لم يكد العالم يفيق من كبوة جائحة كورونا وما خلفته من تداعيات اقتصادية جمة، حتى جاء الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا والذي تطور إلى حرب لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآلاتها النهائية حال اتساع نطاقها وتغير موازين القوى العالمية.
وألقت الحرب في أوكرانيا بظلالها على الاقتصاد العالمي لا سيما مع ازدياد حدة موجة التضخم العالمية وما ترتب عليها من ارتفاع السلع الغذائية وغيرها، فما من حرب نشبت إلا وكانت لها تداعيات اقتصادية تقسو على حياة الشعوب ربما لعقود من الزمن.
وفي هذه الحرب التي تضرب قلب أوروبا، لا تُعتبر مصر بمنأى عنها نظرا للتأثيرات الاقتصادية التي قد تشمل جميع اقتصادات العالم، ولكن يتوقف مدى التأثر على درجة جاهزية الدولة للتعاطي مع كافة السيناريوهات المتوقعة.
وتتباين تداعيات الأزمة الحالية على الاقتصاد المصري نظرا لكونها أكبر مستورد للقمح في العالم، وكونها مستوردًا للنفط، واعتماد القطاع السياحي في مصر على السياحة الواردة من روسيا وأوكرانيا.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن هذه الأزمة يمكن أن تحمل أيضا جوانب إيجابية قد تستفيد منها الدولة المصرية بشكل كبير، وعليه يتناول هذا التقرير التحليلي الذي أعده المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية (دراية )، برئاسة الدكتور صلاح هاشم، تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والمخاطر المحتملة على الاقتصاد المصري، وما إذا كانت هناك جوانب إيجابية للأزمة إلى جانب ما تقوم بها الحكومة المصرية لمواجهة تلك التداعيات وتجاوز آثارها السلبية.
ارتفاع كبير في أسعار النفط
وشهدت أسعار النفط ارتفاعا كبيرا بلغ أكثر من 8% ليتجاوز مستوى 105 دولارات لبرميل خام برنت، وهو مستوى لم يحدث منذ عام 2014، بسبب فرض الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات اقتصادية على روسيا، بجانب عزل بعض البنوك عن نظام الدفع العالمي "سويفت"، والذى أدى إلى انهيار الروبل الروسي.. و ينعكس هذا الارتفاع بشكل كبير على زيادة تكلفة استيراد المواد البترولية.
هذا إلى جانب كثير من توقعات خبراء الاقتصاد بأنه إذا طال أمد الحرب واتسع نطاقها، من المتوقع أن يقفز سعر البرميل بشكل حاد إلى 150 دولارا، وطبقا لبيانات البنك الدولي فإن كل زيادة بمقدار 10 دولارات في سعر النفط العالمي عن السعر المقدر له في الموازنة العامة لمصر خلال العام المالي الجاري، سيترتب عليها ارتفاع نسبة العجز في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.2% إلى 0.3%.
وتجدر الإشارة هنا إلى اعتماد الدولة المصرية على الواردات النفطية، حيث تزداد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي من النفط، ووصل الفارق بين قيمة الواردات البترولية والصادرات البترولية إلى حوالي 6.7 ملايين دولار بانتهاء العام المالي 2020 /2021.
وقد استطاعت خفض الدعم المقدم للمواد البترولية من 28.1 مليار جنيه بموازنة العام المالي 2020-2021 إلى نحو 18.41 مليار جنيه بموازنة العام المالي 2021-2022، معتمدة على متوسط عام لسعر برميل خام برنت عند متوسط يبلغ 61 دولارًا.
ولهذا قد تتسبب هذه التداعيات في رفع جديد في أسعار البنزين وربما أنواع أخرى من الوقود خاصة وأن مصر ستُصدر التسعير التلقائي للمنتجات البترولية خلال شهر إبريل القادم، وأي زيادة في سعر برميل النفط عن السعر المحدد بالموازنة سيُضيف أعباء جديدة على الموازنة تصل إلى مليارات الدولارات مما يؤدي إلى الضغط على مستويات الإنفاق على هذا البند، وبالتالي ارتفاع العجز النقدي للموازنة.
ومن المتوقع أن تراعي الحكومة في موازنة العام المالي الجديد 2022 /2023، والتي يتم إعدادها خلال هذا الشهر، الزيادة المرتفعة في أسعار النفط عالميًا، وتحديد حجم الدعم الذي ستتحمله موازنة العام المقبل.
قفزة في أسعار السلع الغذائية
وتعتمد مصر على الواردات الروسية والأوكرانية على وجه التحديد في تأمين احتياجاتها الغذائية، ولا سيما القمح إذ تُعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وتُوفر روسيا وأوكرانيا نحو 80% من إمدادات القمح لمصر.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن مصر خلال الـ11 شهر الأولى من عام 2021، حصلت على 4.2 مليون طن من القمح الروسي بنسبة 69.4% من إجمالي كمية واردات مصر من القمح، وعلى 651,4 ألف طن من القمح الأوكراني بنسبة 10,7%.
وهنا نشير إلى أنه وفقًا للبيانات الصادرة عن منظمة "الفاو" فإن كلاً من روسيا وأوكرانيا تحتلان مركزا بالغ الأهمية في سوق المواد الزراعية في العالم، حيث توردان ربع إنتاج الحبوب في العالم، وتُمثل صادراتهما من القمح 23 % من السوق العالمية خلال 2019، حيث صدر كل منها حوالي 31.87 مليون طن، و13.29 مليون طن على الترتيب.
ووفقًا لتقديرات البنك الدولي تبلغ نسبة واردات المواد الغذائية من إجمالي الواردات السلعية نحو 20.7%، وبسبب تأثر وانقطاع سلاسل التوريد بسبب الأعمال العسكرية والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على روسيا والتي من شأنها التسبب فى تراجع مستوى الإمدادات من السلع الغذائية أو ارتفاع أسعارها مما يؤدى إلى اتساع عجز الميزان التجاري غير البترولي البالغ 42.1 مليار دولار خلال العام المالي الماضي، وهو الأمر الذى من شأنه زيادة فاتورة الاستيراد مما يُثقل كاهل الاحتياطي النقدي المصري من العملة الصعبة.
وفى الوقت ذاته، توقع تقرير حديث صادر عن مكتب الشئون الزراعية الأمريكى بالقاهرة بعنوان "رغم وباء كوفيد -19 لا تزال إمدادات الحبوب فى مصر ثابتة"، ارتفاع حجم واردات مصر من القمح فى الموسم 2021/ 2022 إلى نحو 12.4 مليون طن بزيادة قدرها 2.14 عن تقديرات الموسم الماضي 2020/ 2021، وأرجع ذلك إلى الزيادة الطلب بسبب الزيادة السكانية الهائلة بمصر.
كما توقع التقرير زيادة إنتاج مصر من القمح لتصل إلى 9 ملايين طن خلال العام 2021/ 2022 بسبب زيادة المساحة الإجمالية المحصودة والتي تصل إلى 1.4 مليون هكتار.
وهذا ويتوقع خبراء الاقتصاد أن تراجع الحكومة المصرية تسعير بيع رغيف الخبز المدعوم وتقلل نسبة الدعم لاسيما وأن المواطن يدفع 7% فقط من قيمة رغيف الخبز حيث يُباع بـ5 قروش بينما تتخطى التكلفة الفعلية أكثر من 60 قرشا للرغيف، وذلك طيلة 33 عاما لم تشهد فيها الأسعار أى ارتفاع يُذكر.
كما أن قلة واردات الذرة الصفراء سيرفع أسعار الأعلاف وبالتالي يرفع أسعار اللحوم، ومن ناحية أخرى، قد تنتقل تداعيات الأزمة إلى بعض الصناعات المهمة لقطاع الأغذية كالأسمدة، حيث أجبرت الأزمة العديد من المصانع والشركات على خفض إنتاجها أو إغلاق مصانعها، كما تُعد روسيا أيضًا واحدة من أكبر الدول المصدرة في العالم للأسمدة، مما يعني أن تعطيل الإمدادات قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف السلع الغذائية والزراعية.
ارتفاع عجز الموازنة العامة
وفي ظل تقدير الموازنة العامة للدولة المصرية على مدار العام المالي الحالى 2021-2022 سعر برميل النفط عند مستوى 61 دولار، بينما ارتفعت الأسعار للتجاوز 100 دولار للبرميل، يُشكل هذا الفارق ضغطا على الاحتياطي النقدي وموازنة الدولة.
وعلى صعيد القمح، تستهدف مصر شراء نحو 8.61 ملايين طن، منها 5.11 ملايين طن عن طريق الاستيراد، حيث حدد مشروع موازنة العام المالي 2021 /2022 سعر القمح المخطط استيراده بقيمة تبلغ 255 دولار للطن، مقارنة مع 193.8 دولارًا للطن خلال العام المالي السابق 2020 /2021، بزيادة بلغت 61.2 دولارًا، غير أنه بسبب التوترات والأزمة الحالية رفعت روسيا أسعار القمح فى نوفمبر 2021 ووصل سعر الطن إلى 327 دولار.
ومن المتوقع أن تُترجم الزيادة في سعر القمح الفعلي مقارنة بسعره التقديري بمشروع الموازنة إلى زيادة العجز المالي خلال العام الجاري، وصعوبة تحقيق هدف خفض العجز الكلي من الناتج المحلي الإجمالي خلال تلك الفترة.
ارتفاع معدلات التضخم المحلي
ارتفاع أسعار السلع الغذائية وتكاليف المواد الخام عالميا سيكون له تأثير مباشر فى مستوى ارتفاع أسعار السلع الغذائية محليًا بسبب اعتماد الدولة على السلع والخدمات المستوردة من الخارج، مما يسرع من وتيرة التضخم المالي في مصر ويؤثر سلبا على القدرة الشرائية، وقد يدفع ذلك البنك المركزي إلى رفع أسعار الفائدة الفترة القادمة للسيطرة على معدلات التضخم.
وسجل معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية في يناير الماضي 8%، مقابل 6.5%، ليسجل بذلك أعلى مستوى له منذ سبتمبر 2021، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وعلى مدار الشهور الماضية يسجل معدل التضخم الشهري ارتفاعًا ليتأرجح بين مستوى 6 و8%.