هل كانت هجمة صواريخ التوماهوك على القاعدة السورية "الشعيرات" قرب حمص انتقاما لما وصف بقيام بشار الأسد، الحليف والصديق لروسيا الاتحادية، بقصف خان شيخون بالكيماوي مما أدى إلى مقتل 79 مدنيا، أم كانت له أهداف أخرى، بل وحيدة، وهي التمويه والتضليل وإبعاد الأنظار عما يتوقع أن يواجهه قريبا حفنة من جماعة ترامب وبطانته، ومنهم صهره زوج ابنته "جاريد كوشنار" ومستشارين عملا مع ترامب واضطرا للاستقالة ومنهم David Nunes ومايكل فلين.
ويطالب أحدهما بالحصول على الحصانة ليقول كل شيء أمام لجنة تحقيق في الكونجرس، ضمن تحقيق أمام مجلس النواب والشيوخ بخصوص علاقتهم ومكالماتهم المشبوهة مع روسيا الاتحادية خلال مرحلة حملة الانتخابات الرئاسية، بل وبعدها أيضا.
ويعزز القول بأن الهجمة لم تكن تهدف للانتقام لأولئك الضحايا، وبأنها كانت مجرد عملية استعراضية تمويهية، كونها لم تكن هجمة تدميرية يقصد بها الإيذاء الشديد رغم استخدامها لثمانية وخمسين صاروخ توما هوك استهدفت القاعدة السورية، وكلفتها (أي صواريخ توما هوك) الملايين، أي أكثر من الدمار رغم جسامته، الذي ألحق بالقاعدة السورية وتسبب بمقتل بعض الأبرياء.
فالولايات المتحدة قد اتصلت بالحكومة الروسية وأبلغتها مسبقا عن توجهها لقصف تلك القاعدة، وقام الروس بإنذار حلفائهم السوريين الذين قاموا بدورهم بإخلاء القاعدة من كل الطائرات الحديثة المتواجدة في القاعدة، إذ عمدت إلى الإقلاع فورا، متوجهة إلى مطارات أخرى، فلم يبق في القاعدة إلا طائرات قديمة أو معطوبة.
وربما كانت تلك الخطوة تسعى لتجنب الصدام الشديد مع روسيا، لكنها في ذات الوقت أفسدت المهمة وأهدافها، فلم تحقق إلا الهدف الاستعراضي الذي كلف الولايات المتحدة ملايين الدولارات، إن لم يكن ملياراتها هي كلفة صواريخ توماهوك باهظة الثمن، وكلفة العملية العسكرية ككل.
وربما كان هدفها أيضا تجنب الصواريخ الروسية المضادة التي كانت ستنطلق تلقائيا لمواجهة الصواريخ المهاجمة، مما كان سيؤدي إلى صدام تناحري مباشر بين روسيا وأمريكا، وتسعى اتفاقية التنسيق الروسية الأمريكية المسماة باتفاقية سلامة الطيران، لتجنب حصوله وقيام الطائرات أو الصواريخ الروسية بالتعرض للطائرات الأمريكية التي تعبر الأجواء السورية في طريقها لقصف "داعش" أو مواقع إرهابية أخرى كمواقع جبهة النصرة.
وهذه الهجمة الأمريكية غير المبررة، قد نفذت دون الحصول على قرار من مجلس الأمن، ودون انتظار نتيجة الحوار والنقاش والتحقيق حول قضية خان شيخون وتحديد المسؤولية عنها: هل هي سوريا أم جهات أخرى.
واتهم المندوب الروسي في مجلس الأمن الولايات المتحدة بأنها تخشى نتيجة التحقيق الدولي حول هذا الموضوع، ويبدو أنها نتيجة خشيتها تلك، قد استعجلت الضربة الصاروخية على القاعدة السورية لتحويل الأنظار في اتجاه آخر.
وكان وزير خارجية روسيا قد ذكر في موسكو بغزو الولايات المتحدة للعراق دون استصدار قرار من مجلس الأمن واستنادا لتقارير استخبارية، ثبت لاحقا عدم صحتها وفبركتها، وها هي الآن تكرر الخطأ ذاته بقصفها القاعدة السورية قرب حمص دون انتظار نتائج التحقيق.
كل المؤشرات تدل على أن سوريا هي المستهدفة من تلك العملية الكيماوية، لأن قواتها العسكرية تحقق النصر تلو الآخر مما أدى إلى فرض وقف إطلاق النار ومؤتمر آستانة بل ومؤتمر جنيف أيضا، كل الأمور إذن كانت تسير لتحقيق مصلحتها، فعندما تقوم بتنفيذ ضربة كيماوية غبية لا تؤد إلا لإيذاء مصالحها، خصوصا وأن الولايات المتحدة قد قبلت للتو المبدأ القائل بأن تنحية الرئيس الأسد لم يعد من أولوياتها، فالإرهاب هو في مقدمة أولوياتها.
وفي المقابل كانت المعارضة المسلحة غير المشمولة بوقف إطلاق النار، وعلى مدى شهرين أو أكثر، تسعى بالتحالف مع حلفائها من أحرار الشام وغيرهم، لإحباط مشروع السلام الذي بدأ بوقف إطلاق النار الذي لا يشملهما.. فمع بداية فبراير قامت جبهة النصرة، أي فتح الشام كما تسمى أحيانا، وهيئة تحرير الشام كما تسمى الآن، بإسقاط طائرة ميغ 25 سورية، بهدف إفساد عملية السلام والتذكير بوجودها في الساحة وبوجوب عدم تجاهلها.
وبعدها بأيام، وبالذات في14 فبراير، افتعلت معركة في حي المنشية من أحياء درعا الواقعة في جنوب سوريا، استمرت ثلاثة أسابيع وأسقطت 89 قتيلا على الأقل، وبمجرد انتهاء هذه المعركة دون تحقيق هدفها في إسقاط وقف إطلاق النار أو المؤتمرات التي تلته، لجأت النصرة لعمل استدراجي أكثر قوة وعنفا وتحديا، فهاجمت دمشق ذاتها قادمة من حي جوبار وحي الغابون، محاولة الوصول إلى ميدان رئيسي في دمشق.
واستمرت المعركة عدة أيام بين كر وفر بين الجهتين انتهت أخيرا وبعد عدة أيام من القتال، بطرد المهاجمين بعيدا عن دمشق، وهنا لجأت جبهة النصرة لخطة أخرى لاحقة معدة سلفا كخططها السابقة والمتلاحقة، إذ هاجمت حماة وريفها، وسيطرت على مطار وعلى أجزاء كبيرة من ريف وقرى مدينة حماة.
وبطبيعة الحال وكما هو متوقع، شنت القوات السورية هجوما مضادا احتاج لأكثر من أسبوعين من القتال، لتستعيد سوريا معظم المواقع التي خسرتها محبطة خطة جبهة النصرة الساعية لإسقاط اتفاق وقف إطلاق النار ومؤتمري الآستانة وجنيف اللذان انفضا على اتفاق للعودة للاجتماع بعد وقت قريب.
وجاء ذلك في وقت أعلنت فيه أمريكا بأنها لم تعد معنية بإسقاط الرئيس بشار الأسد كأولوية، فأولويتها تقتصر على مقاومة الارهاب، وهنا أسقط في يد النصرة، كما يرى أحد المحللين، وأنا أميل لتأييد رأيه وتحليله، بأنه الآن بات من المتوقع ، بل الضروري، تنفيذ مخطط استخباري جريء معد سلفا وينتظر اللحظة المناسبة لتنفيذه باعتباره الحل الأخير والضروري. وكان ذلك المخطط يقتضي تفجير كمية من المواد الكيماوية بطريقة توحي بأن سوريا كانت وراء ذاك التفجير. فكان هناك إعداد مسبق بوضع كمية من الأسلحة الكيماوية في مخزن ما أو موقع ما.
ووضعت شحنة ناسفة هناك قربها بانتظار قدوم الطائرات السورية للإغارة على إدلب، وعندما حلقت الطائرات فعلا في الجو، قامت مجموعة أرضية بتفجير الشحنة الناسفة التي أدت لتفجير كمية المواد الكيماوية الموجودة إلى جانب الشحنة الناسفة، سواء في مستودع ما، أو في موقع سكني مدني، وهو الأرجح، ليلحق أكبر ضرر بالمدنيين كما حصل فعلا.
أسوأ ما في الأمر، ليس وقوع الشرخ بين روسيا وأمريكا كما حصل الآن، بل احتمال تطوره إلى الأسوأ، فالسيئ أن أن تقتبس أقوالا صادرة عن البيت الأبيض، مفادها بأننا سنسمع عن مزيد من الضربات لسوريا، وكررت هذه الأقوال "نيكي هيلي" مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن، وهذا الأمر إذا ما حصل، سيؤدي سريعا إلى مواجهة تناحرية بين روسيا وأمريكا، وقد يؤدي في غفلة من الزمن إلى حرب عالمية أو شبه عالمية، وهذا بالطبع ما ترغب به النصرة وداعش، إذ إنه في خضم فوضى الحروب والمعارك، ستكون فرصتها للسيطرة على أجزاء أوسع من العالم، وكما قال Andrew Exum المحرر في مجلة اتلانتيك، بأن هذه العملية قد وضعت أمريكا في مركز الشريك لداعش (وللنصرة) الذين تحاربهم سوريا.
ويقول علاء ابراهيم ، معلق سياسي سوري مستقل، في حوار له مع "سي ان ان" أجرته معه "كريستيان امانبور" إن الخوف الأكبر بأن تعتبر التنظيمات المسلحة هذا الموقف تشجيعا لها، فتقرر الاستمرار في القتال، وإحباط وقف إطلاق النار، وعدم الدخول في مفاوضات سياسية باحثة عن الحل السياسي، مما يعني مزيدا من الدماء لسنوات آخر، فلو حصل ذلك ولقي ترحيبا ودعما من أمريكا ترامب، فإنه قد يؤدي لاحقا لإسقاط الأسد، ولكن ليحل محله نظام إسلامي متشدد من النصرة أو داعش، فكأنني بالرئيس ترامب يسعى لتحويل سوريا إلى سوريستان، على غرار أفغانستان، فهل هذا ما تريده أمريكا حقا؟
لكن الرئيس ترامب قد لا يكون في هذه الدرجة من الغباء.. نعم تصرف ببعض الغباء أو عدم الخبرة السياسية في أيامه الأولى، لكن للغباء حدود كما للصبر حدود، لقد أخطأ عندما أصدر أمره التنفيذي الأول بفرض حظر على قدوم رعايا ثمان دول عربية وإسلامية إلى أمريكا، فرفضت محكمة عليا في ولاية واشنطن هذا الأمر التنفيذي واعتبرته غير دستوري.. فأتبعه بقرار تنفيذي آخر مشابه ولكن فيه تعديلات استثنيت بموجبها العراق ومن يحملون تأشيرات مسبقة أو جرين كارد.. لكن محكمة عليا أخرى رفضته وأيدتها محكمة أخرى في ولاية ماري لاند المحاذية لواشنطن.
وتبع ذلك فشل الرئيس في تمرير مشروع قانون في الكونجرس لإلغاء قانون "أوباما كير" الصحي، وذلك لعدم وجود أغلبية تؤيده في مجلس الشيوخ، كما فشل (الجمعة) فشل في تمرير قراره بتعيين أحد القضاة في المحكمة الأمريكية العليا، لعدم حصول الاقتراح على ستين صوتا (حصل على 54) التي اقتضى العرف حصوله عليها لتمرير القرار.
ومن باب العناد، يسعى الآن ترامب لاتخاذ قرار في الكونجرس بتغيير ذاك العرف السائد منذ أجيال، والاتفاق على إقرار تعيين القاضي المرشح لمحكمة العدل العليا من قبل الأكثرية في مجلس الشيوخ ، وليس من قبل ستين عضوا من أصل مائة عضو.
فهذا التخبط وما يفرزه من خيبة آمال متلاحقة للرئيس الجديد، ربما دفعه، إضافة لما يواجهه أنصاره ومستشاروه من احتمال مواجهة تحقيق حول اتصالاتهم الغامضة بروسيا، للاستعجال في اتخاذ قراره بقصف سوريا بالتوماهوك، باعتباره قرارا تنفيذيا قابلا للتحقيق دون اعتراض من المعارضة أو من محكمة عليا عليه، علما أن "السي أن أن" قد أوردت بأن "ستيف بانون" من كبار مستشاري ترامب، كان ضد الضربة الصاروخية، لكن ترامب كما يبدو لم يستمع إليه رغبة منه في تحقيق نصر ما.
والمأمول الآن أن يستمع إلى جادة العقل ويفكر قليلا في خطواته القادمة، علما أن سلطاته التنفيذية تأذن له منفردا بتوجيه ضربة كهذه، لكنها لا تسمح له بتكرارها دون الرجوع إلى الكونجرس والحصول على موافقته، مما يعني وجود احتمال بأن يلجم الكونجرس احتمال تهوره نحو الأسوأ إذا اعتبر تصرفه تهورا، وليس ضربة استعراضية تمويهية تغطي على شيء ما.