الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الهروب لا يليق بالأمة المصرية


الهروب من الواقع هو سمة هؤلاء الذين لا يستطيعون مواجهته، وهو يعكس في حقيقة الأمر عدم رضى هذا الهارب عن واقعه، فبدلا من مواجهة ذلك الواقع، فيلجأ في محاولة لصنع واقع مواز، يرضى فيه الإنسان عن ذاته، ويركن لدعته، ويخنع بما حصّل، في ذات الوقت الذي يصبغ فيه على الواقع الحقيقي من خيالاته وأوهامه، ما يجعل انسحابه منه مبررا في عينيه، ويصنع سياجا من أوهام يرى من خلالها واقعه الخاص وكأنه ملك فيه الدنيا وما فيها، بل ربما يسقط الدنيا كلها، ويتوهم أنه ملك الجنة والحياة الأخرى.

وكما يلجأ الأشخاص غير المتكيفة مع الواقع لهذا الهروب، وكما تنسحب تلك الشخصيات من الحياة الواقعية، وكما تزين لنفسها عوالم غير حقيقية، هكذا تفعل أيضا الجماعات والدول، بل والأمم، فبدلا من أن تواجه واقعها بعزيمة وإصرار على ضرورة النصر في معركة الحياة، فإنها تبحث عن قشور الأمور لتشغل نفسها بها، وتبحث عن توافه القضايا لتشغل بها نفسها، وتبحث عن إخفاقات غيرها من المجتمعات لتوهم نفسها برضىً لا يسنده شيء من إنجاز، ولا يدعمه شيء من واقع.

إن الأمم تتفق مع الأشخاص في كثير من الصفات، ولِمَ لا وهي مجموع هؤلاء الأشخاص؟. ولِمَ لا وأمراض الشعوب هي ذاتها أمراض الإنسان؟ فالأمة التي تستطيع مجابهة متطلبات الحياة، والتي تستطيع أن تجد لنفسها موضع قدم على كوكب الأرض، والتي تتشارك مع غيرها من الأمم في صنع حضارة العالم، مشغولة بهذه المساهمة، ومنهمكة في هذا الفعل الحضاري، ومتفاعلة مع ما يمر في العالم من الأحداث، وما يعتريه من أمراض وما يقع فيه مصائب، تقدم حلا لهذا الحدث، وتعمل على إيجاد علاج لذلك المرض، ومُساعِدَةً في دفع تلك المصيبة، فهذا النوع من الأمم لا يجد لنفسه فرصة للهرب، حتى لو أراد، لأنه محكوم عليه، بحكم ما ينتظره العالم منه، أن يكون في قلب العالم، وأن يصبح جزءا أصيلا وفاعلا مهمًّا في قضاياه.

أما هذا الفريق من الأمم الذي لا يستطيع أن يفرض نفسه فرضا، ويقدم نفسه طرفا في معادلة الحياة الحية، وليست الحياة التي هي والموت سواء بسواء، فإنه يلجأ لأبسط الحلول وأيسرها، وهو الانسحاب من العالم، والهروب من الواقع، وهل هناك أيسر من أن يلغي المرء مشكلته ووجوده، فالتفاعل مع مشاكل الحياة، والاشتباك معها هو الوجود ذاته، هل هناك أيسر من أن يفترض المرء الواهم عدم وجود المشكلة ليريح نفسه من عناء البحث في حلها. وجهد العمل على إيجاد ذلك الحل.

إن كل ما ذكرنا يمكن ان يدخل في باب التنظير، الذي هو في حاجة إلى تدليل عنه من الواقع الذي نحياه، لأنه، إن لم نفعل، فإن ما ذكرنا، يظل في باب الادعاء، فيظل كذلك ما بين الصدق والكذب، وما بين الحقيقة والوهم.

ولكني لا أظن أننا في حاجة إلى جهد جهيد لإثبات تنظيرنا هذا، فبنظرة تكاد تكون عابرة، نستطيع أن نلمح تلك الأمة الحية المشغولة بالعالم وقضاياه الحقيقية، غير المفتعلة، ومن خلال تلك النظرة العابرة كذلك يَسْطَع لأعيننا تناول الأمم الهاربة من واقعها، وكيف تعالج تلك القضايا، بل حاشا لله، كيف بجرة قلم تلغي وجود تلكم القضايا إلغاء، في حالة هروب أسرع من البرق.

فهل هناك غير سطوع الشمس في كبد السماء، ليقارن بتلك المحاولات الحثيثة التي تقوم بها الدول المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية، لإيجاد علاج حقيقي لڤيروس كورونا، وابتكار لقاح يقي العالم شر الڤيروس الجديد المتحور عن ڤيروس قديم، فمن الصين التي كانت البقعة الأولى من العالم التي شهدت ميلاد الڤيروس الجديد، إلى جارتها اليابان التي يعمل علماؤها ليل نهار على ابتكار علاج جديد، إلى ألمانيا التي خصصت مبلغا مهولا تجاوز ثلاثة أرباع التريليون دولار لمجابهة ڤيروس كورونا، إلى النمسا التي تعمل جامعاتها على التوصل لعلاج، فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية التي حولت جل مصانعها، بقرار سيادي، لتعمل على حل المشاكل التي تسبب فيها الانتشار الكبير للڤيروس.

أما هؤلاء القوم الفارون من الواقع فرارا، فأول ما يصدمنا من مظاهر ذلك هو كان من اللجوء إلى التراث ليقوم أحدهم، بدولة العراق الشقيقة، ليفبرك لنا نصا، يُضَمّنه ورقة صفراء، تزعم أن هناك نبوءة منذ قرونٍ خَلَتْ تخبرنا عن وباء كورونا وأنه سيقع في العام العشرين من القرن الواحد والعشرين، وإذا بتلك القصاصة تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، ويترك المجتمع جله، إن لم يكن كله، الحدث العالمي الخطير، ليتحدث في هذه النبوءة المزعومة، ويزبد ويرغي في الفارغ من الكلام، وعديم الجدوى من الأفكار، وتصدى لذلك قلة نادرة ممن يُعْمِلون عقولهم في عالمنا العربي، هذه الندرة التي كانت مثار تَنَدُّر وسخرية في مجتمع يسير على رأسه ويفكر بقدميه.

لم يقف الحال عند ذلك، وكيف هذا وهي مجرد بداية؟!، فانتقلنا إلى طبيب تونسي تخاطبه، حاشا لله، بل تترجاه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لينقذ أرواح الألمان، بل أرواح شعوب العالم التي يحصدها وباء ڤيروس كورونا، ولم يكن الأمر يحتاج كثير فطنة، لندرك أن الترجمة المصاحبة لشفاه المستشارة الألمانية هي الأخرى مفبركة، ذلك الذي يعكس أن الفبركة التي هي إحدى صور الهروب من الواقع أصبحت لدى مجتمعاتنا "منهج حياة".

ومن تونس إلى الجزائر التي دفع ادعاء الفلكي لوط بوناطيرو، أن فريقا علميا "جزائريا/عراقيا" توصل إلى عقار يشفي من وباء كورونا دفع ذلك الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون شخصيا للتدخل لمعرفة مدى صواب ذلك الخبر الذي جعل قطاعا من الشعب الجزائري يؤكد أن اللوبي الفرنسي وراء عدم استخدام العقار الجزائري، ضاربا بعرض الحائط كل أسس المنطق وأدواته حتى بعدما أعلن وزير الصحة الجزائري، عبد الرحمن بن بوزيد ألمح إلى أن التوصل لإنتاج دواء معين، يتطلب سنوات من البحث والتجارب والتدقيق قبل الموافقة النهائية عليه.

أما في أم الدنيا فكانت نظرية المؤامرة التي لا تريح العقل، بل تشله شللا، حاضرة قوية على كافة المستويات، بدء من هؤلاء البسطاء على المقاهي الذين لم يلتزموا بتعليمات الحظر، ولَمَ يلتزمون إن كان الأمر لا يعدو مؤامرة طرفيها: أمريكا والصين، هدفها اقتسام زعامة العالم، أو عند المتطرفين في هذا الجانب، هدفها إزاحة أمريكا من زعامة العالم وتنصيب الصين بديلا عنها، وكأن مثل هكذا حدث، يحدث بين عشية وضحاها، وكأني به لا يحتاج عشرات السنوات تعتمل فيه الأسباب وتختمر فيه الأحداث الجسام.

ولأن أم الدنيا هي زعيمة المنطقة، فليس من المعقول ولا المقبول أن تكون أقل من العراق التي ابتكرت علاجا، ولا من تونس التي ترجّت المستشارة الألمانية أحد علمائها، ولا من الجزائر التي ابتكر أحد أطبائها علاجا ناجعا، فكان لابد لأم الدنيا أن تتجاوز كل هؤلاء، فإذا بوزيرة الصحة تحمل في حقيبة يدها المتجهة بها إلى الصين العلاج، ويا له من علاج سحري، لم يحتج الصينيون لتناوله، لا، فيكفي فقط أن تحط طائرة وزيرة الصحة على أراضي الدولة الصينية، ليفعل علاج أم الدنيا الأفاعيل، فَيَشْفىٰ الصينيون دون الحاجة لتناوله، ولم لا؟ ألم يأت من البلد الذي علم الدنيا كلها العلوم والطب؟!

ليس هذا فحسب، فبعد النجاح الساحق للعلاج المصري الذي كان هو السبب، وليس تلك الإجراءات الصارمة التي اتخذتها السلطات الصينية، في انحسار ڤيروس كورونا في منشأ الڤيروس، حملت وزيرة الصحة المصرية حقيبة يدها مرة أخرى، واتجهت إلى إيطاليا الموبوءة، وقبل أن تلامس عجلات الطائرة العسكرية المصرية التي تقل وزيرة الصحة الأراضي الإيطالية، كانت البشرى قد هَلّتْ، فلقد تناقص عدد الوفيات نتيجة الإصابة للڤيروس لأول مرة بإيطاليا، وهل هناك أكثر من هذه فرصة لنظل في غياهب الجهل نقيم، وفي تغييب الوعي مستقرون.

إنه الهروب من الواقع في أوضح صوره، وأبهى معانيه، هذا الهروب، الذي يرفضه المثقفون الواعون من هذه الأمة التي لن نعدم فيها حكماء ولا علماء حقيقيين، يقدرون للعلم أهميته، وللوطن مكانته، فوجدنا أمثال الصديق الأستاذ الدكتور جمال مصطفى السعيد أستاذ جراحة الأورام في جامعة القاهرة، الذي خرج علينا في إحدى البرامج التليفزيونية، ليشرح شرحا مبسطا مفصلا الحالة من الناحية العلمية، مقدما ما يمكن أن تساهم فيه مصر من خلال إمكاناتها البحثية مرة، ومن خلال علمائها الذين يشهد العالم ببراعتهم مرة أخرى، ولكن الرجل، لأنه عالم، لم يقفز على الواقع، ولم يدغدغ عواطف العوام، فمثل هكذا أمر لا يعنيه من قريب أو بعيد، ومتى شغل مثل هكذا عمل العلماء الحقيقيين؟

وقبل الختام، لعله من المناسب أن أعلن أنني لست من المعارضين لفكر المؤامرات العالمي على طول الخط، فأنا أدرك يقينا أن هناك العديد من المؤامرات تحاك بليل بهيم، في بقاع متعددة من العالم، ولكني، في ذات الوقت، لا أجعل منها سببا للانسحاب من معركة الحياة، ولا للهروب من حرب الوجود، في نفس الوقت الذي أومن أن لدينا من الإمكانات المادية والبشرية والعقلية، ما يجعلنا ندا مشاركا في كافة القضايا العالمية، ومن هنا أرى الهروب لا يليق بأمثال الأمة المصرية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط