الحرب على الفساد

تكاد تطالعنا الصحف والأخبار يوميًا بوقائع وتفاصيل ضبط أحد المسئولين بالدولة متلبسًا بالفساد، المبالغ المعلن عنها ضخمة تعود بأكملها إلي خزانة الدولة، وقد يتساءل البعض وما الإنجاز في هذا إذا كان من المفترض أن الأصل في الإنسان هو عدم الفساد؟
والسؤال هنا يبدو منطقيًا لو أننا في مواجهة ظاهرة فردية، لكن الحالة المصرية قد استفحلت بعد تراكم السنين وبعدما أصبح الفساد ثقافة شعبية وممارسة يومية وسلوكًا وعادة، إذن نحن هنا أمام مواجهة قانونية واجتماعية ونفسية في غاية الصعوبة.
تخيل أن هذا الفساد قد وصل في بعض الأوقات إلي أنه لم يعد يؤرق أحدًا طالما أن دائرته اتسعت وزادت أعداد المستفيدين منه، ورغم صحوة الدولة الآن في مواجهته من خلال حملة ممنهجة تكشف عن إرادة حقيقية لاقتلاعه من جذوره والإعلان عن نتائج الحملة يوميًا، إلا أن الاعتقاد مازال سائدًا أن محاربة الفساد هي مسئولية سيادية تقع علي الدولة وحدها وليس للمواطن أي دور في ذلك، هذه هي المشكلة الرئيسية.
في السنوات الأخيرة لم تكف وسائل الإعلام ولم تكف الجلسات الخاصة والعامة عن حديثها حول الفساد بحق وبغير حق إلا أن أحدًا لم يجرؤ علي تشخيص دور المواطن في تكريس هذا الفساد الذي هو محوره، فالفاسد مواطن والمستفيد مواطن آخر والمضرور مواطن ثالث، بل إن المجتمع نفسه قد ساهم في ترسيخ فكرة الفساد عندما بدأ يضفي علي الشخص الفاسد صفات أكسبته حيثية اجتماعية أصبحت محلًا للتباهي والتفاخر عندما وجد الفاسد نفسه متمتعًا بأوصاف مقترنة بالقوة والنفوذ مثل فلان واصل، أو فلان جامد وغيرها من أساليب المديح التي تستخدم في غير محلها.
ولم تقف تلك الظاهرة عند حدود الاستخدام اللفظي فحسب بل ساهمت في خلق طبقة ممن يمكن أن نطلق عليهم المفسدين الذين وجدوا من يلتف حولهم لعله يتمكن من تحصيل أي مكسب من تلك الحالة، فزادهم ذلك الالتفاف رغبة في المزيد من الفساد والإفساد.
حالة الفساد لا تنشأ في الفراغ بل في محيط حاضن من خلال اتصال مباشر أو غير مباشر بأطراف منظومة الفساد تتم بين الشخص الفاسد إلي المستفيد أو غير المضرور إلي المتخاذل عن المواجهة، الجميع يساهم في تخليق الحالة وتناميها، والجميع يلقي بها بعد ذلك في وجه الدولة لمواجهتها دون أي عناء من المواطن الذي هو غالبًا ما يكون هو أحد عناصر تلك المنظومة.
ليس هذا فحسب بل إن المواطن الذي يشتكي من الفساد هو نفسه المواطن الذي يشتكي من بيروقراطية الدولة إذا طلب منه إنهاء إحدي مصالحه بالطرق المشروعة خاصة إذا كان قد سبق له إنهاء نفس المصلحة بالطرق الملتوية وفي الحالتين يوجه سخطه للدولة، وليس هناك من يريد أن يأخذ زمام المواجهة ليبدأ بنفسه أولًا.
انتشار الفساد وتمكنه وتمكينه يمثل تهديدًا للسلام الاجتماعي وخطورة علي أنماط سلوك الأجيال القادمة، والتخاذل في مواجهته يؤدي لما يلي:
> إهدار قيمة القانون.
> استنزاف مصداقية الدولة.
> استمراء السلوك الفاسد وتحويله إلي عادة.
> القضاء علي قيمة تكافؤ الفرص.
> غرس الإحباط في وجدان الأجيال الناشئة.
> تستغل التيارات الظلامية الفساد.. فرصة المزايدة علي الأنظمة الموصومة بالفساد.
> منح جماعات الضغط الممولة فرصة الطعن في شرعية الأنظمة القائمة
> إحداث خلل جسيم في المنظومة الأخلاقيه الشاملة.
ووفقًا لهذا المفهوم فإن مواجهة الفساد ليست إجراءات جنائية وقانونية فقط إنما مشروع قومي يتصدي لأصعب ما يمكن التصدي له وهو تقويم السلوك المجتمعي وتعديله من خلال منظومة مباشرة لم يكن لها أن تتم لولا أن الإرادة السياسية اتجهت لذلك.
نجد الكثيرين يتحدثون عن تجفيف منابع الإرهاب وقليلًا ما نجد من يتحدث عن تجفيف منابع الفساد، قد نجد من يصفون أنفسهم بالنخبة يتحدثون عن محاربة الفساد باعتباره مسئولية الدولة وحدها ولا يجرؤون عن وصف وتحديد دور المواطن في ممارسة السلوك الفاسد، يتحدثون عن العدالة الاجتماعية من منطلق السلع التموينية غير مدركين أن محاربة الدولة للفساد هي عين العدالة الاجتماعية، لا يدركون سوي الفساد المادي المباشر ولا يقوون عن التصدي لفساد النخبة نفسها التي تركت وجدان وعقول الجمهور مستباحًا لجماعات النصب باسم الدين، لا تجدهم يتحدثون عن فساد الفن والثقافة والذوق العام ليس لأنهم غير مدركين بل لأنهم لا يرغبون في التصدي لأي مسئولية بعدما احتكروا آلة الكلام والتنظير وساهموا في خلق مواطن هش الثقافة فأصبح أكثر قابلية للفساد والإفساد.
جمعيات حقوق الإنسان من الفساد؟ أين الجامع والجامعة والكنيسة؟ أين المدرس والمدرسة؟ الحرب ضد الفساد واجب قانوني ووطني وشرعي، الحرب علي الفساد هو الجهاد الأكبر حيث تكبح جماح الشهوات والأهواء والمطامع، الحرب علي الفساد لا تنفصل عن الحرب ضد الإرهاب، انتشار الفساد هو قاعدة تسليم الدولة لجماعات الإسلام السياسي دون عناء عندما تكتفي بالمزايدة علي الدولة، الفساد هو سلوك منحرف يمارسه المواطن بينما مواطن اخر يتخاذل عن مواجهته وثالث لا يجد فيه غضاضة مادام لا يمس مصالحه الشخصية، ومجموعات صحفية وإعلامية تدافع عن فساد رجال أعمال من أولياء نعمتهم ومشغليهم، الحرب علي الفساد فرض عين علي كل مواطن.