كشف الكاتب الكبير عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي تحل اليوم ذكرى وفاته، في حوار نادر له أجري معه ١٩٦٣ ونشر في كتاب «عشرة أدباء يتحدثون»، للكاتب فؤاد دواره عن أسباب تحوله من دراسته الدينية إلى دراسة الأدب.
وقال طه حسين: "رأيت أخي الشيخ أحمد حسين مع نفر من زملائه وكانت دراستهم متقدمة يكثرون من حديث الأدب، ويتذاكرون فيما بينهم شيئا كانوا يسمونه «ديوان الحماسة» ، ويذكرون شيخا كان يدرس لهم هذا الديوان ويتندرون بفكاهة هذا الشيخ وعبثه بشيوخ الأزهر وبالتقاليد الأزهرية بوجه عام، فأحببت أن أحـضـر هذا الدرس، ولكن أخي وزملاءه نصـحـوا لي بالانتظار قليلا حتى أتقدم في الدراسة الأزهرية، وكنت أسمعهم يقرأون الشعر الذي اشتمل عليه الديوان، وكنت أحفظه بمجرد سماعي منهم، وقد استجبت لنصحهم شهورا، ولكني أحببت هذا الشعر وما كان هؤلاء الطلبة يقرأونه من شروحه وذكر مناسباته، فلم أطق صبرا، وجعلت أحضر هذا الدرس، وكان درسا خارج برنامج الدراسات الأزهرية، كان الشيخ يلقيه في الضحى، بين درس الفقه الذي كان يلقى في الصباح ودرس النحو الذي كان يلقى بعد صلاة الظهر، وكان يلقى في مكان ممتاز هو الرواق العباسي الذي كان الأستاذ الشيخ محمد عبده يلقى فيه درسه بين المغرب والعشاء".
وأضاف طه حسين: "ولم أكـد اختلف إلى هذا الدرس أياما حتى شغفت به شغفا شديداً، فواظبت على شهوده، وعنيت بحفظ كل ما يلقى فيه من شعر، وكـان الأزهريون يعـدون هذا الدرس بين دروس العلوم الحـديثـة التي أدخلها الشيخ محمد عبده في الأزهر، كالحساب والجغرافيا، وما هي إلا أن أحببت الشيخ وأحبنى أشد الحب، وأصبحت من أقرب تلاميذه إليه.. وهذا الشيخ هو سيد على المرصفى، وكـان أبرز صـفـاته أنه يكره الأزهريين وتقاليدهم، ويزدری دراستهم ومذاهبهم في هذه الدراسة. وكان يقضى أكثر وقته عابثاً بالشيوخ ساخرا منهم، محاولا أن يحبب الأدب إلى تلاميذه ، ويبغض إليهم دروس الأزهر المألوفة وكتبه التقليدية، وكان ينصح لنا أن نقرأ النحو والبلاغة والفقه في الكتب القديمة التي كان الأزهر يجهلها أشد الجهل، ومنذ ذلك الوقت فتنت بالأدب وأستاذه، وجعلت أسخر من شيوخنا وطرقهم في الدرس.
وتابع طه حسين : "وفي ذلك الدرس لقيت زميلين لم تلبث المودة أن اتصلت بينهما وبينى، هما الأستاذ أحمد حسن الزيات، والشيخ محمود زناتى رحمه الله، وكنا جميعا من أشد الناس سخطا على الأزهر وشيوخه وعبثا بالدروس والأساتذة ، وكنا مشغوفين بالأدب إلى أقصى حدود الشغف، وكنا نسمع الدرس في الضحى، ثم نترك غيره من الدروس، ونذهب إلى دار الكتب لنقرأ فيها كتب الأدب التي لم تكن تتاح لنا. ثم غير الشيخ موضوع درسه، فترك «ديوان الحماسة» لأبي تمام، وأخذ يقـرأ علينا كـتـاب «الكامل» للمبرد، فازداد افتتاننا بالأدب، وحرصنا على أن ننقطع له، ونقف عليه جهودنا وأوقاتنا".
طه حسين : اتسعت المودة بيننا وبين الأستاذ
وأكمل طه حسين : "واتسعت المودة بيننا وبين الأستاذ، فكنا نذهب إليه في داره، ونتلقى عليه بعض الدروس فيها، ونتلقى عليه بنوع خاص العبث بالشيوخ والاستهزاء بهم، كذلك بدأ تحولى من الدراسة التقليدية الأزهرية إلى الدراسة الأدبية، ولم تمض أربع سنوات على انتسابى للأزهر حتى أنشئت الجامعة المصرية، فأسرعت إلى الالتحاق بها، وفعل زميلاى مثلى، ووجدنا فـيـهـا دروسا لموضوعات لم يكن الأزهريون يسمعون بها. فدرس للحضارة الإسلامية، ودرس لتاريخ مصر القديم، ودرس بین الأدب والجغرافيا، وذلك إلى دروس أخرى أضيفت إلى هذه الدروس بعد السنة الأولى للجامعة، ودعى كبار المستشرقين الأوروبيين لإلقاء المحاضرات، فكنا نختلف إلى دروسهم في الشغف، وكان يحببهم إلينا أنهم كانوا يلقون محاضراتهم باللغة كثير من العربية، وكانوا كلهم يحرصون على اللغة العربية الفصحى، وهو الشيء الذي لم يكن الأزهريون يحفلون به ولا يلتفتون إليه، ومع اتصال اختلافي إلى دروس الجامعة جعلت أنسى الأزهر ودروسه شيئا فشيئا، وتغير اتجاهي في الدرس تغيرا تاما، ومع ذلك فلم أقطع صلتى بالأزهر مرضاة لوالدي رحمه الله الذي لم يكن يتمنى شيئا كما كان يتمنى أن يراني استاذا ذا عمود في الأزهر، أي ذا كرسى يشد إلى عمود من أعمدة الأزهر، ويجلس عليه الأستاذ ويتحلق حوله الطلاب، وأظنك تعلم أني حاولت آخر الأمر أن أتقدم لامتحان العالمية في الأزهر، فلم أنجح ويشهد الله أن لجنة الامتحان حالت بيني وبين النجاح ظلما، لأن: الأزهر إذ ذاك ـ الشيخ سليم البشرى ـ طلب إلى اللجنة أن تسقطني في الامتحان كما كان يقال. ومصدر ذلك أني هجوته بشعر نشر في بعض الصحف. ولم أحزن على هذا الرسوب، بل أكاد أقول إني فرحت به لأنى اتجهت بعده إلى الدراسة الجامعية، وكانت في ذلك الوقت قد نظمت وأنشئت فيها شهادة الدكتوراه، فحرصت على أن أكون أول دكتور يخرج منها، وأتاح الله لى ذلك، وكان نجاحي في الجامعة سببا لسـفـرى إلى أوروبا".