أبطال السباحة الجافة

«اللي عالبر عوام »، و«اللي إيده في الميه مش زي اللي إيده في النار»، أمثلة شعبية راسخة في وجدان الثقافة المصرية حتي تكاد تسمعها يوميا في الشارع المصري، رغم ذلك لا تجد لها تأثيرا حقيقيا في المعاملات اليومية، الجميع منشغل بتقييم الجميع إلا نفسه، تخيل لو أنك اتخذت قرارا لإصلاح أي شيء تعرض للتلف المفاجئ تأكد أن أول سؤال ستواجهه ممن قصدته للإصلاح هو.. من أصلح ذلك من قبل ؟، لينطلق في سرد عيوب وقلة مهارة من قام بالإصلاح قبله وأنه سيقوم بتدارك كل ذلك ثم يفاجئك بأنه كرر ما انتقده من أخطاء لمنافسه المجهول.
تلك الحالة التي أصبحت ثقافة مصرية خالصة لم تسلم منها أي طبقة من طبقات المجتمع إلا من رحم ربي، لم تتوقف عند حد التعاملات الشخصية بل انسحبت إلي تعامل المواطن مع الدولة التي أصبح يتعامل معها كما يتعامل مع زميله المواطن، فبات يخضعها لهوايته في التقييم اللحظي غير المستند لأي خبرة في أي مجال حتي أنه يصل لحلول لجميع الأزمات في الوقت الذي تجده نموذجا للفشل في إدارة الذات فلا يلتزم بأي موعد ولا يتقن أي شيء يسند إليه، وتمر عليه السنين دون تحقيق أي نجاح في أي مجال سوي قدرة هائلة علي تبرير فشله الشخصي.
ظاهرة الإفتاء بغير علم لم تستفحل خطورتها إلا بعد تطور وسائل الإعلام وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت متاحة في أيدي الجميع، وبعد أن وصلت عدواها لمناضلي السياسة ممن احترفوا السباحة الجافة دون النزول للماء فلم يسلم منهم من حاول وغرق ولا من قاوم ونجح في إنقاذ نفسه وغيره، الجميع خضع لتقييماتهم النظرية التي راحوا يصدرونها للمجتمع باعتبارها حلولا نموذجية لمشاكل وأزمات وطن قرروا عدم خوض معاركه مستمتعين بالاسترخاء علي شواطئه بعدما اطمأنوا أن السباحة وملاطمة الأمواج التي تواجهه هي قدر لغيرهم.
أبطال السباحة الجافة يعرفون بعضهم البعض ويلتقون في مجموعات لا تحترف إلا الأفكار المجففة، قدرتهم علي الاسترسال في الكلام تمنحهم طلة مميزة علي جمهورهم المنخدع، باتوا وبلا مبالغة خطرا علي السلم الاجتماعي وعلي مستقبل الوعي المصري بعدما تمكنوا من تشكيل جماعات تقدم نفسها للأجيال الشابة باعتبارها النخبة القادرة علي ضرب المثل، يحجزون لأنفسهم مكانا في سطور التاريخ ليزاحموا أبطالا ورموزا ضحوا ودفعوا أثمانا باهظة ولم يسلموا من التجريح لمجرد أنهم قرروا خوض تجارب حقيقية فخضعوا لمعايير الواقع سلبا وإيجابا إلا أنهم قدموا تجارب حقيقية يمكن أن يقوم عليها بناء حقيقي لتراكم الخبرة والمعرفة.
محترفو السباحة الجافة لم يتحملوا حتي الجلوس علي الشواطئ بعدما أصابهم شيء من رذاذ الوطن فقرروا الانسحاب لممارسة السباحة علي الأسفلت ، إلا أنهم لم يتوقفوا عن جلسات التنظير وعرض الحلول دون أن يكشف أحدهم إلي أي خبرة يستند وعلي أي واقع يرتكز، إنها آفه قومية أصابت هذا الوطن فخلقت جيلا منخدعا ظن أنه يمكن أن يحجز لنفسه مكانا دون عناء ولم يكتف بذلك فحسب بل راح يمارس الاستعلاء التنظيري مانحا نفسه حقوق التقييم الحصري لتجارب وعثرات الكادحين.
إنها حالة من البناء علي الوهم تستوجب مواجهة قومية لجماعات اعتبرت شرف المحاولة بابا لتجريح من بادر وبذل فأخطأ وأصاب، إياك أن تستسلم لأسطورة السباحة الجافة.