الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد أمين.. نَم هانئا يا صاحب فجر الاسلام


لا يعد الكاتب الكبير الراحل أحمد أمين، مجرد مفكر ضمن بوتقة رموز التنوير الكبار، الذين ظهرت أعمالهم قبل 100 سنة في بدايات القرن العشرين، ولكنه أحد مؤسسي تيار الوسطية في الكتابة الإسلامية، وأول من كتب في التاريخ الإسلامي في العصر الحديث باعتدال، فلم يكن ضمن شيعة علي ولا من أنصار يزيد.

أبحر بكتاباته في التاريخ الإسلامي، وأضاء نقاطًا مضيئة لم يسبقه إليها غيره.

وعلى خلاف رموز التنوير، الذين أثاروا عواصف من الجدل بكتاباتهم، ما بين رافض ومؤيد هنا وهناك، جاءت كتابات أحمد امين لتقابل بتهليل ورضا وحفاوة غير مسبوقة.

فالرجل كان متزنا جدًا في كتاباته، كما أنها كانت شاملة ومدققة بشكل لم يسبق له مثيل.

والحق أني أحب أحمد أمين بشكل شخصي، وأعتقد أن الملايين يحبونه مثلي ولا يكادون يختلفون حول فكره وكتاباته. ولا أذكر عدد المرات التي قرأت فيها تحفته الهائلة فجر الاسلام بأجزائها المختلفة، ضحى الإسلام وظهر الإسلام، فعندما اشتاق إلى قراءة كتاب عظيم والخوض في رحلة مدهشة، افتح صفحات فجر الإسلام وأنهل من تاريخ سطره أحمد أمين بكل دقة واقتدار.

وكان لظهور" فجر الاسلام" قصة يرويها أحمد أمين بنفسه: "تعلمت من هذا الوسط (الجامعة) أن ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب، والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديدًا، والمدرسة تعلم آخر ما وصل إليه العلم، والجامعة تحاول أن تكتشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم وتعدله وتحل جديدًا محل قديم، وتهدم رأيًا وتبني مكانه رأيًا آخر، وهكذا هذه وظيفتها الأولى والأخيرة، فإن لم تقم بها كانت مدرسة لا جامعة.

وأخذنى ذلك التفكير إلى التمهيد لمشروع واسع في البحث، وضعته مع كل من الدكتور طه حسين والأستاذ عبد الحميد العبادي وأنا، وخلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص الدكتور طه بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية.

فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بعد "فجر الإسلام"، وصرفت فيه ما يقرب من سنتين، فرسمت منهجه ورتبت موضوعاته، وكنت إذا وصلت إلى موضوع أجمع مظانه في الكتب، وأقرأ فيها ما كتب على الموضوع وأمعن النظر، ثم أكتبه مستدلًا بالنصوص التي عثرت عليها حتى أفرغ منه، وأنتقل إلى الموضوع الذي بعده وهكذا... وكانت أكثر الأوقات فائدة في إنجاز العمل هى الإجازة الطويلة التي تبلغ أكثر من خمسة أشهر، وقد تم هذا الجزء الأول من فجر الإسلام في آخر سنة 1928م، ولقد لقيت من حسن استقبال الناس لهذا الجزء وتقديرهم له واهتمامهم به نقدًا وتقريظًا ما شجعني على المضي في هذه السلسلة".

إلا أن طه حسين والعبادي لم يستكملا كتابة نصيبهما من هذا المشروع البحثي. يواصل أحمد أمين:

"لقد عاقت زميليّ عوائق عن إخراج نصيبهما، فاستمررت أنا في إخراج ضحى الإسلام، في ثلاثة أجزاء وترقيت في منهج التأليف في ضحى الإسلام، فقد رتبت موضوعاته التي تستغرق ثلاثة أجزاء وأحضرت ملفات كتبتُ على كل ملف اسم الموضوع، فهناك ملف عليه اسم المعتزلة وآخر الخوارج، وثالث أثر الجواري في الأدب، ورابع الثقافة الهندية.. إلخ، وعلى هذا النمط أخرجت الجزء الأول والثاني والثالث من ضحى الإسلام في نحو سنتين... وهكذا في الإسلاميات".

هكذا سنوات من العمر، أفناها أحمد أمين ليخرج هذه التحفة الرائعة من أعماله الفكرية، وبسبب صدقه في تناولها ودقته في الكتابة عنها عاشت لليوم وستعيش مئات السنين بعد وفاته.

والحق أنه يمكن التوقف في حياة أحمد أمين، أمام أكثر من محطة فكرية، فقد كان واحد من الفطاحل الذين دافعوا باستماتة عن استخراج الدرر من التراث العربي والإسلامي الهائل وعدم إغفاله. ولعل هذه المعركة التي شغلت المفكرين والباحثين في اوائل واواسط القرن العشرين واحدة من المعارك الضخمة التي تؤسس للنهضة الحديثة.

فأحمد أمين لم يقف مثل كثيرين غيره موقف الرافض للتراث، بدعاوى مجحفة، أن ما قاله السلف فقد مفعوله ولا يصح للخلف وأن العصر تطور بما فيه الكفاية، وعليه فالأولى دفن كتب التراث وذخائره في المقابر.

لا.. لم تكن هذه نظرة أحمد أمين، بل صرف جل عمره في التنقيب في كتب التراث وإعادة تقديم الذخائر النفيسة منها للقارىء المصري والعربي، بنظرة جد صادقة مفادها: أن أوروبا لم تؤسس نهضتها الحديثة الا بالاستناد على التراث العربي والاسلامي وإزالة الغبار عنه، ونحن أولى بفكرنا وتراثنا

وهنا جاء دوره اللافت في الاشراف، على لجنة التأليف والترجمة والنشر مدة أربعين سنة منذ إنشائها حتى وفاته (1954م)، وكان لهذه اللجنة أثر بالغ في الثقافة العربية إذ قدمت للقارئ العربي ذخائر الفكر الأوروبي في كل فرع من فروع المعرفة تقديما أمينا يبتعد عن الاتجار، كما قدمت ذخائر التراث العربي مشروحة مضبوطة فقدمت أكثر من 200 كتاب مطبوع.

وكانت الثقة في مطبوعات اللجنة كبيرة جدا، لذلك رُزقت مؤلفات اللجنة حظا كبيرا من الذيوع وتخطفتها الأيدي والعقول، كما أنشأت هذه اللجنة مجلة "الثقافة" يناير 1939م) ورأس تحريرها، واستمرت في الصدور أربعة عشر عاما متوالية، وكان أحمد أمين، يكتب فيها مقالا أسبوعيا في مختلف مناحي الحياة الأدبية والاجتماعية، وقد جمعت هذه المقالات في كتابه الرائع "فيض الخاطر" بأجزائه العشرة.

امتازت مجلة "الثقافة" بعرضها للتيارات والمذاهب السياسية الحديثة، وتشجيعها للتيار الاجتماعي في الأدب وفن الرواية والمسرحية، وعُنيت المجلة بالتأصيل والتنظير.

خاض أحمد أمين، في مجلة الثقافة بعض المحاورات مع كبار كتاب ومفكري عصره، ومنها محاورته مع الدكتور زكي نجيب محمود الذي كتب مقالا نعى وانتقد فيه محققي التراث العربي ونشر ذخائره، ورأى أن الفكر الأوروبي أجدر بالشيوع والذيوع والترجمة من مؤلفات مضى زمانها، وأطلق على كتب التراث "الكتاب القديم المبعوث من قبره"، ثم قال: "سيمضي الغرب في طريقه، وهو يحاول الصعود إلى ذرى السماء، ونحن نحفر الأجداث لنستخرج الرمم".

وهى الكلمات التي أثارت أحمد أمين، فردّ على ما قيل وأكد أن الغرب أسس نهضته ومدنيته على الحضارة الرومانية واليونانية، وأكد أيضا أن المستشرقين هم أول من اهتم بالتراث العربي فنشروا أصوله وذخائره.

كان موقف أحمد أمين من السياسة، وعزوفه عن الظهور وسط زعمائها، من المواقف شديدة الوضوح في حياته فقد "كانت السياسة عند أحمد أمين تعني الوطنية لا يرى فرقا بينهما، وترجع معرفته بالسياسة وأقطابها إلى أستاذه عاطف بركات، وقد أُعجب الزعيم سعد زغلول به وبوطنيته، وبدقة تقاريره التي كان يكتبها عن أحوال مصر إبان ثورة 1919 ورغم ميله للوفد فإنه لم يشارك في السياسة بقدر كبير خوفا من العقوبة، وفي صراحة شديدة يقول: "ظللت أساهم في السياسة وأشارك بعض من صاروا زعماء سياسيين ولكن لم أندفع اندفاعهم ولم أظهر في السياسة ظهورهم لأسباب أهمها لم أتشجع شجاعتهم، فكنت أخاف السجن وأخاف العقوبة".

هكذا كان واضحا، لم يرد أن يخوض في السياسة خوضا يكلفه حياته، وينهي الاستقرار فيها ورأى أن مجال بحثه ودراساته سيضمنان له الخلود أكثر خصوصا ,ان السياسة متغيرة، وما تحسبه وطنية اليوم قد لا يكون كذلك غدا، كما ان ولوج الأديب أو المفكر في السياسة أول خطوة للقضاء على مشروعه وتصنيفه في دائرة ضيقة. وكان احمد أمين محقا في هذا الموقف تمامًا.

والحديث عن أحمد أمين يطول، ولا يمكن أن يتوقف بسبب اسهاماته البارزة رحمه الله في مجال الفكر والكتابة الإسلامية.

لكنى هنا اتوقف في آخر محطات الكتابه عنه في هذا المقال، أمام مؤلفاته التى بلغت 16 مؤلفا وندم أشد الندم، انه لم يعط للفكر والتأليف وقتا أطول في حياته وصرفته المناصب التي شغلها عما كان يخطط له.

من هذه المؤلفات، فجر الإسلام، ضحى الإسلام (3 أجزاء)، ظهر الإسلام (4 أجزاء)، يوم الإسلام، حي بن يقظان، قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية، ومن زعماء الإصلاح في العصر الحديث، كتاب الأخلاق، وحياتي، وفيض الخاطر (10 أجزاء)

والشرق والغرب، و النقد الأدبي (جزءان)، وهارون الرشيد

الصعلكة والفتوة في الإسلام، وعلمتني الحياة، والتكامل في الإسلام

وكتب له بالاشتراك مع آخرين منها:

قصة الفلسفة اليونانية، قصة الفلسفة الحديثة (جزءان)، قصة الأدب في العالم (4 أجزاء)

وغيرها وغيرها، من أعماله ومواقفه حتى جاءت وفاته، بعدما اصيب بمرض في عينه، ثم بمرض في ساقه فكان لا يخرج من منزله إلا لضرورة قصوى، ورغم ذلك لم ينقطع عن التأليف والبحث حتى توفاه الله في 27 رمضان 1373 هـ الموافق 30 مايو 1954م، فبكاه الكثيرون.

رحم الله أحمد أمين، على ما أثراه للمكتبة العربية والإسلامية من كنوز فكرية هائلة ونفعنا الله بعلمه.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط