قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

الله يفتح عليك يا شيخ


ويتبوأ المقرئ الضرير مقعده من الصوان الفاخر،‮ ‬ويقرب عامل الإذاعة الداخلية الميكرفون من فمه الكبير،‮ ‬مثل فم الجمل يلوك شيئا بما بين أشداقه،‮ ‬تبين حواف أسنانه‮ ‬غليظة بها من آثار‮ (‬الزفر‮) ‬الذي نهشه قبل القراءة،‮ ‬رحمة ونور علي المرحوم،‮ ‬واحتسي الشاي المر بالسكر مذابًا في قعره،‮ ‬ثم تمطي واتخذ موقعه عاليا فوق الرءوس لتشرئب إليه الأعناق‮. ‬
وتنحنح،‮ ‬وتنخم،‮ ‬وشد أحبال صوته جيدا‮ ‬،‮ ‬وهز رأسه كالبندول ذات اليمين وذات الشمال،‮ ‬وبسمل وحوقل واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم،‮ ‬وانطلق كجرار قطار السكة الحديد لا يلوي علي شيء،‮ ‬انطلق مترنمًا،‮ ‬منغمًا،‮ ‬مهتزا،‮ ‬متفاعلا،‮ ‬متماهيًا،‮ ‬مع كل حرف وكل‮ ‬غُنة،‮ ‬وكل مد متصل أو منفصل،‮ ‬وتوقف مليا عند كل سكون،‮ ‬وقلقل عند حروف القلقلة التي تُشكل كلمة‮ " ‬قطب جد‮" .‬
سورة‮ ( ‬مريم‮ ) ‬تشكل عادة الربع الافتتاحي في العزاء،‮ ‬كما تشكل سورة‮ ( ‬الفجر‮ ) ‬الربع الختامي،‮ ‬وبينهما بين سورتي مريم ويوسف تتالي الأرباع،‮ ‬نحن نقص عليك أحسن القصص،‮ ‬كل معزين‮ (‬بربعهم‮) ‬فرحون مستبشرون يسمعون آيات من الذكر الحكيم،‮ ‬وهم علي الأرائك منصتون،‮ "‬وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون‮ " ‬فإذا كَبّر شيخنا الضرير فيكبرون،‮ ‬ويند عن أحد جذبته التلاوة واستبد به الوجد كلمة ينطقها من أحشائه‮ : ‬صلوا علي الحبيب،‮ ‬يا نور النبي،‮ ‬عليه أفضل الصلاة والتسليمات،‮ ‬ويرد آخر الله يفتح عليك يا حليفي ـ والحليفي اسمه،‮ ‬اسم الشيخ الضرير ـ فيطرب الذي هو يجلس مربعا ساقيه فوق الأريكة،‮ ‬فاركا إصبعه الكبير،‮ ‬يهز أصابع يمناه الغليظة هزًا عنيفًا إعجابا بالفتح الذي حمله الدعاء،‮ ‬ويرقع مخا‮ (‬أي صوتا‮) ‬عاليا مقلدا لمدرسة الشيخ مصطفي إسماعيل قارئا بالمقامات حيث يبدأ بمقام النهاوند‮: "‬قال إني عبد الله‮" ‬وفي الأخيرة تفخيم وتنغيم عظيم،‮ ‬وتدوي الله،‮ ‬الله في صدي صوت مزلزل للحضور‮.‬
شيخنا يقرأ متمليا،‮ ‬متأملا في سورة مريم،‮ ‬يتلذذ بآياتها آية آية‮ (‬98‮ ‬آية‮)‬،‮ ‬وبكلماتها كلمة كلمة‮ (‬972‮ ‬كلمة‮) ‬وبحروفها حرفا حرفا‮ (‬3835‮ ‬حرفا‮).. ‬وجاءها المخاض،‮ ‬ويتمثل الشيخ الجليل آلام الولادة،‮ ‬يكاد يضع فوق الأريكة،‮ "‬فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ‮ ‬إِلَي جِذْعِ‮ ‬النَّخْلَةِ‮ ‬قَالَتْ‮ ‬يَا لَيْتَنِي مِتُّ‮ ‬قَبْلَ‮ ‬هَذَا وَكُنتُ‮ ‬نَسْيًا مَّنسِيًّا‮" ‬ويهز الشيخ بيده الأريكة قبل أن يصل إلي قول الحق‮ "‬وَهُزِّي إِلَيْكِ‮ ‬بِجِذْعِ‮ ‬النَّخْلَةِ‮ ‬تُسَاقِطْ‮ ‬عَلَيْكِ‮ ‬رُطَبًا جَنِيًّا‮ " ‬ويتشدق الضرير،‮ ‬يتذوق رطبًا جنيًا،‮ ‬ويذهب مع مريم إلي أهلها لا يفارقها،‮ ‬إلي آل عمران،‮ ‬ويحدثهم من كان في المهد صبيا‮ "‬قَالَ‮ ‬إِنِّي عَبْدُ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬آتَانِي الْكِتَابَ‮ ‬وَجَعَلَنِي نَبِيًّا،‮ ‬وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ‮ ‬مَا كُنتُ‮ ‬وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ‮ ‬وَالزَّكَاةِ‮ ‬مَا دُمْتُ‮ ‬حَيًّا،‮ ‬وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ‮ ‬يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا،‮ ‬وَالسَّلَامُ‮ ‬عَلَيَّ‮ ‬يَوْمَ‮ ‬وُلِدتُّ‮ ‬وَيَوْمَ‮ ‬أَمُوتُ‮ ‬وَيَوْمَ‮ ‬أُبْعَثُ‮ ‬حَيًّا،‮ ‬ذَلِكَ‮ ‬عِيسَي ابْنُ‮ ‬مَرْيَمَ‮ ‬قَوْلَ‮ ‬الْحَقِّ‮ ‬الَّذِي فِيهِ‮ ‬يَمْتَرُونَ‮".‬
ويتبختر شيخنا،‮ ‬ويستعرض طبقات صوته،‮ ‬ويجلي أحبابه الصوتية،‮ ‬ويلقي بفصل الخطاب،‮ "‬ذَلِكَ‮ ‬عِيسَي ابْنُ‮ ‬مَرْيَمَ‮ ‬قَوْلَ‮ ‬الْحَقِّ‮ ‬الَّذِي فِيهِ‮ ‬يَمْتَرُونَ‮"‬،‮ ‬ويكرر ويعيد ويزيد،‮ ‬وفي كل هنيهة يلهب الشيخ الضرير خيالنا،‮ ‬ونتناوم نعاسا من اللذة،‮ ‬يختطفنا خطفا بقول الحق سبحانه في سورة مريم‮ "‬قَالَ‮ ‬إِنِّي عَبْدُ‮ ‬اللَّهِ‮"‬،‮ ‬تخرج منه الحروف‮ ( ‬الله‮ ) ‬مفخمة،‮ ‬مهابة،‮ ‬قوية،‮ ‬فارقة،‮ ‬قاطعة،‮ ‬يغادر النعاس جفوننا يهرب من ذكر الله،‮ ‬تطمئن القلوب،‮ "‬ألا بذكرِ‮ ‬اللّه تطمئنُّ‮ ‬القلوب‮"‬،‮ "‬وَلَذِكْرُ‮ ‬اللَّهِ‮ ‬أَكْبَرُ‮"‬،‮ ‬يعاودنا النشاط،‮ ‬ونتتبع خطي مريم البتول،‮ ‬ونتوجس خيفة عليها،‮ ‬ونتوحد مع عيسي عليه السلام،‮ ‬ونحفظ عن ظهر قلب الحروف في معانيها،‮ ‬ونردد وراء الشيخ الضرير،‮ ‬الحرف مغني،‮ ‬الحرف مجود‮.‬
‮ ‬يقر في الصدور حبا لعيسي عليه السلام،‮ ‬وتقديرا للبتول،‮ ‬ليس‮ ‬غريبا أن نتقبل من إخوتنا المسيحيين الحلف بالعذراء ينطقونها،‮ ‬والعدرا الشريفة،‮ ‬ونصدقهم ونبرهم في حلفانهم،‮ ‬لكم أحببت العذراء مريم،‮ ‬ولكم حلمت بطيفها الجميل،‮ ‬كنت أراها في طيات كرانيش سقف الكنيسة التي تحتضن المدرسة الابتدائية تتجلي بأشكال وتشكيلات وتنويعات زخرفية تخلب اللب،‮ ‬وتغذي الخيال أشواقا إلي تلك الهالة النورانية التي تحمل علي ضعفها رضيعا يتكلم وهو في المهد لا يزال صبيا،‮ ‬لكني عشقت مريم أكثر من صوت الشيخ‮ (‬الحليفي‮)‬،‮ ‬الذي كان يحب تلك السورة‮ (‬المكية‮) ‬حبا جما ويفضلها مفتتحا لقراءاته في العزاءات،‮ ‬وكأنه يعزي أهل الفقيد بقصة مريم،‮ ‬ويحتسب صبرها،‮ ‬وصبرهم،‮ ‬عند الله سبحانه وتعالي‮.‬
المسلمون من أهلي في مدينتي منوف الوادعة في قلب الدلتا،‮ ‬يحبون مريم الأم،‮ ‬ويزورون مولدها باتساع أديرتها المنتشرة علي أرض المحروسة،‮ ‬وربونا علي الحب،‮ ‬ومن فرط الحب كنا نسهر ليلة الميلاد حبا في الميلاد الذي حفظناه من الشيخ الحليفي،‮ ‬وعندما يحل الميلاد فلنهنئهم بالميلاد،‮ ‬تهاتفوا تحابوا،‮ ‬تزاوروا تحابوا،‮ ‬فإني مباه بكم الأمم،‮ ‬أغرقوهم بالتهاني الإلكترونية تتساقط علي موبايلاتهم كزخات المطر الرقيقة،‮ ‬تسعد ولا تبلل،‮ ‬يتقافزون منها فرحين بما آتاهم من أخوتهم المسلمين،‮ ‬ادفئوهم في صقيع الخوف الذي صار ملازما،‮ ‬وبرءوهم من القلق الذي بات مؤرقا،‮ ‬واشفوهم من الألم الذي لا يبارح الأفئدة،‮ ‬بادلوهم حبا بحب،‮ ‬اخترقوا‮ ‬غلالات الحزن الشفيف الذي يلون برماديته الكئيبة حيواتهم،‮ ‬اذهبوا عيدوا وباركوا عليهم،‮ ‬زوروهم في دورهم واطعموا طعامهم،‮ ‬واشربوا من شرابهم سائغا شرابه لذة للمحبين لأخوة الوطن والمصير‮.‬
نقلا عن جريدة "الأخبار"