"حفيد الإغريق" ومصر التى فى خاطره

أثناء زيارتى الأخيرة للأسكندرية بصحبة أحد أصدقائى المقربين، وعند مغادرتنا القطار متخذين طريقنا نحو الخروج من محطة الرمل، فإذا بأحد الأشخاص يستوقف صديقى فجأة..لتتعالى صيحاتهما الممزوجة بالفرحة والضحكات..
فوقفت مبتسمًا كعادتى فى مثل هذه المواقف، متأملًا تلك اللحظات الصادقة والتى باتت عزيزة ونادرة فى علاقاتنا وأيامنا هذه.
* تصافح الرجلان وتبادلا العناق..وكنت قد أدركت بعدما سمعته من كلمات وعبارات أن صداقة متينة وقديمة تجمعهما قدمه إلىَّ صديقى مفصحًا عن اسمه: (مستر ساڤاس).. مددت يدى وتصافحنا بتوقير له من جانبى وبحميمية وحماس من جانبه..
تأملته..فإذا هو برجل ستينى بشوش..وجهه أبيض مشرب بحمرة، أقرب فى ملامحه إلى الأوروبيين.،
*وعندما لمح صديقى نظرة الإستغراب فى عينى
_بادرنى قائلًا: (طبعًا إنت مستغرب إزاى هو بيتكلم عربى أحسن مننا برغم إسمه وشكله).،
_فأومئت له برأسى إيجابًا وأنا أبتسم..
_فاستطرد قائلًا: "مستر ساڤاس" مصرى يونانى الأصل.
_أصر الرجل بحماس وحفاوة بالغة أن يصطحبنا إلى الفندق بنفسهِ.. وبلهجة "ولاد بحرى" أوقف لنا تاكسى.، أوصلنا.. وأكد علينا قبل أن ينصرف بأنه سوف يعود إلينا فى المساء ليأخذنا إلى "كوفى شوب شهرزاد" على كورنيش الرمل فى "أجمل قعدة اسكندرانى" حسبما ذكر.
_حل المساء..وأتى "مستر ساڤاس" فى الموعد..
جلسنا وتحدثنا فى موضوعاتٍ كثيرة، إلا أن حديثه عن مصر قد شغل المساحة الكبرى، فعرفت كيف ارتبطت كل مرحلة من حياتهِ بهذه الأرض، فكان كحديث العاشق عن حب عمره.
*حدثنى عن الأسكندرية التى تجرى فى دمائه وتسكن روحه.. وعن الأماكن التى احتضنت طفولته وصباه وشبابه..وشهدت على كل ذكرياته، أفراحه وأوجاعه..نجاحاته وإخفاقاته.
*حدثنى عن حال اليونانيين المقييمين فى مصر بعد ثورة يوليو(٥٢) وقرار الغالبية منهم الرحيل عن مصر..بعدما استشعروا أن المناخ السياسى والإجتماعى قد يكون غير ملائمًا، وكيف كان الرحيل كمن قرر بإرادته تفريق روحه عن جسده.، إلا أن مرارة الفراق وألم التخلى لم يبدلا الحب بالكراهية والتشفى بعد نكسة(٦٧).
*حكى لى كيف أنه بكى قهرًا وألمًا لأجل معشوقته وحبيبته الجريحة"مصر" .
*(وهنا شرد ذهنى رغمًا عنى عائدًا إلى تلك اللحظة ليتذكر مستنكرًا كيف أن أُناس خرجوا من رحم هذا الوطن قد خرّوا سُچَدًا على أرضه الجريحة مهللين مكبرين فرحًا بهزيمته من الصهاينة.
*وتساءلت فى نفسى:كيف للمرء..مهما كان موتورًا من حاكمٍ أو من جهازٍ أمنى.. أن يفرح باستباحة أرضه وبهزيمةٍ لحقت بوطنهِ على يد ألد أعدائه؟!!..ولكنه "الضلال"..أعاذنا الله،
_إرتد إلىَّ ذهنى..وعُدت سريعًا للتركيز والإنتباه لكلمات "مستر ساڤاس" والذى تخلى عن تأثره وأشرق وجهه و دبت الحماسة فى نبرات صوته وهو يحدثنى عن نصر أكتوبر العظيم..وكم تمنى وقتها أن يرتدى زىّ حبيبته العسكرى ليشارك فى استرداد عزتها وكرامتها.
* وحكى لى أنه وفى أعقاب نصر أكتوبر كان مسافرًا من القاهرة إلى باريس فى مهمة عمل.
وكيف أنه فضل إبراز "جواز السفر المصرى" فى مطار باريس..بالرغم من وجود نظيره اليونانى بحوزته.
* وأخبرنى كم كانت سعادته وهو يحصد نظرات وعبارات التقدير والإجلال من أعين موظفى المطار الذين وصفوه "بالمصرى المنتصر".
_سكت "مستر ساڤاس" للحظات وهو مبتسمًا، ثم عاود حديثه إلىّ حتى وصل للسنوات الخمس الماضية، فلاحظت فى قسمات وجهه ونبرات صوته خوفًا صادقًا على مصر نابعًا من قلبٍ عاشقٍ وفى، وأسهب فى حديثهِ عن المؤامرات التى تتعرض لها المنطقة العربية، *وقبل أن ينهى حديثه معى ظل يوصينى بحبيته ِ"مصر"..وطلب منى أن أنقل وصاياه إليكم إن استطعت..بأن نظل متماسكين متحدين متسامحين..وأن نبحث دومًا عن حقيقة الأشياء بعيدًا عن التعصب والهوى..كى نملك الوعى ونبلغ الحكمة..أوصانى بالحفاظ عليها..والعمل بجدٍ وإخلاص لرفعتها وكفايتها وصون كرامتها.
* ثم أنهى حديثه إلىّ بكلمات آتيه من جوف اليقين..
وبنبرةٍ حاسمة ونظرةٍ واثقة أشار بسبابتهِ إلى الأرض وقال:
(البلد ده ربنا بيحبه..و ربنا حافظه..وحايفضل حاميه)
_ذهب "حفيد الإغريق"..وصعدت وصديقى إلى غرفتنا بالفندق.. إستلقيت على فراشى وعاد ذهنى للشرود مرة أخرى، فهذا الرجل الذى قد تجاوز الستين من عمره.. نعم يحمل الجنسية المصرية، ولكنه يونانى الأصل يمتلك بيتًا هناك وأغلب عائلته أيضًا هناك..يعمل مديرًا فى واحدة من أكبر الشركات بالمنطقة العربية..يجوب العالم شرقه وغربه.
* فلن يضيره أبدًا إذا تعرضت مصر لثمة أزمة
* إلا أننى عدت وأجبت نفسى بالنفى.."لا".. فضرر رجل مثله يتعدى ويفوق الماديات.. إنه أبلغ وأعمق من ذلك مرات ومرات.
_واستحضرت صورته أمامى وهو يتحدث عن مصر بخوف العاشق ونخوة المحارب..وكأن "أنطونيو" بُعِث من جديد ليقف حاميًا ومدافعًا عن حبيبته الأزلية "كليوباترا" الخالدة
_وأيقنت أن الضرر الذى يترك وراءه جرحًا غائراٌ فى الروح..لن يداويه المال أو كثرة السفر والأعمال.
* وأن فقد الوطن ولو كان فقيرًا..تملئ جنباته المشكلات والأزمات..لن يعوضه أبدًا أجمل بلاد الدنيا وإن امتلكنا فيها بروجًا مشيدة.،
_وتعجبت من مفارقات الحياة..
فهناك قلوبٌ تنتمى ولا تنتسب..
وقلوب تنتسب ولا تنتمى..
وشتان..شتان بين الإنتماء والإنتساب،
* قلوب لا تنتسب إلى أرضك يا مِصر ولكنها تنتمى إليك بما تملكه من رصيدٍ كبير يملئ وجدانها وكيانها بمشاعر الحب والحنين والإخلاص،
* وقلوب تنتسب إليك ولكنها لا تنتمى..
ففى نظرها القاصر وعقلها المريض:
"ما الوطن إلا حفنة من ترابٍ عَفِن"
_وأدركت رسالة الله إلىّ..حينما قدّر لى أن ألقىَ ذاك الرجل فى ذلك اليوم كى تترسخ فى وجدانى وعقيدتى الوطنية قاعدة مطلقة مفادها:
(أن فى عرف و دستور الأوطان..تظل هناك أشياءٌ ثمينة صعبة المنال..وأن الإنتماء والوفاء والنبل والإخلاص لم تكن يومًا بالأوراق الثبوتية الدالة على حمل الجنسية أو ببطاقات الهوية.. وإنما بالبذل والعطاء والإيثار.
* حقًا.. "هى أشياءٌ لا تُشترى"