كيف تقوي علاقتك مع القرآن؟ سؤال يشغل ذهن كثير من الناس، خاصة مع اقتراب دخول شهر رمضان المعظم لعام 2023، حيث شهر القرآن الكريم، ففيه أنزل وفيه يعظم الثواب ويجزل العطاء لقارئ القرآن بكل حرفٍ فيه.
كيف تقوي علاقتك مع القرآن؟
يقول الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن من الهدي النبوي أن تكون بينك وبين القرآن علاقة، فيجب عليك أن تجعل لنفسك حصة كل يوم، مشيراً إلى أن المسلمون -وكانوا أهل عمل- عَلَّمهم رسول الله ﷺ: قلة الكلام، وكثرة العمل. مِمَّا ابتلينا به في عصرنا: كثرة الكلام، وقلة العمل.
وتابع: كان المسلمون يكثرون من العمل؛ ولذلك نراهم يؤلفون المؤلفات للعمل، فَيُسَمُّون الكتاب، كابن السني، والنسائي: «عمل اليوم والليلة»، يترصدون فيه كيف كان رسول الله ﷺ يذكر الله كثيرًا، فيذكر الله قبل الصلاة، ويذكر الله في الصلاة، ويذكر الله بعد الصلاة، ويذكر الله عند خروجه من المنزل، ويذكر الله عند دخوله المسجد، ويذكر الله وهو جالس مع أصحابه، ويذكر الله عندما ينفض المجلس، ويذكر الله عندما يخرج من المجلس، ويذكر الله إذا ذهب لقضاء حاجة الإنسان، ويذكر الله إذا ما خرج من الحمام، ويذكر الله سبحانه وتعالى ذكرًا كثيرًا ويسبحه بكرة وأصيلًا.
وأوضح علي جمعة أننا نرى الآن كثيرًا من الناس يتكلمون، ولا يذكرون الله إِلَّا قليلًا، ولا نريد أن نتألى على الله، فنقول: إنهم قد غفلوا عن ذكر الله، وما نسمعه في اليمين والشمال، وما نراه من أقوام يحسنون العمل، لهو حجة على ذلك العصر: لِمَ لَمْ تعمل مثل ما عملوا، وتعمر الأرض مثل ما عمروا، وتتحرك؛ فإن في الحركة بركة؟
وأشار إلى أن سيدنا رسول الله ﷺ أمرنا أن نجعل عهدًا بيننا وبين القرآن، فأمرنا بتعاهد القرآن، وقال: «إنه ليتفلت أشد من تفلت البعير» فعلينا أن نراجعه، وأن نديم النظر في المصحف، والنظر في المصحف حين القراءة أثوب من النظر فقط والقراءة في السر، وأثوب من القراءة فقط دون النظر.
ولما سئل الإمام البخاري، عن هذا الحفظ العجيب الغريب، الذي فاق به الأقران، في حفظ سُنَّة رسول الله ﷺ على مستوى الحرف. كان يقول: أوتيت ذلك من كثرة النظر إلى الكتب. -من كثرة المذاكرة-. حتى قالوا: فأدم للعلم مذاكرة * فحياة العلم مذاكرته
وأكمل: كان سيدنا ﷺ يقول: « خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ»، متسائلا: ما الذي يحدثه القرآن؛ حتى لو قرأته دون تدبر، أو حفظته دون تأمل؟ إنه يحدث شيئًا غريبًا في النفس؛ ومن أجل ذلك تمسك المسلمون بدينهم ، إنه ينور القلوب، إنه يهدئ البال، إنه يجعل الإنسان أكثر سعادة؛ لأنه يحفظ كتاب ربه، أو لأنه من أصحاب القرآن الكريم، والصحبة لا تتأتى إلا بكثرة القراءة والنظر إليه والتدبر فيه والتأمل.
وأبان: لذلك فكن من أصحاب القرآن؛ حفظته، أو لم تحفظه؛ حتى تأتي يوم القيامة، فتقول لك الملائكة: اقرأ وارتقِ، كما كنت تقرأ في الدنيا. إذن، هناك مهمة أخرى، لتبليغ كتاب الله للعالمين، هناك مهمة أخرى، لتعليم أولادنا في البيت، في المسجد، في المدرسة.
واستطرد: كثير من المعلمين الآن: لا يعرفون قراءة القرآن، وفاقد الشيء لا يعطيه، ويقرأ أحدهم -ولأنه لم يسمع، ولم يجلس، ولم يتدبر، ولم يتأمل، ولم تكن عنده هذه الفرصة-: (ألف لام ميم) ﴿...نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]، بدلًا من: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: 1]. ظَنَّ أن هذه الحروف، كما هي مكتوبة في بداية البقرة، هي مكتوبة هنا.
إذن، نحن في أمر جلل، تركنا فيه العمل، واشتغلنا بالكلام، واشتغلنا عن الله سبحانه وتعالى بأنفسنا، «وَمَنْ شغله حاله عن ربه، شغله الله به-بهذا الحال-» ولا طاقة لنا بأن يسحب ربنا توفيقه، نحن نحتاج إلى هذا التوفيق، نحن في حاجة شديدة إلى ربنا؛ ولذلك هيا بنا نرجع إلى القرآن الكريم.
وأكمل: اشتغل المسلمون، وعمروا الأرض، فجاءوا إلى القرآن، وَقَسَّمُوه إلى ثلاثين جزء؛ كل جزء من هذه الأجزاء، يساوي الآخر في عدد الحروف. وَأَقَرَّ ذلك الإمام مجاهد. وبدأ المسلمون في تقسيم القرآن؛ لقراءة كل جزء منه في يوم. حتى جاء الشيخ علي بن سلطان القاري -و (القاري) معناها: القارئ- وكان يكتب مصحفًا كل سنة، ووجد نظامًا شائعًا عند بعض الخطاطين في تركيا، فكتب المصحف عليه، فنسب الأمر إليه، وهو هذا الذي يجعل الجزء في عشرين صفحة.
فالمصحف: ستمائة صفحة، ثلاثين في عشرين، وكل صفحة: خمسة عشر سطرًا، تبدأ بآية، وتنتهي بآية. وهذا هو ما طبعه مصحف الملك فهد، وهو في البداية كان لعلي بن سلطان القاري المكي. فشاع هناك الحفظ من هذا النظام، الذي يسمونه في لغتهم: الداركنار.
كما شاع الآن، حتى أصبح هو الأساس، في عشرين صفحة؛ من أجل أن تقوم بها في رمضان، كل ركعة من ركعات التراويح بصفحة.
ومن أجل أن تقوم بها في الصلوات الخمس، عدد ركعات الفروض: 17، وعدد ركعات السنن: 17. في هذه: عشرة، وفي تلك: عشرة، أصبحنا عشرين، كأنك تنهي جزءًا كل يوم. هذا هو الذي فعله أجدادنا ونسيناه، فكانوا في الصلوات يقرءون صفحة واحدة في كل ركعة، فينهون المصحف في شهر، فإذا قرءوه خارج الصلاة أنهوه مرتين في الشهر.
إذن، نحن أمام حضارة، ونظام، وعمل، واختلاط بين الفكر المستقيم المستنير، وبين عبادة الله، وعمارة الدنيا، وتزكية النفس.
وشدد عضو كبار العلماء: معنا كنز "القرآن الكريم" كتاب هداية، حتى الذي لا يعرف معناه من الأعاجم يحفظونه، وترى النور يخرج من وجهه؛ مقارنة بغيره. في عصرنا نجد الكلام أكثر من العمل. الله يأجرنا في مصيبتنا؛ ولكن ينبغي علينا أن نتحرك، وأن نبدأ على ما أراد رسول الله ﷺ: «ابدأ بنفسك، ثم بِمَنْ تعول». لا تلقي المسئولية على غيرك، ابدأ بنفسك. فهيا بنا من ساعتنا هذه، نبدأ بأنفسنا، ونعود إلى القرآن الكريم؛ تلاوةً، وحفظًا، وتدبرًا، وتأملًا، وعملًا. هيا بنا نرجع إلى القرآن الكريم؛ تعظيمًا، ونشرًا، وتعليمًا، وتعلمًا. هيا بنا نرجع القرآن الكريم؛ قراءةً، واستماعًا.