الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ضد التيار.. أدعمُ أغاني المهرجانات


أذكر في الأيام الأولى لظهور جيل عمرو دياب كان هناك على الساحة المصرية جدل كبير هائل على هذه النوعية من الأغاني، وانقسم المجتمع المصري بشأنها انقساما هائلا.

كنت - في تلك المرحلة - شابا في مقتبل العمر؛ ولم أكن أستمع مطلقا إلا إلى جارة القمر فيروز - مطربتي المفضلة - بالإضافة طبعا لسيدة الغناء العربي السيدة أم كلثوم، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب والعندليب عبد الحليم حافظ، ونادرا جدا ما أستمع لأغنية لمطرب أو مطربة أخرى، ولم استسغ - حتى اللحظة - هذا النوع من تلك الأغاني التي جاء بها جيل عمرو دياب، ولا أعرف للهضبة اسم أغنية واحدة، وهذا لم يمنعني من تتبع أخباره باعتباره ظاهرة الغناء المصري في العصر الحديث.

وكان الانتقاد لهذا الجيل الذي جاء "يتنطط" على المسرح على مستوى اللحن والكلمة والحركات، وخرجت السخرية اللاذعة من بين شفاه المصريين؛ واستثمر المسرح الساخر هذا النوع من الغناء؛ فأصبح مادة للتندر، ولكن هذا النوع من الغناء صمد أمام هذه الحملة الشرسة، واستطاع أن يصبح مثلا يضرب؛ فلم يعد مستهجنا، ولم يظل مرفوضا، بل استطاع أن يتخطى الحدود المصرية والعربية؛ فوجدناه يُسْتَمَع في أوروبا، ويُرْقَص عليه في المراقص بها، ويردد الراقصات والراقصون كلمات الأغنية كلمةً كلمةً وحرفًا حرفًا.

ما الذي حدث في هذا النوع الجديد من الأغاني؟ الذي جاء ليعبر عن جيل جديد، ويشكل وجدان ذلك الجيل، الذي يرفض الآن، ومعه أجيال تسبقه، أغاني المهرجانات، الذي حدث، في تصورنا، أولا هو إيمان مطربي هذا النوع بما يقدمونه، ثانيا استماع مطربي هذا النوع للنصائح التي قدمت لهم، ثالثا سعي هؤلاء المطربين وعلى رأسهم أيقونة جيلهم عمرو دياب على تقديم أغاني جيدة: جيدة من حيث الكلمة ومن حيث اللحن، رابعا تعوّد الأذن الموسيقية على هذا النوع الجديد من الأغاني، فمع الوقت، استساغت الأذن تلك النغمة الجديدة السريعة، التي توافقت مع حركة العصر السريعة، فأزاحت الأغاني بشكلها القديم ولحنها الرصين، وكلماتها العميقة المعنى، أزاحتها إلى الخلف، ويتم العودة لها في لحظات بعينها تحتاج النفس فيها للعودة إلى ماضيها "الجميل" وصفائها ونقائها، واستطاعت الأذن أن تميز - مع الوقت - هذه الأصوات المتشابهة.

إن أي عمل فني لا يمكن أن يحيى أو يستمر إلا إذا كانت العلاقة بين العمل الفني والفنان والمتلقي علاقة تفاعل إيجابية، فالعمل الفني الذي يصدر بالطبع عن فنان لن يكون له أية قيمة إن لم يتفاعل معه متلقٍّ، ذلك الذي يعطي القيمة للعمل، ومن ثم قيمة للفنان، والأغنية هي أحد هذه الأعمال الفنية التي لا يمكن أن تحيى بمفردها، فالذي يمنحها الحياة هو المستمع الذي يستحسنها أو يرفضها، فإن كانت الأولى، وقد حدثت عن أسباب موضوعية تتعلق باللحن والكلمة والصوت والأداء، عاشت الأغنية، وإلا حكم عليها بالفشل ومن ثمّ الموت.

وكم من أغنية حققت نجاحا هائلا حين صدروها، ولكنها لم تصمد ولم تعش في الوجدان؛ ولعل جيلنا يتذكر أغنية "لولاكي" للمطرب علي حميدة والتي حققت نجاحا منقطع النظير، حيث حقق "ألبومها" توزيعا تجاوز الثلاث ملايين نسخة، وهو ما لم يكن قد حدث لأغنية مصرية قبل ذلك؛ ولعله من المناسب هنا أن نتوقف مع رأي موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي سُئٍل عن الأغنية وعن المطرب فأكد أنه لم يستمع إليها ولا يعرف المطرب، ولكن الموسيقار تساءل: هل أُعْجِب الناس "الجمهور" بالأغنية: فكانت الإجابة بنعم؛ فجاء رد الفنان: لا بد أن يكون بها شيء "حلو"، فلقد كان يؤمن موسيقار الأجيال بذوق الجمهور.

عودة لأغاني المهرجانات التي تثير جدلا هائلا بين المصريين؛ ولعله من المناسب أن أعلن أنني لم أستمع إلا القليل النادر منها؛ ولم يكن استماعي ليحدث ربما إلا لما أثير حول هذا النوع من الأغاني من ضجة كبيرة؛ اتفق خلالها جل – إن لم يكن كل – الأصدقاء على فساد هذا النوع من الأغاني، وعلى مستوى هابط للكلمات واللحن ورداءة صوت نجوم هذا النوع الجديد من الأغاني.

في المقابل حقق هذا النوع من الغناء انتشارا هائلا بين الشباب، ونجاحا منقطع النظير في المنافسة العالمية محققا عشرات الملايين من عدد المشاهدات على موقع "يوتيوب"، وكانت المفاجأة في احتلال إحدى أغانيه "بنت الجيران" للمغنييْن "حسن شاكوش وعمر كمال" المرتبة الثانية عالميا، عبر موقع "ساوند كلاود"، ذلك الذي يؤكد هذا النجاح الساحق لهذا النوع من الأغاني؛ الذي صدر يوم أول أمس الأحد قرار من نقيب الموسيقيين الفنان هاني شاكر بمنعه بعد ضغط الرأي العام المصري الذي ألهب الموقع الأشهر في التواصل الاجتماعي "فيسبوك" رفضا لهذا النوع من الفن الذي كان قد نجح مطربه حسن شاكوش في امتحانات نقابة الموسيقيين.

إذًا نحن الآن أمام موقف مركب؛ حيث رأي عام يرفض هذا النوع من الأغاني ويراها مُفسِدة للشباب والأجيال الجديدة، ومَفسَدة بالتالي للمجتمع، ويحارب بكل قوة لمنع هذا النوع من الأغاني، دفاعا عن قيمه، وإعلاء لقيمة الفن الراقي، والمحافظة على الهوية التي يرى الرأي العام أنها مهددة بمثل هكذا نوع من الفن.

وفي المقابل هناك قطاع كبير بل هائل من الشباب يرغب في هذا النوع من الأغاني، بل يتفاعل معه بشكل كبير هو ما أقلق الأجيال الأكبر على مصير هؤلاء الشباب؛ وتأثير هذا النوع من الأغاني عليه، والواقع يؤكد الانتشار الهائل والنجاح منقطع النظير لهذا النوع من الغناء، هذا هو المشهد مبسط بالنسبة لهذه القضية التي تشغل الرأي العام في مصر، الذي هلل لمنع أغاني المهرجانات والذي نرى أنه من الصعوبة بمكان، إن لم يكن مستحيلا، تنفيذ هذا المنع، خاصة مع هذا التطور الكبير في الوسائل التكنولوجية.

هل يمكن إذًا أن نناقش القضية بعيدا عن هذا الاستقطاب الحاد المتمثل في النجاح الهائل والرفض العارم؟ أظن أن ذلك ممكنا، وأنه يمكن ان نصل إلى صيغة منضبطة لهذه القضية وحل مناسب؛ فلنحلل الفكرة إلى عواملها الأولية: إن القضية ببساطة تخص نوعا جديدا من الغناء، والأغنية إذًا هي موضوع القضية، والأغنية عمل ثلاثي العناصر: الأول: الكلمة، والثاني: اللحن، والثالث: الصوت.

إذًا فإنه إذا تم ضبط هذه العناصر الثلاثة فإننا نحصل على أغنية منضبطة يقبلها المجتمع، ولا يرى فيها تهديدا له، بل أكثر من ذلك يمكن أن تكون وسيلة إيجابية مع هذا النجاح الهائل لها، فيمكن أن يتضمن هذا النوع من الأغاني تلك القيم التي يتضمنها الفن الرفيع، وينشدها المجتمع.

ولضبط تلك العناصر الثلاثة علينا أن نحدد المستوى الخاص بالكلمة المغناة، واللحن الذي يجب أن يهذب الغرائز، ولا يهبط بها، على أن يخضع المطرب لاختبار الأصوات لنضمن صوتا، في الحد الأدنى، مقبولا، ذلك الذي يجعلنا نطالب قبل أن تصدر أغنية معينة لهذا النوع من الأغاني بأن تخضع الكلمات للجنة أدبية تقيّمها، واللحن للجنة موسيقية لتقييمه، للأصوات التي نجحت في الاختبار، بذلك نكون قد حولنا الهابط من الفن إلى راقٍ، والمفسد للذوق إلى مهذب له، والمخرب لقيم المجتمع إلى مساعد في حفظ منظومة القيم، في ذات الوقت الذي لم نكن قد حرمنا جيلا من الشباب من نوع من الفن عبر عنه وتفاعل معه، ولم نحرم الفن المصري من منافسة ونجاح حققه جيل جديد ابتكر لونا جديدا. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط