الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المجددون في الإسلام.. الإمام محمد عبده (1)


في هذه السلسلة، التي نستهلها مع بدايات شهر رمضان الكريم، وندعو الله أن تكتمل على خير لا يمكن إلا أن اعترف من مكاني المتواضع جدًا من صعوبة الاقتراب من علامات التجديد الاسلامي، على مدى المائة والخمسين عاما الماضية، ليس فقط لعظمة وغزارة إنتاجهم الفكري جميعا، وغزارة وتدفق مؤلفاتهم وقوة معاركهم التي خاضوها في سبيل الإرتقاء بالأمة المصرية والعربية وحال المسلمين جميعا، ولكن لأن الجو العام في بلاد المسلمين لا يشجع للأسف على تذكر الاجتهاد وفتح آفقًا جديدة من الفكر والوقوف أمام علامات الطريق وأهدافهم وغاياتهم عبر العصور، ولكنه يبعث على الأسف والدموع والإحساس بالقهر.

فالأفكار التي نادى بها الإمام، محمد عبده وزملاؤه من كبار المجددين في الإسلام قبل أكثر من 120 عامًا وطالبوا بتجاوز هذه الأفكار الظلامية والانطلاق منها إلى عالم أرحب ، ها هي اليوم تستعيد نفسها للساحات مرة ثانية والأدهى أن التخلف زاد تخلفا والبؤس زاد بؤسا وتدهورا وما كان يعيبه الإمام محمد عبده على المسلمين قبل عشرات السنين، هاهو  لم يتغير ولم نتقدم قيد أنملة إلى الأمام، وإنما أضعنا من حياتنا كمسلمين 120 عامًا في قضايا فارغة، وفي حبائل لاتنتهي من الضلال بل والأدهي انه خرج من بين ظهرانينا، من يعتبر الإرهاب جهادًا ومن يرى أن قتل المدنيين سنّة عظيمة – بئس ما يقولون وما يعتقدون- وإذا كان الإمام محمد عبده يعيب التخلف والجهل في زمانه وعدم الالتحاق بأوروبا، فنحن نعيب التخلف والجهل والابتعاد عن الإسلام الصحيح وشيوع التطرف والإرهاب، بعدما خرجت أبواق الفتنة والنار، ترى أن تغيير الأوطان بالدم، هو أقصر طريق لصلاحها وكان هذا معيبًا ومتدنيا ولم نجني من وراءه طيلة 70 عامًا ومنذ خمسنينات القرن الماضي، سوى الفقر والتدني الاقتصادي والتأخر والتورط سنوات طويلة في معارك محاربة الإرهاب ومحاربة المرتزقة وخونة الأوطان.

 لم ير الإمام محمد عبده في زمانه، من يفتي بالإرهاب ويجعل قتل النفس البشرية التي حرم الله الا بالحق هدفا له ولأتباعه سواء في داعش أو تنظيم القاعدة أو تنظيم الجهاد او بيت المقدس أو ما شابه. أخذنا الإرهابيون – قبحهم الله- طيلة عقود مضت في دروب من التخلف والرجعية والدموية ودفع آلاف الأبرياء من حياتهم وأعمالهم ومستقبلهم ثمنًا فادحا لهذه الأفكار الظلامية.

 ونحن نقف أمام هرم من أهرامات التجديد الديني في القرن العشرين، هو الإمام محمد عبده، لا يمكن أن نبدأ الكلام عن الإمام قبل أن نشرح مآلات التجديد في الإسلام ولماذا توقف التجديد؟ وأين كتب التجديد الديني وأين مفكروه طيلة عقدين وآكثر منذ بداية الألفية الجديدة وهبوب ثورات الخراب العربي؟

 أين سطوة رجل الدين المتنور بالحق والعلم، وليس بالجمود والتشدد والقبح في كلامه ونماذجه، أين التجديد الديني من الاقتصادات العربية والاسلامية المتدهورة والمتخلفة؟ لماذا لا يشرح للناس قيمة دينهم الذي دعاهم للترشيد وتعزيز الانتاج والتفاني في العمل؟ لماذا لا يكون التجديد الديني بابا لسد جرائم العصر ودفع الناس للالتفات لحيواتهم ودنياهم بالعمل والمستقبل؟ أين التجديد من الحريات وما يثار حولها؟ أين هو من الفن والأدب والإبداع والتكنولوجيا؟ ولماذا يقبع الجميع في نهاية المطاف تحت باب الحرام وتابوهات المنع؟

استذكار حياة الإمام محمد عبده، والوقوف أمام جزء يسير من معاركه يؤكد لنا أننا في غفلة، والمؤكد أن المجتمعات العربية لم يكتب عليها الفقر والذلة والدم والتطرف، بينما تبقى المجتمعات الغربية في ازدهار وتقدم اقتصادي وتكنولوجي وتطور مدني ومعيشي، وفي هذا السياق وتزامنا مع تفشي كورونا، ظهر من يتوهم أن الولايات المتحدة الأمريكية ستنهار، وأن أوروبا ستترنح جراء الوباء وستصبح غدا الصومال الجديد؟!

 ومع احترامي لمختلف التفسيرات إلا  أن هذه الحضارات العظيمة، بعيدة تماما عن الانهيار الآن وإنما نحن كمجتمعات نامية وفقيرة ومتخلفة، القريبين جدا من الانهيار لأننا لم نؤسس لمستقبلنا كما ينبغي، ثم يظهر إمام كبير ليفتي على الملأ، بأنه لا يعرف في أين يكون التجديد بالضبط وحياة الناس كلها لا تسير بالدين، ولا بتعاليم الدين وهى كلمة حق أريد بها باطلا، فنحن لا نريد أن نترك الدين ونتأخر ،كما قال الإمام محمد عبده بل نريد أن نستحضر الدين ونتقدم للأمام وتزول مشاكلنا ونعيش عصرنا.

لقا عاش الإمام محمد عبده 150 عامًا وسيعيش لقرون قادمة، لأنه اقترب بصدق من جل مشاكل العرب والمسلمين وعزف بفكر ديني مستنير على ما هو واجب، وقد قوبل ولا يزال بعواصف من التكفير والهجوم رغم أنه شغل منصب مفتى الديار العامة المصرية، وهو منصب لا يشغله إلا عالم وليس مدعي كما يدعي عليه كارهوه.

إن محمد عبده سيظل رائدًا للتجديد الديني، وهو الذي وصفه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد بأنه عبقري التنوير، ووصفه السيد يوسف برائد الاجتهاد والتجديد، وقال عنه د. محمد عمارة أنه مجدد الدنيا بتجديد الدين ووصف من الجميع، بأنه باعث الدولة المدنية الحديثة بعدما رأى بفكره الثاقب قبل عشرات السنين، أن استخدام الدين مطية للسياسة يضر بالدين والسياسة معًا، وأن وصول التيارات التي تستخدم الدين وسيلة للحكم في بعض الدول يضر بالدين وبالسياسة وبالحياة، وكانت نظرته في زمنه المطالبة بإبعاد رجال الدين عن حكم الشعوب، وقال أنهم قد بعتبرون رأيهم صوابا يتماشى مع الدين دون أن يدركوا أنه خطأ يتجافى مع الدين.

كان الخلاف بين الشيخ جمال الدين الأفغاني استاذه، ومحمد عبده في كيفية الإصلاح والنهوض بالوطن، فالأفغاني من أنصار الثورة ضد الاستبداد والقهر، بينما محمد عبده يرى أن تغيير المجتمع وإصلاحه يجب أن يكون تدريجيًا، وعن طريق التعليم ومواجهة الجمود والتخلف.

وكانت من بين كلمته القاسية ومعاركه الضخمة، رغم انه كان أزهريا، مقولته الشهيرة، انه لا يرى طريقًا للإصلاح الديني سوى بإصلاح الأزهر، وقال في ذلك جملته الباقية: إن بقاء الأزهر متداعيًا على حاله محال، فهو إما أن يعمر، أو أن يتم خرابه".

وبسببها هوجم حتى الممات، وقد توقع محمد عبده في كتاباته، أن تنهض أوروبا وتسبق دول العرب والمسلمين لأنهم يطبقون الإسلام دون أن يعتنقوه من حيث الالتزام والإتقان، والانضباط الخلقي والسلوكي وأخذهم بالأسباب في إقامة حضارة دون انغلاق فكري، أو جمود عقلي أو الانصياع لحكم الباباوات، وهو ما كان، بينما سقطنا نحن العرب والمسلمين أسرى ملوك الطوائف في العديد من البلدان العربية التي تشهد حروبا أهلية مريرة وفي خارجها التي تشهد إرهابا ضاريًا يكره الحياة والمدنية، وفي رحلته إلى فرنسا انبهر الإمام محمد عبده بما رآه من نهضة وتنمية وحضارة، وقال جملته الشهيرة وجدت هنا إسلامًا ولم أجد مسلمين، وفي ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام..

قال عنه د. محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف الراحل إن الإمام محمد عبده أحد أهم العلماء الذين قاموا بفتح باب الاجتهاد، وإعمال العقل، وإنه حاول طيلة عمره أن يخلص الفكر الدينى والفكر بصفة عامة من أى من الأفكار التقليدية العقيمة، وقال إنه لا توجد وصاية على العقل ولا يوجد أى تفويض إلهى لأى بنى آدم، ومن تحدث بهذا الحديث لا أساس له فى الدين الإسلامى.

ومن أقوال الإمام محمد عبده المأثورة التي توضح منهجه، في الإصلاح قوله، أن الفساد يهبط من أعلى الى أدنى، والاصلاح يصعد من أدنى إلى أعلى، وان شر السلاطين من خافه البريء، وإذا ما جهل المرء بأمر فما أيسر عليه من معارضته، وإن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان..

وبعد فلا يسعنا في هذا المقال الموجز عن الإمام محمد عبده ان نستذكر كل مواقفه رحمه الله، ولكننا نقف أمام غايته بتجديد الخطاب الديني، وحث الناس من خلال الدين على تغيير حيواتهم ليكسبوا خير الدنيا والآخرة، فالدين هداية ونور وليس تشددًا وظلمة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط