قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

محمد علي يكتب: مغامرات ميت

سبحان الله. مازال المعلم أحمد الطوخي حيا يرزق. أعمار. معتل الصحة طبعا، بحكم السن، ولدواعي سوء التغذية، وتراكم الأنفاس الليلية الزرقاء من جوزته التاريخية المقببة. طلقها صاغرا رغم طول العشرة.

وأقلع عن تدخينها مجبرا قبل عام على الأكثر، بعد إلحاح الغريب والقريب من معارفه، ومعاونيه، والجيران. لم يأت الأمر حبا في شخصه، ولا حرصا على حياته، بل تجنبا للصداع، ووعثاء الطريق إذا ما أصابته كرشة نفس حادة في أنصاف الليالي.

الأعمار بيد الله، وإذا لم يكن من الموت بد، فلا داع للمخمضة بين وقت وآخر في رحلات عقيمة إلى الحسين الجامعي مرة، أو سيد جلال مرات. أنبوب الأكسجين الطبي بات يتكلف مئات الجنيهات، بدون ملحقاته.

ولا تنس إكرامية الباش تومرجي والممرضة، ناهيك عن أجر سائق السيارة نصف النقل التي تقله في كل أزمة بصحبة مرافقيه. فضلا عن ذلك، لم يعد المعسل بأنواعه "يطيب لأحد" على حد قوله. مغشوش، ويصنعونه في "عصركم الحزين" من عيدان ورد النيل وأوراقه المجففة، بدلا من التبغ الرديء.

تعرف الطوخي بالصدفة على صاحب تلك السبوبة وهو من مواطني البدرشين المكافحين الشرفاء. اعترف له بهذه الحيلة الرخيصة في لحظة صدق نادرة مع النفس وهو يدفن قريبا له. بعد سحق النبات المجفف، يغمس في نواتج تنظيف غلايات صنع العسل الأسود الواردة من الحوامدية، ثم يضاف إليه قليل من الجلسرين لضمان اللزوجة. يغور.


اكتفى المعلم المخضرم من ثمرات رحلة كفاحه المديدة بدكة خشبية رديئة الصنعة، يلزمها منذ الصباح الباكر حتى أذان العصر بالضبط. تتمركز الدكة في مدخل غرزة استحدثت مؤخرا قرب المدخل الجانبي الأيسر لمقابر باب النصر، ويبعد خمسين مترا بالتقريب من طريق البنهاوي الرئيسي. توفر هذه الزاوية الرطبة خدمة المشروبات الساخنة نهارا، وعلى استحياء شديد، احتراما لما تبقى من حرمة الموتى، إن كانت قد تبقت لهم حرمة.


يجلس المعلم مترقبا رزق اليوم، الوارد الجديد، ولايفارق الموبايل سيالة جلبابه أبدا. إذا ما رن جرسه، خفق قلبه المعتل. حينها فقط، تغيب البسمة الواسعة من وجهه، ليحل محلها قناع خشبي تعلوه أمارات الجدية المصطنعة، والزهد فيما بأيدي العباد. يتأهب لإدارة دولاب العمل بكل همة، هكذا يظن، ويجري بضعة اتصالات بمعاونيه لجمعهم بأسرع وقت ممكن. شغل. لابد أن ينتهي كل شيء في ظرف ساعة واحدة على الأكثر كما تعلم من أعمامه الذين أشرب المهنة منهم. تحمل "الأمانة" بلطف وتوضع في مكانها بعناية، ثم تحل الأربطة.

مازال الدفن على الطريقة المصرية القديمة، غرف تحت الأرض تسع ما شئت من الأحباب. وكلما ضاقت الغرفة بمن فيها من الموتى، تجمع العظام الأقدم بعناية وتنقل إلى "العظامة" حتى تفسح مكانا لقادم جديد. لا توجد لحود شرعية هنا. بعدها، يقف المعلم على استحياء قرب بوابة حوش الفقيد لتحصيل أتعاب شق القبر، وإخراج ناتج الحفر، ورش الماء، وإحضار كمية لا بأس بها من الرمل الأصفر النظيف. عرق الرجال. وبطبيعة الحال، يخرج أقارب الفقيد ما في جيوبهم، كل من سعته، وقد مزقتهم مشاعر اللوعة في مصابهم الكبير.


يقتل الطوخي الملل، ولا حيلة في الرزق. بعد دقائق من رفع أذان العصر، يتحرك ببطء من الغرزة، حيث يباشر مهام عمله، إلى دكة أخرى أعرض قليلا وتبعد 25 مترا على الأكثر. ليست أفضل حالا من سابقتها وإن تميزت بفرشة ملونة تضيف لمسة جمال نسبية إلى المكان. إنها فراشه الوثير القابع في مدخل الممر المؤدي إلى حوش جدي مختار أفندي علي. يجلس العجوز على طرف الفراش مستكينا لدقائق ريثما تقدم له زوجة ابنه البكر كيمو ما تيسر من طعام. وجبة الغداء. ثم يخلد إلى النوم. فضل ونعمة.


لم يعد الأمر كما كان أبدا لانتهاء العصر الذهبي لهذه القرافة التاريخية المتميزة. انتشرت الجبانات الحديثة حول القاهرة من كل الجهات وانتهى بريق باب النصر. ومع اتساع الطرق وامتداد العمران العصري، فقد ورثة ملاك الأحواش الأصليين الأمل في إمكانية استمرارها طويلا. ولا تنس، بربك، أن قرار إزالتها قد صدر فعليا في عام 1938 ولم يجرؤ أحد على تنفيذه منذ ذلك الحين. هل حان الوقت ؟. اقصد، هل منع الدفن تمهيدا للإزالة ؟. مطلقا. العمل كالمعتاد.


زرتها قبل بضعة أيام للاطمئنان بناء على إلحاح زوجتي. منحها الله شفافية نادرة ويتعذر التغاضي عن بعض ملاحظاتها الروحانية. رأت أبي في المنام، وقررت الانطلاق لتحيته ما أن استيقظت وأدت صلاة الفجر، وكان اليوم الجمعة. احتفظت بتفاصيل اللقاء لنفسها لشدة تأثرها به. ومن جهتي، احترمت خصوصيتها، وقدرت دموعها. لم تعاصره، بل تعرفت على ملامحه من صورة له معلقة في مدخل المنزل. ماذا قال لها ؟. اسكت!.

هل كان باسم الوجه أم مقطب الجبين ؟. من فضلك!. هناك، تأكدت من كذب الشائعات المغرضة، وأيقنت أن والدي غاضب لأمر ما، أدركت أبعاده بنفسي تدريجيا بعد دقائق من الوصول. القرافة باقية، باقية، طالما ظل قبر ابن خلدون صاحب المقدمة مجهولا فيها. كما يتحدثون عن أعلام آخرين من علماء الفقه والشريعة، بعضهم مات في فراشه حتف أنفه، وآخرون قتلوا في ثورة القاهرة ضد الحملة الفرنسية. تحتضنهم هذه الأحواش الطيبة. طبقات فوق أخرى. بركة. ولكن ما الفارق إن عثروا عليها أو تجاهلوها ؟. لا شيء. ماذا يضايق أبي إذا ؟. صبرا.


عجزت عجزا مزريا عن تمييز الحوش، ورمقتني زوجتي بنظرة عطف مؤذية. ركبني العصبي وأنا انظر في الاتجاهات الأربعة ولا أعرف أين يقع محل الزيارة المختار حيث يسكن أبي، وخالي، وخالاتي جميعا، وجدي، وجدتي، وطابور من الأقارب، والأبناء، والأحفاد. أحفظ المكان عن ظهر قلب منذ أن كنت ابن ستة أعوام، فأين ذهب المبنى ؟. لم يبلغنا أحد بانهياره أو إزالته، فأين هو ؟. قالت أم العيال: "تماسك يا عزيزي، اللي يسأل ما يتهش". صحيح.


كيف ينسى طفل فائق النشاط أي شيء مهما كانت دقته أو تفاهته ؟. ما بالك بمبنى حجري وقور، مميز الباب والنوافذ، عالي الجدران، خشبي السقف، وبمساحة 80 مترا تقريبا. إنه كيان له أوصاف محفورة في الذاكرة، ويتعذر نسيانه. ليس صندوقا للعب، السليم منها والمعطوب، ولا خزانة لملابس الشتاء مثلا ؟. هذا صغير يصر على مصاحبة أمه أينما تذهب. وهكذا يعيش أوقاتا هنية وهو يلهو هنا وهناك أو يكتفي بمراقبة محيطيه من الكبار والصغار، ولو كان في المقابر. يقتله التعب، فيتمدد بكل يسر في أي ركن من ذلك الحوش الفسيح طيب الرائحة على الدوام.

وتتكرر الزيارات عاما وراء عام. في مطالع الشهور العربية، وصباح اليوم الأول من عيد الفطر. يرافق أقطاب العائلة وأبناءهم إلى هناك. خوص النخيل الأخضر المندى بالماء والورد البلدي الأحمر في يد، وفي الأخرى ما لذ وطاب من الفطير، والشوريك، وفاكهة الموسم. عادات فرعونية موروثة تتساوى عند المسلمين والأقباط. ماذا عن الشاي، والسكر، والبن ؟. لوازم الزيارة والضيافة ؟. نحتفظ بها هناك في خزانة حجرية صغيرة على اليسار من الباب، ونادرا ما نغيب عنها فلا تفسد أبدا. ماذا عن الحشرات بأنواعها ؟. مثلا. لا يوجد، ولا تسألني لماذا.


وعند بلوغ الطفل ذاته مبلغ الشباب، أصبح عنصرا فاعلا في جنازات الأقارب من شتى الفروع. ويزيد الحفر عمقا في الذاكرة بمر السنين. أما وقد أصبح الطفل ذاته شيخا، فلابد من الاستعداد للرحلة الأخيرة. سيكون بمفرده هذه المرة، محمولا على أكتاف الغرباء غالبا. لا بأس مطلقا. مازال المكان طيب الرائحة كما كان دوما. وماذا عن الصحبة ؟. رائعة بلا شك. يكفيني أبي. رجل قلما يجود الزمان بمثله.


ولكن، ليس بالإمكان أسوأ مما كان، ولا تشاءوم في الجملة السابقة بتاتا. تسلم كيمو الراية من والده قبل عشرة أعوام تقريبا. مات عمه عبده ابن حليمة بائعة الخوص الشهيرة فجأة، وانتقل لقب المعلم إليه عرفيا مع شتى الامتيازات والحصانات المعتادة في الجبانات. وتشمل: تسلم تصاريح الدفن، وحمل مفاتيح الأحواش، وشق القبور، والقيام على راحة الموتى، واحترام جلال المكان.

وبطبيعة الحال، تحصيل النقدية لدى الدفن، وفي أوقات الزيارات، والاتصال بالأهل لإبلاغهم بأحدث شائعة عن إزالة القرافة، أو إبلاغهم بعرض سخي لشراء حوشهم العتيد مقابل مليوني جنيه. مثلا. أما والده أحمد الطوخي، فيظل اسمه مسجلا في دفاتر مصلحة الجبانات شكليا إلى أن يسلم الروح بدوره.


تغيرت الدنيا، وعميت عيون تلك المصلحة الحزينة، وصمت آذانها. موقع باب النصر استراتيجي، يحاذي القاهرة الإسلامية، ويطل على سورها العتيق وإحدى بواباته الرئيسية. أنها منجم للذهب في وسط المدينة، وبالإمكان تحصيل منافع غير منظورة من ورائه للموظفين المسئولين قانونا عن أعمال المتابعة، والرقابة، والتدخل عند الضرورة إذا وقعت مخالفات، أو أثيرت شبهات. بالضبط. وكل شيء سليم كما ترى. مثالي إذا شئت الدقة.


قرر كيمو التجديد في كل شيء حتى يحقق لأسرته الناهضة ما عجز عنه والده طيلة 50 عاما أو يزيد. رجل أعمال من فئة يندر أن يلتفت إليها أحد. في البداية، وسع من نطاق نفوذه بضم أحواش إضافية إلى امتيازه. فعلها بالتراضي مع ورثة معلمين آخرين إما زهدوا في مهنة "التربي" أو حرمهم القدر من أبناء ذكور يرغبون في مواصلة الكفاح بين شواهد القبور، وبطن الأرض العامرة بالموتى. في بعض الأحيان، اضطر إلى سداد "خلو رجل" إلى تربي آخر أو أكثر لضم حيازاتهم من الأحواش العتيقة إليه.

ويتطلب هذا مدفوعات أخرى غير منظورة في قلب مصلحة الجبانات حتى يتجاهل مراقبوها المسألة برمتها، ويبقى الحال على ما هو عليه في الدفاتر. وحتى يوفر الراحة اللازمة لأفراد قبيلته، وضع يده على حوش الشوام الفسيح لغياب أي ملاك ظاهرين له طيلة عشرين عاما أو يزيد. حوله إلى غرفة نوم مترامية الأطراف. ثم كرر الأمر في حوش آخر تملكه إحدى سيدات المجتمع في عهد الملكية وتدعى رقية وبنى طابقا فوقه. نعم صحيح، بنى طابقا بالطوب والأسمنت وزوده بدورة للمياه أوصلها مشكورا بشبكة الصرف العمومية في الطريق الخارجي. صارف ومكلف كما يقال.


يملأ المعلم الجديد المشهد بكامله حاليا، بمعاونة ثلاثة أبناء شبان. لا يسرون الخاطر مطلقا. يفتقدون عافية أبيهم، وجدهم، وتبدو أعينهم مغربة إما من أثر السهر في الغرزة المستحدثة قرب المدخل، أو نتيجة لتعاطي جرعة خفيفة من المنشطات. تمنحهم قوة بدنية مؤقتة إذا ما أبلغوا بقرب وصول ضيف جديد. أمانة. كل ما في مصر يدعو إلى السقوط. حكمة. يتعذر إقناع التربي الصاعد بأن ما يفعله مخالف للعرف، والدين، وصحيح القانون. فهذا المكان مرقد للموتى، وليس حيا سكنيا منعزلا يختار أفضل زاوية بحرية منه ليقيم فيها بصحبة أفراد العائلة. لن يستمع لأحد، بطبيعة الحال.

ولن يلتفت إليك أحد في دوائر الحكم المحلي لأنها مجرد مشكلة اجتماعية. والأسوأ من هذا وذاك أنه قد يكشر عن أنيابه ويضمر شيئا سيئا في نفسه. "إياك أن تنغص عليه حياته فينتقم منك في موتاك وهم تحت يده". نصيحة عاقل أكثر خبرة ودراية ولابد من العمل بها.
ماذا لو استمر الحال على ما هو عليه ؟. بسيطة، في بحر عام أو عامين على الأكثر سوف يختفي الممر الفاصل بين الأحواش بكامله لتصبح أبوابها مطلة على غرفتي الاستقبال والمعيشة في منزل سيادته العامر.

وقد يشفق على ورثة أصحاب الأحواش ويترك لهم صحنا مفتوحا محدودا يمرون منه ويتنفسون فيه. حيرة. وما العمل ؟. لا مناص عن الرضوخ لمقتضيات الحال وعليك بالبحث عن مرقد آخر أكثر أمانا واحتراما لدفن من يستجد من الراحلين. أنت أولهم. أين ؟. في الصعيد يا عزيزي. تطول الرحلة في يوم الدفن قطعا، ولكنهم لا يزعجون اعزاءهم في رقدتهم الأخيرة هناك. ليكن. وإذا طال الأجل وأردت تحية والدك يوما ما، فتحمل سحنة كيمو مضطرا لنهار واحد.