآن أنه جاد بها جميعها، مما ينذر أيضا، بعد أن نفذ توجهه الحذر نحو المسلمين، أن يلحقه بطرد ملايين المقيمين إقامة غير شرعية في الولايات المتحدة وغالبيتهم من الإسبان، أي المكسيكيين ومن دول أميركا اللاتينية، وأن يتشدد في اضطهاد حتى المقيمين منهم إقامات شرعية، وربما لاحقا في التوجه نحو تمييز الأبيض الأميركي على الأجناس والإثنيات الأخرى، (فهذا التوجه قد لمس بين سطور حملته الانتخابية) مما قد يؤدي تدريجيا الى انبعاث حركات كوكلاكس كلان التي طالما اضطهدت السود بل والكاثوليك أيضا.
لكن الأخطر في قراره الخاص بحظر دخول الولايات المتحدة على مسلمين من ست دول عربية إضافة إلى إيران، أنه لم يستند إلى أسس صحيحة ومبررات جدية. فهو كما يقول ترامب ويدعي، قد فعل ذلك كي يبعد خطر الإرهاب عن بلاده، باعتبار أن هؤلاء المسلمين من تلك الدول، هم إرهابيون بطبيعتهم. ولكنه عندما فعل ذلك واتخذ هذه الخطوة الجبارة المبتعدة تماما عن كل المفاهيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، ومنها حق اللجوء إذا تعرضت حياة الإنسان للخطر، لم يفعل ذلك بعد دراسة متأنية واستنادا الى أدلة مدروسة ومضمونة. فعلى أرض الواقع مثلا، لم يقم الصوماليون الممثلون بشباب الصومال، بأي عملية أرهابية في الولايات المتحدة (غير واحدة)، اذ اقتصرت هجماتهم في الداخل الصومالي وفي بعض دول الجوار أحيانا ككينيا مثلا.
وكما الأمر بالنسبة لإيران. فالواقعة الوحيدة التي نفذ فيها عمل إرهابي مواطنون من أصل إيراني، تمثلت في ذاك هجوم مسلح على مركزا طبيا في مدينة بيرناردينو بولاية كاليفورنيا في الثاني من ديسمبر 2015 وتسبب الهجوم بمقتل أربعة عشر شخصا. فهذه هي الواقعة الوحيدة التي نفذها، في مدى أربعة أعوام من انتشار الارهاب، مواطنان من اصل ايراني، وبطبيعة الحال لا تبرر أبدا فرض حظر على كل الايرانيين، (خصوصا وأن البعض يشكك بكونهما ايرانيين بل باكستانيين) ما لم يكن الغرض من وراء فرض الحظر على ايران، هو التعويض عن عجزه عن احباط اتفاق دولي وقعه الرئيس أوباما، أراد ترامب الغاءه، ولكنه لم يفلح بعد في ايجاد المبررات المقنعة أميركيا ودوليا لخطوة كهذه. والمقصود بذلك الاتفاق النووي الذي وقعته مع ايران، دول خمسة زائد واحد.
الأمر ذاته ينطبق على السوريين والعراقيين والليبيين والسودانيين، اذ أن عمليات الارهاب منذ أربعة أعوام والى الآن، لم تسجل عمليات ما، ولو واحدة، نفذها مواطنون من هذه الدول الأربع. وأنا اتحدى الرئيس ترامب أو مساعديه، بأن يسموا عمليات كهذه ارتكبها سوريون، عراقيون أو ليبيون أو سودانيون خلال الأعوام الأربعة الماضية، أي منذ ظهر الارهاب بظهور داعش والدولة الاسلامية.
والواقع أنني أناقش هذا الأمر بثقة تامة، لأن موضوع العمليات الإرهابية التي ينفذها ذئاب منفردة متعاطفة مع الدولة الإسلامية في دول العالم بما فيها الولايات المتحدة، كانت موضوع دراسة مكثفة لي اضطرتني للبحث والتنقيب طويلا في عدة مراجع، تمهيدا لإصدار كتاب لي حمل عنوان "الذئاب المنفردة - وجه آخر للدولة الإسلامية". فقد تابعت وقائع كهذه ، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل في دول العالم كلها. وتضمن كتابي الذي انتهيت من صياغته مع اليوم الأخير من الشهر العاشر من عام 2016 جدولا تفصيليا بكل العمليات الارهابية التي نفذت في الدول الأوروبية، في كندا، استراليا، وفي الولايات المتحدة خلال الأعوام 2013 - 2016. ولم يتضمن ذاك الجدول غير عملية بيرناردينو التي وصف منفذاها بأنهما ايرانيين (مع ظهور شكوك حول جنسيتهما)، وعملية واحدة نفذها أميركي من أصل صومالي، مما لا يبرر إطلاقا إدراج هاتين الدولتين على قائمة المحظورين.
والغريب في الأمر أن هناك دولا أخرى نفذ رعاياها عدة عمليات إرهابية في الولايات المتحدة وكانت نتائجها ضارة للأميركيين، ومع ذلك لم يفرض حظر على رعاياها يمنع قدومهم للولايات المتحدة. ففي 24 سبتمبر 2016 هاجم مسلح أسواق سكاي التجارية قي مدينة بيرمنجتون بولاية واشنطن،وتسبب بجرح تسعة أشخاص. وتبين لدى القاء القبض عليه أنه من أصل تركي، اسمه "أركان جيتين" وعمره 20عاما. ولكن لم يشمل حظر السفر تركيا رغم هذه الواقعة ورغم كونها اسلامية. وهو لم يشمل أيضا افغانستان التي نفذ بعض رعاياها عدة عمليات ارهابية بين الاعوام 2013 - 2016، ومع ذلك فان هذا الحظر لم يشمل الرعايا الأفغان.
والأهم من ذلك أن هناك العديد من العمليات الارهابية التي نفذها أميركيون لم ينحدروا من دولة اسلامية شرق أوسطية، بل كانوا أميركيين بكل معنى الكلمة.
لم يشمل قرار ترامب أيضا رعايا المملكة السعودية التي شارك 18 من رعاياها في عمليات تدمير البرجين في نيويورك وفي قصف البنتاعون عام 2001 مما أودى بحياة ثلاثة الاف مواطن اميركي. وعزز الحق في إدانة ما نفذه سعوديون وادى الى هذه المذبحة، صدور قانون جاستا الذي أقره مؤخرا الكونجرس الأميركي المسيطر عليه من قبل الجمهوريين، واذن للمواطنين الأميركيين بمقاضاة السعودية على الأضرار المادية والمعنوية التي اصابتهم. وحاول الرئيس أوباما الحيلولة دون تنفيذ القرار. لكن الكونجرس بثلثي أعضائه والمسيطر عليه جمهوريا، أصر على تنفيذه ورفض - رفض الرئيس اوباما له. ومع ذلك فها هو الرئيس ترامب، يتجاهل ما الحقه مواطنون سعوديون من اذى فعلي وفاحش بالشعب الاميركي، فلم يفرض حتى مجرد رقابة على تجولهم أثناء تواجدهم في الولايات المتحدة.
وبطبيعة الحال فان هذا أمر طبيعي تقتضيه المصلحة الاميركية، اذ أن الرئيس ترامب الذي انذر وتوعد دول الخليج خلال حملته الانتخابية، لم يلبث حتى تراجع عن موقفه الرافض لتقديم الحماية لهم بدون مقابل مجزي. ولعل تراجعه عن هذا الموقف هو التراجع الوحيد عما لوح وهدد به خلال حملته الانتخابية. فمصلحة الصناعة الأميركية، وبالذات الصناعة العسكرية، ستكون مهددة لو تشبث بموقفه ذاك، خصوصا وأن حجم مشتريات السلاح لدول الخليج السنوي، يقارب الأربعين مليار دولار. فتوقف السعودية ودول الخليج عن استيرادها من الولايات المتحدة، سيؤدي لتعطيل بعض أنواع الصناعة، صناعة التسليح، التي تشكل دول الخليج سوقها الرئيسي، مما سيؤدي لتزايد البطالة، الامر الذي جعل محاربتها (أي البطالة) واحدا من أهم ما يسعى ترامب اليه.
والواقع أن الولايات المتحدة هي أقل الدول تضررا من قضايا اللاجيئن والأعمال الارهابية، وأكثرها تضررا هي فرنسا والمانيا وبلجيكا والدانمرك. وهذه الدول تحاول التعامل مع الأمر في نطاق القوانين الانسانية, وها هو الرئيس الفرنسي أولاند وكذلك المستشارة الألمانية ميركل، أكثر من أدان قرار ترامب هذا. والواقع ان هذا القرار الترامبي مجرد بعض من فيض، ونفحة من أهوال قد تهطل على الولايات المتحدة وعلى العالم. فهذا الرئيس الجديد، الذي لا يتوقف لدى افتقاره للخبرة السياسية، يتمتع بطموح كبير لأن يصبح شيئا أكبر من مجرد رئيس. أنه يتطلع لأن يكون زعيما وقائدا تاريخيا للولايات المتحدة، تماما كجورج واشنطن وابراهام لينكولن.
ولادراك ذلك لا بد من قراءة خطابه في حفل تدشينه رئيسا. أنا شخصيا توقفت طويلا أمام نقطتين: قوله أن أميركا أولا، وثانيا أنني سأعيد السلطة لكم، للشعب...انها السلطة التي سلبها منكم سياسيون في واشنطن. وسياسيو واشنطن هما السياسيون في الحزب الدمقراطي الذي يتخذ من الحمار شعارا له وفي الحزب الجمهوري الذي يتخذ الفيل رمزا، اذ غالبا ما يكون احدهما في الموقع التنفيذي والآخر في الموقع التشريعي. كلماته هذه أوحت لي بأن هذا الرجل الطموح الذي عارض الحزب الجمهوري ، حزبه، عارض ترشحيه... هذا الرجل قد يطيح قريبا بالحزبين وبالديمقراطية، واتوقع له ان يؤسس الحركة الترامبية التي يريدها ان تبقى طويلا.... وطويلا جدا. وآمل أن أكون مخطئا في تقييمي هذا.