مصر قادرة على مواجهة مسئولياتها الإقليمية والدولية

أنظمة الحكم تبني استقرارها علي عدة صفقات تمكنها من تحقيق استقرارها، قطعًا هي صفقات مشروعة تبدأ بصفقة داخلية بين الحاكم والمحكومين لتنفيذ بنود العقد الاجتماعي المبرم بينهما والمحدد لحقوق والتزامات الطرفين، لاتقل عنها أهمية صفقة إقليمية لتحقيق التواصل مع الأطراف المتجاورة التي حتما تربطها مصالح تفرضها عوامل الجغرافيا ومتطلبات الأمن.
والصفقتان لا تتجزءان عن الصفقة الدولية التي تحدد أهمية الدولة في أروقة المجتمع الدولي وتمنحها ثقلًا لا يتحقق إلا إذا كانت تملك أدوات تمكنها من المناورة والمفاوضة وتبادل المصالح.
الصفقات الثلاث لا تنفصل عن بعضها البعض، وكلما تمكن الحاكم من حجز مكان مؤثر له في المحافل الدولية انعكس ذلك علي وضع الدولة في إقليمها وصولًا إلي تأثر شئونها الداخلية حتي مصالح المواطن البسيط.
الوصول إلي الحكم يتم عبر الصناديق التي تحكمها آليات قانونية ثابتة، أما إدارة نظام الحكم فهي عملية شديدة التعقيد.
غالبًا لايدرك المواطن تفاصيل ما يجري في كواليس السياسة الدولية إلا أنه حتما سيشعر بنتائج ماجري سلبًا أو إيجابًا علي حياته اليومية، لكن من المدهش أن تجد من يحسبون انفسهم علي النخبة يتعاملون مع قواعد السياسة الخارجية كما لو كانوا يتحدثون عن عملية محلية، بل إن بعضهم راح يتحدث عن تكلفة هذه الزيارات ومدي جدواها بل ويطالب بتخفيض ميزانياتها التي لايعرف قيمتها أساسًا، تخيل يتعاملون مع هذه السياسة الخارجية كما لو كان العالم بأسره مسخر لخدمة أحلام وأوامر المفاوض المصري، تخيل أنهم يتعاملون مع زيارات السياسة الخارجية كما لوكانت رحلات سياحية.
تخيل أن هذه النخبة تورط المواطن في وهم أنه غير معني وغير مطالب بأي دور لدعم مفاوضه وكتيبة دبلوماسييه الوطنية التي راحت تجوب العالم لتحقيق مصالحه وتأمينها من مصادرها الأصلية، هناك حيث القوي العظمي التي لا تعرف غير لغة القوة والمصالح والقدرة علي فرض الأمر الواقع.
• •
محمولا علي قاعدة الدولة المصرية وقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي علي منصة الأمم المتحدة مساء الثلاثاء ١٩ سبتمبر موجهًا حديثه للمجتمع الدولي في خطاب سيتذكره العالم كوثيقة إنسانية ستضاف لرصيد مصر الداعية والراعية للسلام الدولي، مصر لم يسجل التاريخ عليها واقعة اعتداء واحدة، كما لم يسجل عليها واقعة استكانة واحدة.
وقف الرئيس يتلو خطابه بنبرة تسيطر عليها الثقة المستمدة من ارتكازه علي قاعدة وطنه المستقر، الرئيس خلال خطابه تحدث عن مبادئ ومفاهيم وأفكار محددة تعكس رؤية مصرية شديدة الإلمام بالوضع الدولي، والتي يمكن إيجازها فيمايلي:
الإصرار علي تحقيق حلم النظام الدولي العادل.
استمرار عجز النظام الدولي عن احتواء ومنع النزاعات المسلحة ومواجهة خطر الارهاب.
إقرار عجز النظام الدولي عن الوفاء بالمقاصد والغايات التي قامت من أجلها الأمم المتحدة.
استعراض أدلة عجز النظام الدولي في المنطقة العربية التي تعاني خطر الإرهاب، وتحولت لمركز للهجرة غير الشرعية، ومركز للاقتتال الاهلي.
مواجهة المجتمع الدولي بعجزه عن مسئولياته في إفريقيا التي تشهد أزمات اقتصادية واجتماعية وتنموية حادة تهدد السلام و الأمن الدوليين.
الكشف عن قدر مصر في أن تقع علي حافة أخطر بؤر الأزمات في العالم، مع التأكيد علي أنها تشق طريقها بثقة نحو التنمية.
التأكيد علي التزام الدولة المصرية بأخلاقية وقانونية تحركها رغم الأزمات.
التأكيد علي مفهوم الدولة الوطنية التي لا تعرف الولاءات المذهبية أو الطائفية أو العرقية.
رفض محاولات التفتيت في سوريا أو ليبيا أو العراق أو اليمن.
التركيز علي القضية الفلسطينية باعتبار أن حلها هو السبيل الوحيد لاستعادة مصداقية الأمم المتحدة والنظام العالمي.
مواجهة الإرهاب مواجهة شاملة تستأصله من جذوره كضمانة لوجود مستقبل النظام العالمي.
انتهي الرئيس من النص المكتوب ثم استأذن للخروج عن النص مستخدمًا العامية المصرية لمناشدة الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني عدم إضاعة الفرصة المتاحة للسلام مطالبا المجتمع الدولي بالتصدي لمسئولياته لإقرار هذا السلام.
الرئيس استخدم اللهجة المصرية بأريحية شديدة ولغة جسد إنسيابية تعكس حالة من الثقة المستندة لسلام داخلي تراكم داخل وجدان الرجل الذي يسعي للسلام قولًا وعملًا.
السيسي الذي يتحرك ويمارس سلوك العلنية في إطار مؤسسية الدولة المصرية لم يستخدم العامية المصرية اعتباطا، الرجل كان يقصد مايلي :
الاعتزاز بهويته المصرية.
إثبات الحضور المصري المتميز في المحفل الدولي الرفيع.
التأكيد علي أن مصر قادرة علي مواجهة مسئولياتها الإقليمية والدولية.
الإعلان عن عودة قوية للحضور المصري والذي كان قد أخبر بقرب عودته في أول خطاب له أمام الأمم المتحدة منذ ثلاث سنوات، واليوم عاد بالفعل.
ثبات الرجل وثقته الظاهرة المغلفة بكبرياء الوطنية كانت واضحة دون استعلاء، لقد حذّر المجتمع الدولي صراحة من فشله وعجزه عن تحمل مسئولياته، كما حذّر الأمم المتحدة من فقدان مصداقيتها إذا ما استمر الكيل بمكيالين في مواجهة قضية الإرهاب مستنكرًا السماح لدول بالمشاركة في مناقشات حول ظاهرة الإرهاب وهي أساسًا متورطة في صناعته ودعمه.
السيسي الذي وقف ممثلا للندية المصرية المسئولة لم يكن له أن يظهر بهذا الثقل إلا بعدما امتلكت الدولة المصرية مصادر قوتها وحددت أهدافها وأجادت إدارة توازناتها.
لقد أعلن السيسي بوضوح مظاهر هذه الندية فيما يلي:
رفض مصر أي محاولات لاستغلال المحنة السورية لبناء مواطئ نفوذ سياسية إقليمية أو دولية.
التأكيد علي أن مصر لن تسمح باستمرار محاولات العبث بوحدة وسلامة الدولة الليبية.
مصر تصر علي دولة وطنية حديثة وموحدة وقادرة في العراق واليمن.
نشأة الدولة الفلسطينية علي حدود ١٩٦٧ وعاصمتها القدس الشريف هو الشرط الضروري لانتقال المنطقة بأكملها إلي الاستقرار والتنمية.
هكذا عرض السيسي ركائز الندية المصرية.
السيسي الذي ظهر داعيًا للسلام مرتكزًا علي تاريخ وطنه الغني بالأحداث استرجع تجربة مصر في السلام كدليل علي إمكانية السعي لإعادة التجربة التي أثبت الزمن عمق الرؤية المصرية التي تحملت من اجلها الكثير ودفعت أثمانًا باهظة.
لقد وصف السيسي دعوته لتجربة جديدة للسلام بأنها صفحة جديدة في تاريخ الإنسانية التي حتمًا سيكتب فيها اسم مصر بحروف من نور.
وقبل حديثه هذا التقي برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي ذهب إلي السيسي في محل إقامته، وهو اللقاء الذي حرص الطرفان علي أن يكون معلنًا دون مواربة، وإذا كانت ذاكرتك قد اعتراهابعض الصدأ فلتتذكر أن السيسي منذ أن كان مرشحًا رئاسيًا أعلن في أحد اللقاءات التليفزيونية أنه علي استعداد للقاء اي مسئول إسرائيلي من أجل تقديم أي شيء للشعب الفلسطيني، الرجل متسق تمامًا مع ذاته لكن يبدو أن مخزون الشعارات التي تم استهلاكها علي مدار أربعين سنة قد حجب عن الشعوب الكثير من الحقائق.
لقد أحدث خطاب السيسي دويًا سياسيًا واقعيًا عندما دعا لإعادة استنساخ تجربة السلام المصرية التي تعرضت مصر من خلالها لحملات من التشويه والتجريح والطعن في عروبتها وقوميتها، وبعد مرور أربعين عاما لم يقدم احدًا نموذجًا حقيقيًا واحدًا يصلح أن يكون بديلًا للتجربة المصرية، بل لم يقدم احد للقضية الفلسطينية أي خدمة واستغلتها أطراف متعددة للمزايدة علي وطنية الأنظمة القائمة بل ولاستثمار القضية استثمارًا مبتذلًا لتضليل وخداع الشعوب والاستيلاء علي أموالهم بذريعة التبرعات لإنقاذ فلسطين بينما ذهبت تلك المبالغ إلي خزائن التنظيمات الإرهابية التي لم توجه سلاحهًا لأحد بقدر ما وجهته لمصر.
علي مدار أربعين عاما لم يقدم مثقف واحد أو سياسي أو ناشط نموذجًا عمليًا لإنهاء المأساة الفلسطينية.
الآن وبعد أن أوشكت المأساة علي أن تدخل أرشيف النسيان العربي، يعيد السيسي بكل جرأة إحياءها من أجل مستقبل أفضل للشعب الفلسطيني.لم تنته الزيارة التاريخية إلا وكان الرئيسي الأمريكي دونالد ترامب قد توجه للسيسي بمقر إقامته، ولم يأتِ السعي الأمريكي لمقر إقامة السيسي إلا بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية ان الرئيس المصري القادم محمولًا علي قاعدة الإرادة الشعبية هو أيقونة السلام الجديدة.
السيسي هو صانع صفقة القرن الذي ذهب الي الأمم المتحدة حاملًا آلام وجروح المصريين الذين سالت دماء شهدائهم وماتزال علي أرض سيناء الطاهرة، تلك الدماء التي امتزجت بدماء الضحايا الفلسطينيين، الآلام التي حملها السيسي امتزجت بتفاصيل التجربة المصرية للتعايش فخرجت من رحمها آمال جديدة كانت علي موعد مع من يستطيع أن يحولها إلي واقع ودستور عمل ووثيقة سلام، السيسي صانع صفقة القرن الآن يتحرك بحجم وثقل وتاريخ مصر.
خلال أسبوع حافل كانت مصر ورئيسها نجما لاجتماعات الأمم المتحدة، كان السيسي محورًا لإهتمام الزعماء، كان مقر إقامته قبلة للرؤساء والدبلوماسيين، هذه الحالة لم تنشأ من فراغ إنما نتيجة لجهود دبلوماسية، وجولات مكوكية علي مدار سنوات أكسبت مصر ثقلًا ومصداقية، هل تتخيل أن هذه المكانة اكتسبتها مصر دون أن يكون هناك احتياج دولي ملح لدورها؟، ألم تسال نفسك كيف صنعت مصر لنفسها هذا الدور؟، كيف أقنعت العالم إنها تملك أدوات هذا الدور ؟.
الآن وبعد أن انتهت الزيارة.. هل من بيننا من سأل نفسه عن حجم المجهود المبذول لتثبيت مكانة مصر في محافل المجتمع الدولي ؟.
مصر ٣٠ يونيو التي قاطعها العالم في غفلة من الضمير، الآن يسمعها الجميع بإنصات.