ليلةالقدر، ليلةٌ قدَّر اللهُ سبحانه وتعالى فيها الرحمة لأوليائه، يجد فيها العابدون قدر نفوسهم، ويشهد فيهاالعارفون قدر معبودهم(1).
تتوالى فيها الرحمات، وتتنزل البركات، وتُثقل الموازين بالأجور والحسنات، بفضلها وشرفها النصوص تواترت، وللحث على إحيائهاتعددت الأقوال وتكاثرت.
الليلةُ المباركة التي نزل فيها القرآن،قال تعالى:﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾(2)،وقال:﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾(3).
ليلةُ الحُكم التي يقضي سبحانه وتعالى فيها قضاء السنة(4)، قال مُجَاهِد:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾(5):«لَيْلَةُ الْحُكْمِ»،﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾(6)، «لَيْلَةُ الْحُكْمِ»(7).
ليلةٌ ذات شأن؛ حتى قيل: إن ذلك سبب تسميتها بالقدر،وهو شرفها على سائر الليالي، فالقدر بمعنى: المنزلة والشرف إما باعتبار العامل على معنى أن من أتى بالطاعة فيها صار ذا قدر وشرف، وإما باعتبار نفس العمل على معنى أن الطاعة الواقعة في تلك الليلة لها قدر وشرف زائد(8).
ولما كانت ليلة القدر بهذا القدر كانت فرصة لعمل الصالحات، وكان إحياؤها تقربًالزيادة الأجور بالطاعات، وقد حضَّ النبي-صلى الله عليه وسلم-على اغتنام فرص الطاعات، فقال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا»(9)، أي: سابقوا بالأعمال الصالحة هجوم المحن المانعة منها، والمقصود: الحض على اغتنام الفرصة، والاجتهاد في أعمال الخير والبر عند التمكن منها، قبل هجوم الموانع(10).
وكيف لا تكون فرصةً وقد جعلها الحق-سبحانه وتعالى-خيرًا من ألف شهر، فقال:﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾(11)، أي: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر(12).
كيف لا تكون فرصة، وهي ليلة يكثر فيها تنزل الملائكة، قال تعالى:﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾(13)، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحِلق الذكر(14).
كيف لا تكون فرصة وهي ليلة سلام على أولياء الله وأهل طاعته(15)، قال تعالى:﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾(16)والسلام: السلامة، والتحية والمدحة، والمعنيان حاصلان في الآية، فالسلامة تشمل كل خير؛ لأن الخير سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل: الغفران، وإجزال الثواب، واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة، أما السلام بمعنى التحية فالمراد به: ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾(17).(18).
لذا كان حريٌّ بالمسلم الفطن أن يتفقدها، وذلك في العشر الأواخر من رمضان، لقوله –صلى الله عليه وسلم-:«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»ِ(19).
فيُحي ليلهابالعبادة، راغبًا في الفضل والزيادة، منوعًا في ذلك بين الصالحات، مستشعرًا تنزل الخير والرحمات.
فلقد بين-صلى الله عليه وسلم-أجر من أقامها إيمانًا واحتسابًافقال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(20).
وسألته السيدة عَائِشَةُ–رضي الله عنها-ماذا تقول إن وافقتها؟، فقال: " تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي "(21).
وكان قتادة «يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل العشر ختم كل ليلة مرة»(22).
ولعظم أجر من أقامها إيمانًا واحتسابًا، قال أبو بكر الورَّاق: إنها سميت بذلك؛ لأن من لم يكن ذا قدر، يصير في هذِه الليلة ذا قدر إذا أدركها وأحياها(23).
ويكفي في الحث على إحيائها، أنه -صلى الله عليه وسلم-عدَّ من حُرم خيرها من المحرومين، فقال:« فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ»(24).
وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.