الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

اللبان العمانى.. عندما توقف الزمن بولاية مطرح وأعادته روائح الكنز الثمين

ولاية مطرح بسلطنة
ولاية مطرح بسلطنة عمان

عبر نافذة مغلقة يطل منها ضوء خفيف مخترقا الضباب فى سماء ليلة ماطرة، وقف الزمن يراقب حالة السكون التى خيمت على أرجاء مطرح العُمانية تلك المدينة التى لا تعرف الصمت، غاب الجميع تلاشت أصوات البشر تشبع المكان بروح حزينة طافت فى أرجائه استمدت حزنها ممن يسكنون فى المكان فمنذ أن ألقت جائحة كورونا بظلالها على المكان لم يعبر منه إنسان يحمل ابتسامة.

 لم يبق فى المدينة العتيقة الصامدة سوى أضواء خافتة ألقت ظلالها على المرتفعات الجبلية التى تعانق بحر عُمان الهاديء وأشجار متراصة جنبا إلى جنب  كورنيش مطرح تترنح بفعل موجة الهواء وقطرات من المطر فى إيقاع رتيب فلاهى تتوقف ولا تقلع.

اختفت أصوات البائعين  التى كانت تختلط بأزيز السيارات التى تملأ الشوارع،  وانعكست صورة الفراغ على مياة بحر عمان  مع بقايا الأمطار التى تناثرت من بقايا ليلة الأمس الممطرة  وعزلت المدينة نفسها عن البشر وكأنها تعبر عن غضبها من الوباء الذى دخل لجسدها الصامد بعد العزل الصحى التام لها لحين إشعار آخر.
ورغم كل هذه الأجواء التى أضحت عليها المدينة العتيقة، إلا أن سحر (اللبان) ظل صامدًا دون أن يتأثر، ذاك العطر الساحر الذي تسلل من أسفل أبواب محال البهار والتمر بشوارع مطرح والتى أغلقت أبوابها خشية فيروس كورونا وتداعياته، وكأنه يبعث التفاؤل والأمل من جديد.

يعد اللبان من الأشياء المتغلغلة فى الثقافة العٌمانية إذا يعود تاريخه لآلاف السنين ما يقرب نحو ستة آلاف سنة بحسب الكتب والمراجع التاريخية كما صنف فى مراجع تعود لألفي سنة أنه أغلى من الذهب آنذاك لفائدته وأهميته، ويدخل اللبان العماني في صناعة البخور، كما استخدم كدواء لمتاعب شتى، وهو مادة تشبه الصمغ ذات رائحة زكية تفرزها أشجار تنمو في مناطق تمتد من القرن الأفريقي إلى الهند وحتى جنوب الصين.

اتخذت شجرة اللبان شهرة فائقة في العالم، بل ان مادتها ذكرت في كتب التاريخ القديم، وقد عرفت ظفار منذ القدم بهذا المنتج، وإضافة إلى رائحته الزكية واستخدامه كبخور في المنازل، فإنه يستخدم أيضًاكمادة علاجية.

 
وتشير بعض المصادر إلى أن اللبان استخدم في بخور عرش النبي سليمان، وتذكر المصادر أيضًا أن الإمبراطور (نيرون) أحرق في وفاة زوجته ما يعادل محصول جنوب الجزيرة العربية من اللبان، ومن الثابت إلى اليوم وجود هذا البخور في الفاتيكان.


تنمو أشجار اللبان من الفصيلة البوسويلية في إقليم ظفار الوعر جنوبي عمان، وتتحدد جودة اللبان وفق اللون والحجم وتركز الزيوت العطرية فيه، وأغلى أنواعه "الحُوجري" الذي تنتجه الأشجار بنطاق محدود من جبال ظفار لا يصله رزاز أمطار الصيف الموسمية.

واليوم تنتشر أشجار اللبان بالمنطقة التي تخترقها دروب القوافل المتصلة بالمرافئ التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وقد أدرجتها اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي تحت عنوان "أرض اللبان"، ووصفت المنظمة تجارتها بأنها "كانت بين أبرز الأنشطة التي ازدهرت لقرون عدة قديما وخلال العصور الوسطى".

 عرف الإنسان شجرة اللبان منذ أقدم العصور، ونشأت بينه وبينها علاقة مميزة، فهي الرمز وهي الحياة بالنسبة للظفاري، فهي ليست مجرد شجرة، هي الحضارة والتاريخ والاجتماع والجغرافيا، منها قامت مدن وحضارات على مر العصور منذ القدم، تحدثنا آثار مدن (سمهرم، وخور روري) التي تعود إلى الألف الأولى قبل الميلاد، عن هذه الشجرة وما تحمله من رمز للحياة، ففي هذه المدن الأثرية كتابات بالأبجدية العربية الجنوبية، والتي تسمى اليوم (الجبّالية) تحكي قصص إنشاء هذه المدن والتي كان الهدف الرئيسي من إنشائها تصدير اللبان، إلى أجزاء متعددة في الجزيرة العربية، ويذكر الباحث والمؤرخ العماني، عبدالقادر بن سالم الغساني، في كتابه (ظفار أرض اللبان) ان الاسكندر الأكبر أخذ من أرض العرب المنتجة للبخور كمية من البخور.

ويتوفر اللبان بسوق مطرح الذى كان يمثل قلب التجارة سابقا حيث كان يتم استيراد وتصدير البضائع والمنتجات في المخازن المتوفرة في مطرح ويعتبر السوق حاليا مكان جذب للسياح يباع فيه كافة المنتجات اليدوية والتراثية فضلا عن محلات الحلوى العمانية التى تشتهر بها السلطنة ومحلات الأقمشة ومحلات كثيرة .

واستورد العالم أغلب اللبان من الصومال وإريتريا واليمن، وهي البلدان التي شهدت صراعات حادة في السنوات الأخيرة، وهو ما أثر على إنتاجها. أما عمان فتنعم بالسلام وتنتج أفضل لبان العالم وأثمنه. وقديما أطلق الفراعنة على اللبان اسم "عرق الآلهة".

من هنا انطلقت القوافل التي ضمت آلاف الجمال والعبيد محملة باللبان في رحلة برية شاقة بطول ألفي كيلومتر عبر صحراء جزيرة العرب متجهة إلى مصر وبابل وبلاد الإغريق والرومان، كما أبحرت سفن اللبان حتى الصين. ويقول المؤرخ الروماني بلينيوس الأكبر (23-79 ميلادية) إن تجارة اللبان جعلت العرب الجنوبيين "أغنى أهل الأرض".

واعتبر اللبان في زمانه مسكنا للآلام ومكافحا للأمراض، بل ومقويا جنسيا، وشاع استخدامه لعلاج كافة المتاعب والأمراض، وسرطان الجلد، ووصفه أحد أطباء عسكر الإغريق، ويدعى فيدانيوس ديسقوريدوس، بأنه دواء لكل داء، موصيا باستخدام صمغه في علاج القروح والتئام الجروح.

كما ورد ذكره في بردية إبيرس المصرية القديمة للطب، كعلاج للربو والنزيف والتهاب الحلق والقيء وغيره. واستجلب المصريون كميات ضخمة منه للعطر وطرد الحشرات وللاستخدام في التحنيط، وقد عثر على دهان منه بمقبرة توت عنخ آمون عام 1922.

واستخدم في البخور في مراسم دينية ومراسم للتطهير، واعتقد أن بخوره يصعد إلى السماء وقد شاع استخدامه بالمعابد في العالم القديم.