الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العقل النقدي ضمانة للمجتمع والوطن


إن الإنسان لم يكلف بشيء، سوى لامتلاكه لآلة الإدراك، التي لو فقدها، أو سُلِبت منه لسقط عنه كل شيء، ولم يحاسبه أحد على ما يأتي به من أفعال، أو يهذي به من أقوال، فهذه الآلة، التي ما هي إلا العقل، كما أنها سبب التكريم الذي حظي به الإنسان فإنها، مناط التكليف، فبسقوطها يسقط كل شيء؛ يسقط التكليف، كما يسقط العقاب، فهل كُلّف يوما ما لا عقل له، وهل حوسب يوما من فقد العقل؟

والعقل في أبسط تعريفاته، وبعيدا عن ما خاض فيه الفلاسفة والعلماء، هو مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، والمعرفة، والتفكير، والحكم، واللغة والذاكرة. هو غالبًا ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية.وهو لديه القدرة على التخيل، والتمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال.

ولا شك أن العقول متفاوتة، بتفاوت قدرات الأشخاص، فليس لدى الجميع طريقة واحدة للحكم على الأشياء، ولهذا التفاوت أسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها ما تحصّل عليه الشخص من معارف، وكيفية التدريب التي اكتسبها الإنسان في معالجة المواقف، بالإضافة إلى أسلوب التكوين الذي تم به هذا العقل، وهل هذا الأسلوب خلق عقلا قادرا على التمييز بآلية وطريقة منضبطة؟ أم أنه وقع أسير تصورات خاطئة؟ وفريسة لأفكار منحرفة لا يستطيع منها فكاكا؟ فأصبح مستسلما لما يلقى إليه دون بحث وفحص وتحليل.

وإذا أردنا أن نتعرف على المكون الأول للعقل الذي نريد أن نحصل عليه؛ متفاعلا مميزا منتجا، فلن نختلف على أن المدرسة هي أول مؤسسة يجب عليها أن تفعل ذلك، بل التعليم عموما هو الحاكم الأول في خلق العقل، ومن هنا فإننا ندعم بكل قوة، الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم، الذي يريد نسفا لطريقة التعليم المصرية، والتي تعتمد على الحفظ والاستظهار، وتنحي العقل المُمَيِّز جانبا، والتي كان من نتائجها خلق عقل مصري لا يتمتع بالنظر بطريقة نقدية فيما يلقي عليه.

ذلك العقل النقدي الذي يُخْضِع كل شيء للبحث والدرس، والوصول إلى النتائج الموضوعية، ذلك العقل النقدي الذي يرفض التلقين، كما يرفض الانسياق خلف كل من يلقي له نصا أو فكرة أو قولا، هذا الانسياق الذي كان من نتائجه، ظاهرة الإرهاب، التي تعتمد أول ما تعتمد على إلغاء العقل، والتي تتمثل في بيعة أمير، ربما لم يتحصل من العلم على أقله، ولم يمتلك من العقل شيئا، ولكنه يؤمَر فيطاع، دون مناقشة، تلك المناقشة التي هي مظهر الفكر والعقل.

إن الضمانة الحقيقية لضبط أي مجتمع، هي أن يتمتع أبناؤه بالعقل النقدي، فلا ينساق أفراده وراء زعم لجماعة من الجماعات، ولا خلف قول لشخص من الأشخاص، ولا يسلم أعضاؤه أنفسهم لغيرهم ليحددوا لهم مصيرهم، ولا ليرسموا لهم مستقبلهم، ولكن يتحمل، من خلال هذا العقل النقدي، أبناء هذا المجتمع مسؤولياتهم بأنفسهم، فيخططون لمستقبلهم، كما يريدونه، ويختارون لأنفسهم الطريق التي يسلكون، لتحقيق الأهداف الفردية مرة، والجماعية مرة أخرى.

وهذا العقل النقدي لن يتحقق ما لم تعمل عليه تكوينه المؤسسات المعنية بهذا التكوين، ولن يتشكل إلا من خلال عمل منظومة مجتمعية متكاملة، يشارك فيها أول ما يشارك الأسرة، التي يجب أن تترك للابن منذ الطفولة هامشا واسعا من الحرية، لتسمح له بإخضاع ما يتلقى من تعليمات ببحثها ودرسها، وفرز ما فيها من صواب أو خطأ، حسب رؤيته، منذ سنواته الأولى، ذلك الذي يجعل هذا العضو، في العائلة والمجتمع، يشب وقد تحمل مسؤولية الفكر، بل، التفكر والتدبر، ومن ثم يتحمل مسؤولية اختياراته، والنتائج المترتبة عليها، دون الاتكال على الأبوين في كل صغيرة وكبيرة، هذا الاتكال الذي تكون نتيجته، التشوه في الفهم، والعجز عن الفكر، وعدم القدرة على اتخاذ القرار، ومن ثم البحث عن ذرائع ليلقي عليها الفشل.

وإن كان إنبات العقل النقدي يبدأ أول ما يبدأ بإتاحة الأسرة الفرصة له، فإن المدرسة، لها، كما قلنا آنفا، الدور الأكبر، في الوصول بهذه النبتة إلى المبتغى منها وهو أن تصبح شجرة مورفة، تمنحنا، فضلا عن ظلالها، ثمرة ناضجة حلوة المذاق.

وتلك الثمرة الحلوة المذاق، لا يمكن أن نتحصل عليها، إلا إذا تضافرت بقية المؤسسات المعنية في الدولة، لإنتاجها، تلك المؤسسات التي نعنيها هي المشاركة بفاعلية في صنع هذا العقل النقدي ويأتي الإعلام كعامل مؤثر فاعل في هذا العقل المنشود، فالمطلوب من الإعلام أن يقدم ذلك المحتوى المُحَفّز للعقل، الدافع للتدبر، المشجع للتفكّر، لا أن يصيب العقل بالخمول والكسل، ويدعه يغض في ذلك النوم العميق المريح، والسبات الشديد، ليسلبه أهم ما يميزه وهو التمييز، بين الصواب والخطأ، وبين القبح والجمال، فلا يستطيع شخص ولا جماعة أن تقدم له القبح وتوهمه أنه من الجمال، ولا الخطأ على أنه صواب.

تلك الثمرة لذيذة الطعم صعبة المنال، لا يمكن أن تكون بالنضج المطلوب، ما لم تجعل وزارة الثقافة مشروعا قوميا، يكون شعاره: نحو إحياء العقل المصري. ذلك الذي يعني أن تعمل على تقديم محتوىً ذي خصائص فكرية تحفز العقل على التفكر، وتخلق في العقل حالة من الصراع الفكري، تجعله لا يركن، كما يظن، لمسلمات بلهاء، ولا أن تهدأ جذوة العقل، ولا أن تخنع وتخضع لما يلقى عليها من أفكار، ما لم تلهبها بحثا ودراسة.

هاتيك الشجرة المورفة لن تعطينا هذه الثمرة طيبة المذاق صعبة المنال إن لم تشارك في إثمارها المؤسسة الدينية وتروها بماء عذب من نبعه الصافي، قبل أن تعبث به عقول جمّدت العقل، وحرّمت الفكر، وألغت التدبر، وسترت التأمل، تلك العقول التي اختطفت الدين لتتحكم بالعباد والبلاد، فلم تسمح بمناقشتها، التي اعتبرته جدالا، الذي هو منهي عنه، ولم تسمح فوق ذلك بإعمال العقل، فضلا عن النقدي منه، فوجدنا المتعلمين، والحاصلين على أعلى الدرجات العلمية مرتعشين مرعوبين أمام نص يُزْعَم أنه من الدين ولا يتفق بحال من الأحوال مع العقل، ولا يتسق بحال من الأحوال مع الواقع، ولا يمكن أن يتقبله عقل طفل، وجدناهم مذعورين من أن يُعْمِلوا عقلهم، لأن ثقتهم في أنفسهم قد ولت، ويقينهم بعقولهم قد تخلى عنهم، وإيمانهم بقدرتهم على الفرز قد هرب منهم، ومن ثم فإنهم يرون في أنفسهم أنهم غير مؤهلين لذلك - حسب زعم من ألقوا هذا في نفوسهم - للتحدث في أمر من هذا لأنه يخص الدين، ويرتبط بالمقدس، ولابد أن يعودوا في مثل هكذا نص، كما وصفناه، لرجل الدين، والحقيقة أنهم غير مؤهلين بالفعل، ليس من الناحية العلمية، بل من الناحية العقلية، لأن هناك من أفهمهم أن هذا من الدين، الذي لا يرضى من العقل مناقشة، ولا يقبل جدالا، مع العقل الرافض للخضوع لما لا يتلاءم معه، والذي يدعوهم، والحال كذلك، إلى الاستسلام والإذعان لله عز وجل، فألغوا عقولهم التي لم يُكلّفوا إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد منحهم إياها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط