الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى رحيله.. كيف واجه بيرم التونسي الأزمات والمعارك؟

صدى البلد

عاش الشاعر بيرم التونسي، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله، حياته يعاني من العرق والقلق والمشقة ، وربط الفن بين بيرم التونسي وسيد درويش في وقت مبكر، حيث كانت صداقتهما عميقة، وجمعهما في السهرات الفنية التي كانت تشهدها الإسكندرية في ذلك الوقت.

ميلاد بيرم التونسي وحكاية السلك والوابور
ولد محمود محمد مصطفى بيرم، المعروف بـ بيرم التونسي، في حي الأنفوشي بالأسكندرية بشارع البوريني بالسيالة، في يوم 23 مارس عام 1893، وكان لبيرم أخت من أبيه تسمي لبيبة والتي كانت تكبره بعشرين عامًا، والتقى بيرم ذات يوم بأحد البنائين، الذين يأتون لخاله في نهاية الأسبوع لأخذ أجرتهم، وتجاذب الحديث معه، فروى له البناء قصة «السلك والوابور» وهي محاورة خفيفة الظل بين التلغراف والقطار.

وعشق بيرم حديث هذا البناء فصار ينتظره كل أسبوع، ليروي له بعض القصص الشعبية التي يحفظها، وتطورت تلك الهواية الجديدة عند بيرم، إلى حد أنه أصبح لا يكتفي بسماعها بعد أن عرف مصدرها في حي الشمرلي؛ وبدأ يقتصد من مصروف يده ليشتري به من مكتبات هذا الحي كتب الأساطير الشعبية مثل «ألف ليلة وليلة»، «أبوزيد الهلالي»، «عنترة»، و«سيف بن ذي يزن»، وغيرها، وكانت بعض تلك الأساطير تتخللها أبيات من الشعر.

حيث وجدت هوى في نفس الصبي، وأقبل على شراء دواوين الشعر التي كان يقرأها في نهم وشغف، إلى أن وقع في يده مجموعة من أشعار ابن الرومي ففُتن بها وعدها أمتع ماقرأ؛ وتعلم منها -كما كان يقول دائمًا- روح الهجاء، فكانت هي وأزجال محمد توفيق صاحب جريدة «حمارة منيتي» بداية سريان روح النقد اللاذع في دمه، وكان أسلوب محمد توفيق في هذه الجريدة قمة في السخرية.

تعلم بيرم التونسي ومعاقبته بالفلكة
التحق بيرم بكُتاب الشيخ جاد الله، حينما أتم الرابعة من عمره، وكان الكُتاب يقع في حي زاوية خطاب الذي يتوسط بين حي الأنفوشي وحي الميدان الذي كان يقع فيه مصنع والده، فكان يخرج من الكُتاب إلى المصنع ليقضي باقي اليوم بعد الدراسة.

وكانت عقدة بيرم أنه بليد في الحساب، لا يعرف كتابة السبعة من الثمانية، لذا لم ينج من وطأة الفلقة في يوم من الأيام، ولم يعد يطيق الطفل قسوة الشيخ جاد عليه، فذهب لأبيه ذات يوم ليرجوه أن يرحمه من قسوة الشيخ ولكن الأب لم يأبه، وأجبره علي الذهاب للكُتاب، وكانت النتيجة عدم استيعاب الطفل لأي معلومات يقولها الشيخ، وبالتالي زيادة معاقبته، وعندئذ لم يجد الأب أي فائدة من تعليم الطفل الذي كان يطمع في رؤيته يوما ما فقيها في العلم، فاضطر لإخراجه من الكُتَّاب، ويجلسه مع أولاد عمه في دكان الحرير الذي يمتلكه. 

ويحكي بيرم في مذكراته عن تلك الفترة من حياته أنه لم يستفد من الكتُاب إلا في الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة فقط؛ فلم يكن للشيخ أي دور في تشجيعه على الثقافة أو النهم للمعرفة أو الاستدامة في القراءة، وحاول والد بيرم أن يعود إلى محاولة جديدة لتعليمه، فأرسله إلى مسجد المرسي أبو العباس، حيث المعهد الديني، الذي كان يتردد عليه أغلب أبناء تجار الحي، وأقبل بيرم على ما كان يلقى في هذا المعهد من دروس في نهم وشغف، ولكنه لم يكمل دراسته في هذا المعهد حيث جاء موت أبيه ليوقفه عن دروسه.

نقطة التحول في حياة بيرم التونسي فترة الطفولة
واكتمل ارتشاف الطفل بيرم التونسي من الفن والأدب عندما سكن في منزلهم أستاذ تركي اسمه محمد طاهر، وقد رأى في بيرم ميله للشعر فأهداه كتابًا في فن العروض، وكان هذا الكتاب نقطة تحول في حياته؛ فما كاد يقرأه حتى بدأ محاولاته في عمل بعض الأزجال والأشعار، وقرأ بيرم وهو في السابعة عشر كتابا في الصوفية لمحيى الدين بن عربي، وما إن قرأ الكتاب وحل ألغازه حتى بدأ يبحث عن كتب أخرى من هذا النوع فاشترى كتبًا؛ للمقريزي والغزالي والميداني، وقرأ في الأدب الشعبي لعبد الله النديم، وحفظ أزجال الشيخ النجار والشيخ القوصي، وحاول تقليدها.

حوادث في حياة بيرم التونسي
وفي العام الذي خرج فيه بيرم التونسي من الكُتاب، فُوجئ بحادثين: الحادث الأول هو مولد أخته وموتها بعد هذا الميلاد بثلاثة أيام، والحادث الثاني جاء عن طريق المصادفة، حينما اكتشفت أمه أن زوجها تزوج عليها سرًا من فنانة كانت تتردد على دكانه. 

وكان لهاتين الحادثتين أثر كبير على نفس الطفل حيث أصبح طفلًا حزينًا، لا يقبل اللعب مع الأطفال، وكان يكتفي بمراقبتهم وقت اللعب.

وزاد من ذلك الحزن وتلك التعاسة المبكرة موت الأب الذي لم يترك للأم والأخت والابن غير المنزل الذي يعيشون فيه، حيث استولت زوجة أبيه علي ثروته لحظة موته، والتي كانت خمسة ألاف جنيه ذهبًا، واستولى أبناء عمه على تجارة أبيه. 

ونتيجة لذلك انقطع بيرم عن الدراسة وهو في الثانية عشرة من عمره، واضطر للالتحاق كصبي في محل بقالة، حيث أصبح رجل البيت، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل حيث طُرد منه، ولم ينته الأمر عند هذا الحد من التعاسة حيث تزوجت أمه، والتحق بيرم بالعمل مع زوج أمه في عمله الشاق وكان يعمل بصناعة هوادج الجمال، ثم توفيت أمه عام 1910.

ويعلق بيرم على موت أمه قائلًا: "ابتدأت حياة من الضياع، فقد انتقلت للإقامة مع أختي لأبي المتزوجة من خالي، وكانت تعد علي الأنفاس والحركات والسكنات وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها لي".

قرر بيرم الزواج وهو في السابعة عشر؛ خاصة بعدما ماتت أمه، فكلف شقيقته الكبرى للبحث له عن زوجة من أسرة محافظة في الحي، ووجدتها في ابنة تاجر عطارة، وتم الزواج وعاش معها في حجرة في بيت أبيها، ولكن الحياة كشرت عن أنيابها مبكرًا فأغلق بيرم محل البقالة الذي كان قد فتحه قبل الزواج، وأفلس، فلم يستسلم بيرم لذلك، فهو ليس وحده، وعلى عاتقه تقع مسئوليات زوجته، فباع المنزل الذي تركه له أبوه، وعمل في تجارة السمن من ثمن المنزل واشترى بباقي النقود بيتا صغيرا في الأنفوشي، وماتت الزوجة بعد ست سنوات زواج؛ تاركة له ولدًا اسمُه محمد وبنتًا اسمها نعيمة، وحار الأب مع الطفلين، إذ لم يعرف كيف يعاملهما، وعندئذ لم يجد طريقًا سوى الزواج مرة ثانية، فيضطر بيرم للزواج مرة أخرى بعد 17 يومًا من موت الزوجة.

حكاية بيرم التونسي وسيد درويش
يروي بيرم التونسي قصة لقائه بسيد درويش فيقول: «لازمت الشيخ سيد درويش وألفت له رواية شهرزاد بعيدًا عن النشاط السياسي، وتم عرضها بعد رحيلي الأول منفيًا إلى الخارج، وكان الاسم الذي اقترحناه للرواية هو «شهوزاد» إشارة إلى شهوات العائلة الحاكمة ولكن الرقابة منعت ذلك الاسم فعدلته» وكان سيد درويش قد طلب من بيرم أن يؤلف له أوبريت يُلهب الحماسة في نفوس المصريين، ويدفعهم لمناهضة الاحتلال، فيقول لبيرم: «دائمًا حجة الإنجليز أمام العالم لتبرير استعبادنا أننا شعب ضعيف لا يستطيع حكم نفسه وأننا بحاجة إلى حماية مستمرة، وعلشان كده أنا شايف إن الأوبريت من أولها إلى آخرها لازم يكون فيها تمجيد للإنسان المصري».

فقام بيرم بتأليف شهرزاد للشيخ سيد، وأحداث هذا الأوبريت مقتبسة عن أوبريت «دوقة جيرولستين الكبيرة» للكاتبين الفرنسيين: ميلهاك وهاليفي. 

حكاية بيرم التونسي وكوكب الشرق أم كلثوم

تقابلت أم كلثوم ببيرم في نهاية عام 1940، كان بيرم قد عاد إلى مصر متسللًا بعد عشرين سنة في المنفى وذلك في 8 أبريل عام 1938، وظل مختفيًا حتى صدر العفو عنه، وكان صيته قد ذاع في تلك الفترة، وعرف الوسط الفني والأدبي قصته بما فيه أم كلثوم التي كانت تعرف ماضيه في الصحف وتأليف المسرحيات الغنائية، فطلبت من شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد أن يعرفها على الزجال بيرم التونسي. 

وتم التعارف بين بيرم وأم كلثوم، واتفقت معه على مجموعة من الأغاني يلحنها زكريا أحمد، وبدأ بيرم في أول أعماله الغنائية مع أم كلثوم في أبريل عام 1941، بتأليف أغنية «أنا وأنت»، ثم يتبعها بأغنية أخرى وهي أغنية «كل الأحبة».

وبدأت رحلة الأعمال الفنية لأم كلثوم مع كلام بيرم وألحان زكريا أحمد، فغنت أم كلثوم أيضًا من كلام بيرم وألحان زكريا أحمد أغنية «إيه أسمى الحب»، وأغنية «الآهات» والتي ترددت أم كلثوم كثيرًا في غنائها لولا إقناع الشيخ زكريا أحمد لها، وعلى الرغم من ذلك حققت الأغنية نجاحًا قويًا جدًا، حتى وأنها ما إن انتهت من الغناء حتى تواصل التصفيق لأم كلثوم أكثر من عشر دقائق، وكانت هذه أطول مدة تصفيق استقبل فيها الجمهور أغنية من أغانيها طوال حياتها. 

وتوالت الأغاني التي قدمها بيرم لأم كلثوم نذكر منها « حلم» « أنا في انتظارك» « الأولة في الغرام» « حبيبي يسعد أوقاته» « أهل الهوى» « شمس الأصيل» « الحب كده» « القلب يعشق كل جميل»، وهناك أغاني أخرى غنتها أم كلثوم لبيرم وربما كانت أقل شهرة من الأغاني السابقة مثل «أكتب لي من غير تأخير» و«البدر أهو نور» و«أنا ليه أجاسر وأعاتبك»، و«في أوان الورد ابتدا حبي» و«ياقلبي ياما تميل بنظرة» و«حيران ليه يادموعي».

كما غنت له بعض الأناشيد الوطنية مثل أغنية «صوت السلام»، والتي كانت سببًا في حصوله على ميدالية برونزية من المجلس الأعلى للفنون والآداب.