ما حكم الاحتفال بعيد الأم؟ سؤال أجاب عنه الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وذلك بمناسبة اقتراب الاحتفال بعيد الأم والذي يتوافق مع يوم 21 مارس من كل عام.
حكم الاحتفال بعيد الأم
وقال علي جمعة في فتوى له حول حكم الاحتفال بعيد الأم: " الإنسان بنيان الرب، كرمه الله تعالى لآدميته؛ فصنعه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وطرد إبليس من رحمتـه؛ لأنه استكبر عن طاعة أمر الله بالسجود له، فكان احترام الآدمية صفة ملائكية قامت حضـارة المسلمين عليها، وكانت إهانة الإنسان وإذلاله واحتقاره نزعة شيطانية إبليسية زلزلت كيان الحضارات التي بنيت عليها ﴿ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ﴾، ﴿ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ﴾، ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾.
وتابع في بيانه حكم الاحتفال بعيد الأم: كما جاء الإسلام بتكريم الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن نوعه، أو جنسه أو لونه، فإنه أضاف إلى ذلك تكريمًا آخر يتعلق بالوظائف التي أقامه الله فيها طبقًا للخصائص التي خلـقه الله عليها، فكان من ذلك تكريم الوالدين اللذين جعلهما الله تعالى سببًا في الوجود، وقرن شكرهما بشكره؛ فقال تعالى : ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾، وجعل الأمر بالإحسـان إليهما بعـد الأمـر بعبادته سبحانه وتعالى، فقال : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾، وكان ذلك لأن الله جعلهما السبب الظـاهر في الإيجاد فكانا أعظـم مظهر كوني تجلت فيه صفة الخلق، وناهيك بذلك شرفًا على شرف وتكريمًا على تكريم.
وأوضح أن النبي صلي الله عليه وسلم يجعل الأم أولى الناس بحسن الصحبة، بل ويجعلها مقدمة على الأب في ذلك؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ : مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ : « أُمُّكَ» ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : « ثُمَّ أُمُّكَ » ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : « ثُمَّ أُمُّكَ »، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : « ثُمَّ أَبُوكَ».
كما يقرر الشرع الإسلامي أن العلاقة بين الولد وأمه علاقة عضوية طبيعية؛ فلا تتوقف نسبته إليها على كونها أتت به من نكاح أو سفاح، بل هي أمه على كل حال، بخلاف الأبوة التي لا تثبت إلا من طريق شرعي. ومن مظاهر تكريم الأم الاحتفاء بها وحسن برها والإحسان إليها، وليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة لذلك يعبر فيها الأبناء عن برهم بأمهاتهم؛ فإن هذا أمر تنظيمي لا حرج فيه، ولا صلة له بمسألة البدعة التي يدندن حولها كثير من الناس؛ فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع؛ لقوله صلي الله عليه وسلم : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ».
وأردف: مفهومه أن من أَحدث فيه ما هو منه فهو مقبول غير مردود، وقد أقر النبي صلي الله عليه وسلم العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية، وانتصاراتهم القومية التي كانوا يَتَغَنَّوْنَ فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم :«دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث»، وجاء في السنة أن النبي صلي الله عليه وسلم : «زار قبر أمه السيدة آمنة في أَلْفَيْ مُقَنَّع، فما رُؤِيَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ».
ولفت إلى معنى الأمومة عند المسلمين هو معنًى رفيع، له دلالته الواضحة في تراثهم اللغوي؛ فالأم في اللغة العربية تُطلق على الأصل، وعلى المسكن، وعلى الرئيس، وعلى خادم القوم الذي يلي طعامهم وخدمتهم، وهذا المعنى الأخير مروي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه - وهو من أهل اللغة - قال ابن دُرَيد : وكل شيء انضمت إليه أشياء من سائر ما يليه فإن العرب تسمي ذلك الشيء «أمًّا». ولذلك سميت مكة «أم القرى» ؛ لأنها توسطت الأرض ، ولأنها قبلة يؤمها الناس، ولأنها أعظم القرى شأنًا.
ولما كانت اللغة هي وعاء الفكر، فإن مردود هذه الكلمة عند المسلم ارتبط بذلك الإنسان الكريم الذي جعل الله فيه أصل تكوين المخلوق البشري، ثم وطَّنه مسكنًا له، ثم ألهمه سياسته وتربيته، وحبب إليه خدمته، والقيام على شئونه؛ فالأم في ذلك كله هي موضع الحنان والرحمة الذي يأوي إليه أبناؤها.
وكما كان هذا المعنى واضحًا في أصل الوضع اللغوي والاشتقاق من جذر الكلمة في اللغة، فإن موروثنا الثقافي يزيده نصاعةً ووضوحًا، وذلك في الاستعمال التركيبي [لصلة الرحم] حيث جُعِلَت هذه الصفة العضوية في الأم رمزًا للتواصل العائلي الذي كانت لَبِنَاتُه أساسًا للاجتماع البشري؛ إذ ليس أحدٌ أحق وأولى بهذه النسبة من الأم التي يستمر بها معنى الحياة وتتكون بها الأسرة وتتجلى فيها معاني الرحمة.
ويبلغ الأمر تمامه وكماله بذلك المعنى الديني البديع الذي يصوره النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلي الله عليه وسلم بقوله : « الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ : مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ »، وفي الحديث القدسي : « قَالَ اللَّهُ عز وجل : أَنَا اللَّهُ ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنَ اسْمِي؛ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُه، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ ».
وبتجلي هذا المعنى الرفيع للأمومة عندنا مدلولاً لغويًّا وموروثًا ثقافيًّا، ومكانةً دينية يمكننا أن ندرك مدى الهوة الواسعة والمفارقة البعيدة بيننا وبين الآخر، الذي ذابت لديه قيمة الأسرة وتفككت في واقعه أوصالُها، فأصبح يلهث وراء هذه المناسبات، ويتعطش إلى إقامتها؛ ليستجدي بها شيئًا من هذه المعاني المفقودة لديه، وصارت مثل هذه الأعياد أقرب عندهم إلى ما يمكن أن نسميه «بالتسول العاطفي» من الأبناء الذين يُنَبَّهون فيها إلى ضرورة تذكر أمهاتهم بشيء من الهدايا الرمزية أثناء لهاثهم في تيار الحياة الذي ينظر أمامه ولا ينظر خلفه .
ومع هذا الاختلاف والتباين بيننا وبين ثقافة الآخر التي أفرز واقعها مثل هذه المناسبات، إلا أن ذلك لا يشكل مانعًا شرعيًّا من الاحتفال بها، بل نرى في المشاركة فيها نشرًا لقيمة البر بالوالدين في عصر أصبح فيه العقوق ظاهرة تبعث على الأسى والأسف، ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم الأسوة الحسنة؛ حيث كان يحب محاسن الأخلاق ويمدحها من كل أحد حتى ولو كان على غير دينه؛ فلما أُتِيَ بسبايا طَيِّء كانت ابنة حاتم الطائي في السبي؛ فقالت للنبي صلي الله عليه وسلم : يا محمد ! إن رأيتَ أن تُخَلِّيَ عني ولا تُشْمِت بي أحياء العرب؛ فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذِّمار، ويَفُكُّ العاني، ويُشبع الجائع، ويكسو العاري، ويَقري الضيف، ويطعم الطعام ، ويُفشي السلام، ولم يَرُدّ طالب حاجة قط. وأنا ابنة حاتم طَيِّء. فقال النبي صلي الله عليه وسلم : « يَا جَارِيَةُ ! هَذِهِ صِفَةُ المُؤْمِنِينَ حَقًّا، لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُؤْمِنًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ؛ خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَالله تَعَالَى يُحِبُّ مَكَارِمَ الأخْلاقِ » ، فقام أبو بُردة ابن نِيار رضي الله عنه فقال : يا رسول الله، والله يحب مكارم الأخلاق ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : « وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ إِلاَّ بِحُسْنِ الخُلُقِ ».
وقال صلي الله عليه وسلم : « لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلاَمِ لأَجَبْتُ ».
وشدد: عليه فإن الاحتفال بعيد الأم أمر جائز شرعًا، لا مانع منه ولا حرج فيه، والفرح بمناسبات النصر وغيرها جائز كذلك، والبدعة المردودة إنما هي ما أُحدث على خلاف الشرع، أما ما شهد الشرع لأصله فإنه لا يكون مردودًا، ولا إثم على فاعله.