الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مَن الأكثر وطنية


النقد أو الانتقاد هو جناح الطائر الثاني الذي لا يستطيع أن ينهض إلا به، ومن هنا كان النقد ملازما لأي عمل، وصنو لكل حدث وفعل، وهو المحفز الذي يدفع المسيرة الإنسانية عموما إلى الأمام، ومن دونه لا يمكن أن تتحقق الغايات التي يقصدها الجميع، فهو الذي يلفت العين للخلل، وهو الذي يضع الإصبع على الداء، وهو الذي يقترح الحلول للوصول إلى الغايات، وهو الذي، إن ساء استخدامه، المحبط للآمال، والمثبط للهمم، المحطم لأي مشروع، القاتل لكل فكرة.
للنقد إذًا شأن لو تعلمون عظيم.
فليس كل من ينتقد وضعًا أو شخصًا أو عملا يوضع في دائرة الخونة والعملاء، بل ليس من ينتقد الشعب نفسه الذي دائمًا ما ينافقه الكتاب والساسة والإعلاميون يدرج في مربع هؤلاء الذين يشككون في قدرات البلاد في الاعتماد على أبنائها للصحوة والنهوض.

فليس هناك على وجه البسيطة من يملك الحقيقة المطلقة، ولا من يصف "الروشتة" الوحيدة الناجعة، فأي مجتمع تعتمل فيه عوامل، وتتفاعل فيه عناصر، وتتجاذب فيه أفكار، وكل صاحب رؤية يراها من زاويته، وكل صاحب فكر ينظر لها من منظوره الذي تحكمه ثقافاته التي تكوّن قناعاته، وكل ذي تصور يحدده تكوينه الثقافي والاجتماعي والسياسي، ومن هنا يأتي ذلك التباين في الرؤى، وذلك الاختلاف في الرأي، وتلكم الآراء التي تبدو أحيانا متنافرة، ولكن جميعها -حسب قناعات أصحابها- تدور في فلك الصالح العام.

فالحق ليس -كما يحلو للبعض أن يصوره- واحدًا، ولكنه مختلف باختلاف القناعات والثقافات والرؤى، حتى الله سبحانه وتعالى ليس تصوره واحدًا عند الجميع، فتصوره يختلف أيضًا باختلاف تلك الثقافات والقناعات والعقائد.


لم تنهض أمة من الأمم أو دولة من الدول إلا حينما تعرفت على تصورات أبنائها لتلك النهضة، وتوقفت عند الأفكار التي تصدر عن أبنائها تتدارسها وتضعها حيز التنفيذ مرة والنقد بالإيجاب أو الرفض مرة أخرى، ومجتمعنا المصري وأمتنا العربية ليست بدعًا فيما تمر به من مرحلة ضعف وتأخر بين الأمم، ولعل ما كتبه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه القَيِّم "مستقبل الثقافة في مصر" حينما أكد أن الأيام تدول مرة لأبناء أحد شاطئي بحر الروم "المتوسط" وأخرى لأبناء الشاطئ الآخر، ما يعكس ما أصبو إلى إيضاحه، فبالعودة في التاريخ الذي ليس موغلا نجد تلك الصورة الماثلة أمام أعيننا في مصر والعالم العربي هي ذاتها التي كانت تراها العين في إنجلترا وفرنسا وبقية القارة الأوروبية، من صراع وتناحر بين قوى وطبقات المجتمع، ليس المجتمع الواحد فحسب بل ببن الدول والأمم الأوروبية، فكان العداء مستحكما، وكان الصراع على أشده، وكان التخوين أيضا ملازما، وهنا كان دور الطبقة المثقفة الواعية التي أخذت على عاتقها نفض ما في العيون من سبات عميق.

والمقصود بالمثقف هنا ذلك الذي يمتلك رؤية عن بصيرة ووعي يرى في تنفيذها صلاحا وحلا لمشاكل مجتمعه، ولا يخضع لِهَوًى، ولا يبتغي غير صالح أمته، وهنا مهما أتى من فكرة - ربما تبدو - متمردة أو صادمة فإن مجتمعه لا يجب أن يعاقبه عليها، طالما لم يحاول فرضها فرضا، ولم يدع إليها بعنف أو إجبار، بل يجب أن يحمد لذلك المثقف اجتهاده الذي يمكن أن يؤخذ بعضه أو جله أو كله أو يترك جميعا، دون أن يوسم بالخيانة ولا العمالة، ذلك إن أردنا بيئة صحية تؤهل حقا للنهوض.


ولنضرب لذلك مثلا من التاريخ الأوروبي:

كان العداء مستحكمًا في عصر الفيلسوف فولتير بين أمته الفرنسية والأمة الإنجليزية، وكان الفيلسوف الفرنسي - كما يبدو من كتاباته - مولعًا بنشاط وذكاء وحماس الإنجليز، وكان يصف ذلك كله ممتدحًا الشعب الإنجليزي، وفي المقابل كان يهيل التراب على أبناء جلدته من الفرنسيين، حيث يراهم عكس ما يرى أعداءهم اللدودين، ولقد توقف المفكرون عند ما قام به فولتير، حيث رأوا فيه عشقا لا محدود لفرنسا، في أنه أراد إثارة حمية الروح الوطنية لدى أبناء بلده، بالثناء على شعب أعدائهم وتقديمهم في صورة أفضل حتى مما هم عليها، يهدف بذلك أن يبث الغيرة المحمودة في نفوس الفرنسيين للنهوض بوطنهم.

ولأن العداء كان على أشده بين الفرنسيين والإنجليز فكاد بعض من الأخير أن يفتك بالفيلسوف الفرنسي فولتير المادح لهم لكونه فقط فرنسيا، حينما تواجد في لندن وعرف أحد الإنجليز "فرنسيته"، فأعلن ذلك على الإنجليز الذين كادوا يفتكون به، فإذا به يقول لهم: ألا يكفيني عقابا أني لست إنجليزيا، عندها عفا عنه الثائرون.

وسؤالي هنا: ماذا لو مدح أحد مثقفينا أعداءنا اللدودين؟ وماذا لو نهج نفس نهج الفيلسوف الفرنسي بالهجوم على شعوبنا العربية؟! فماذا سيكون مصيره؟! والإجابة لا تخفى على القارئ الكريم، وما تلك الإجابة التي اقتحمت ذهن قارئنا اقتحاما، إلا لضيق في الرؤى وعدم فهم للمقصود، وعدم إدراك للمعنى الحقيقي، الذي لو تم لحُمِد هذا القائل كما يحمد لفولتير ما قام به.
ومن هنا إننا نرى أن من يعترض على شيء منتقدا مقدما حلا أو فكرة، أو من يطالب بأمر يرى فيه الصالح، أو ينادى بتصحيح لما يراه خطأ، هو جناح الطائر الثاني للمجتمع ولمنظومة الحكم، في أية دولة من الدول، ولا نسحب عليه رداء الخونة، ولا نضعه في سلة المتآمرين، ولا نسلكه في زمرة العملاء، بل نراه من أكثر الناس وطنية.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط