الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

طاعون الموت الأسود .. وباء الماضي المخيف يبوح بأسراره في دراسة جديدة

ضحايا طاعون الموت
ضحايا طاعون الموت الأسود

يدين عالم اليوم لمسيرة البحث العلمي بالكثير، فلها يرجع الفضل في وجود جميع ما يحيط بالإنسان من إنجازات، وفرت له الوقت والجهد والمال، وغيرت ولا تزال تغير حياته للأفضل على جميع المستويات، وفي سبيل مزيد من التطور وتحقيق الرفاهية للجنس البشري، لا يكتفي العلماء بالبحث الدؤوب عن حلول لمشكلات آنية، بل يعودون للتنقيب في أسرار الماضي إيمانا منهم بتراكمية العلم وتكامل اكتشافاته عبر الزمن.

قتل الطاعون الذي كان يطلق عليه "الموت الأسود"، نصف سكان القارة الأوروبية في العصور الوسطى، وتحديدا في القرن الرابع عشر خلال سبع سنوات، مغيرا مجرى التاريخ الإنساني.

وأوضحت دراسة علمية جديدة نشرتها مجلة "نيتشر" أمس الأربعاء، أن هناك عوامل كثيرة تحدد من يموت متأثرًا بالطاعون الذي يعد أكبر كارثة صحية سجلت في التاريخ ومن ينجو منه، وأن تحليل الحمض النووي للضحايا والناجين حدد الفوارق الجينية التي ساعدت بعض الناس على النجاة.

وتشكل هذه الفوارق الجينية أنظمة المناعة لدى البشر اليوم، فالجينات التي كانت تحمي من الطاعون قديما، لها علاقة بمدى قابلية الإصابة بأمراض المناعة الذاتية الآن مثل مرض كرونز والتهاب المفاصل الروماتيزمي.

ويقول لويس باريرو وهو أحد الباحثين المشاركين في الدراسة، أن البشر الآن هم سلالة الناجين من الأوبئة في الماضي، وقد تبين أن آليات التطور التي ساهمت في نجاة البشر الحاليين ليست مهمة من وجهة النظر العلمية فقط، بل إنها توضح أيضا الآليات والمحددات الجينية المتعلقة بإمكانية الإصابة بالأمراض اليوم.

بم تخبرنا عينات ضحايا طاعون الموت الأسود؟

وتركز الدراسة التي امتدت لسبع سنوات، وتضمنت الحمض النووي المستخلص من ثلاث مجموعات من الهياكل العظمية المكتشفة في لندن والدنمارك، على ضحايا طاعون الذين ماتوا قبل الموت الأسود وأولئك الذين ماتوا بعد فترة تتراوح بين 10 و100 عام بعد اجتياح الوباء لأوروبا.

وأُخذت 300 عينة من لندن، المدينة التي ضربها الطاعون بشدة، ومنها عينات من بقايا الجثث المدفونة في مقابر الطاعون في "إيست سميثفيلد"، التي خصصت للدفن الجماعي لموتى الجائحة خلال فترة ذروتها بين عامي 1348 و1349، وأُخذت عينات أخرى من بقايا بشرية مدفونة في خمسة مواقع في الدنمارك.

واستُخلص الحمض النووي من جذور أسنان الموتى، وتحقق الباحثون من وجود بكتريا "يرسينا بستس" المسببة للطاعون، وبحثوا عن أدلة تثبت التكيف الجيني مع المرض.

ويقول هندريك بوينر أستاذ علم الأجناس في جامعة ماكماستر الكندية، إن عملية البحث طويلة ولكنها تقود في النهاية إلى اكتشاف التتابع الجيني لمن عاشوا قبل وأثناء وبعد جائحة طاعون الموت الأسود، وتثير تساؤلا عما إذا كانت الجينات تختلف باختلاف المجموعات العرقية المتعددة.

وحدد فريق البحث نسخة من جين معين يعرف باسم ERAP2، الذي له علاقة وثيقة بالطاعون، وقبل ظهور الموت الأسود وجد أن هذا الجين يحمي من المرض الذي ظهر في 40% من البقايا البشرية التي شملتها دراسة لندن، و50% من البقايا البشرية التي شملتها دراسة الدنمارك بعد ظهور المرض الأسود، وكان التفاوت في النسب المئوية واضحا، فقد تغيرت من حوالي 45% من العينات التي دفنت قبله إلى 70% من العينات التي دفنت بعده.

ولا يعلم الباحثون على وجه التحديد سببا للحماية التي يوفرها هذا النوع من الجينات، والتي بينتها الاختبارات المعملية التي أجريت على الخلايا المستزرعة، وأوضح باريرو أن الخلايا المناعية المعروفة باسم الخلايا الضامة في الأفراد الذين يحملون هذا النوع الجيني، أظهرت رد فعل مختلفا تماما تجاه بكتيريا "يرسينا بستس"، وكانت أقدر على قتلها في الاختبارات المعملية، بشكل أكبر من قدرة نفس الخلايا المناعية في الأفراد الذين يعانون نقص هذا النوع الجيني.

وأضاف أنه ليس من المعروف ما إذا كان الجين ما زال قادرا على الحماية من الطاعون، بالنظر إلى أن عدد المصابين اليوم قليل للغاية، لكن من المتوقع أن يكون فعالا في الحماية من أمراض أخرى، رغم أن الدراسة لم تشمل هذا المبحث.

الوجه الآخر للمناعة

يعد الجانب السلبي لنسخة الجين ERAP 2، هو رفعه احتمالية الإصابة بأمراض المناعة الذاتية التي يسببها فرط النشاط المناعي مثل مرض كرونز، مما يعني أن من نجوا من وباء الموت الأسود يدفعون ثمنا لذلك، حيث أن لديهم نظام مناعي يعمل أحيانا ضد أجسادهم.

ويرى باريرو أنه من غير المرجح أن تشكل جائحة كورونا نظام المناعة لدى البشر اليوم بنفس الطريقة، حيث أنها تقتل المصابين في سن الإنجاب، وهو ما يعني أن الجينات التي تمنح الحماية منه لن تنتقل إلى الأجيال القادمة.

ويرى ديفيد إنارد الباحث بقسم علوم البيئة والتطور البيولوجي بجامعة أريزونا الأمريكية (ليس أحد أفراد فريق البحث في الدراسة المذكورة)، أن تغير التركيب الجيني للبشر والذي يحدث على مدار عقود طويلة، مثال نادر على سرعة حدوث الانتخاب الطبيعي.

وقال إنارد في تعليق له على الدراسة، إن الفترة الزمنية القصيرة التي شملتها والعدد الكبير من العينات التي خضعت للتحليل، مكنت العلماء من تحديد تاريخ الانتخاب الطبيعي بدقة، ورغم أن علماء التطور البيولوجي تساءلوا عن إمكانية حدوث الانتخاب الطبيعي خلال انتشار الموت الأسود، فإن إيجاد الإجابة لم يكن ممكنا دون هذا التأريخ الدقيق للكثير من العينات.