الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

«المازني» .. و«صندوقِ الدنيا»

لَم يَكُنْ الكاتِب الكبير "إبراهيم عبدالقادر المازني" مجرَّد كاتِب أو أديب – إنَّما كان أحد روَّاد تجديد الأدب والفِكْر في النِصف الأول مِنَ القرن العشرين – إلي جِوار الروَّاد الكِبار أمْثال: عباس محمود العقاد ومُحمَّد حُسين هيكل وطهَ حُسين ويَحيي حَقِّي وتوفيق الحكيم وغيرُهُم...مِمَّن وضعوا الأساس لتشييد البُنيان على أيدى مَنْ يأْتي بَعدَهُم مِنَ المُفكِّرين والأُدباء – وقد فتحوا لِلأدب العربي الحديث مجالات جديدة لَمْ تَكُنْ معروفة مِن قَبل...تَتَميَّز كِتابات "المازني" بِروحِ الدُّعابة والسُّخْرية وخِفَّةَ الظِّلْ، ولَمْ تَكُنْ سُخريَتَهُ ودُعابَتَهُ قاصِرة علي أحوال النَّاس وتَقلُّبات الدُّنيا كما عرَفَها، إنَّما كانَ في كثيرٍ مِنَ الأحيان يَسْخَرَ مِنْ نَفسِهِ بِما يَعْكِس رؤيَتَهُ الفلْسفية والاجتماعية لِلحياة والعَصْر الذي عاشَ فيه.

 

يَفْتَح "المازني" أعْيُنَنا علي واقِع الحياة بِكُلِّ ما فيها مِن مسَرات وأحْزان، وأنَّ لِكُلِّ إنسان "صُندوقَهُ الخاص" فهو قدَرُهُ الذي يَحْمِلُهُ علي ظهْرِهِ طُوالَ حياتِهِ في نجاحِهِ وإخفاقِهِ – يَضَعُ فيهِ ما شاءَ لَهُ مِنَ التجارِب والذِكْريات في عِلاقَتِهِ بِذاتِهِ وبغيرِهِ مِنَ النَّاس، وكُلَّ ما رأتْهُ عيناهُ وأدرَكَهُ عَقْلَهُ وقلْبَهُ في مِشوارِ الحياة – التي يري أنها ليْسَتْ أكثَر مِنْ "حَصادِ الهَشيم" أو مُجرَّد "قَبْضُ ريحْ"...فَقد جاءَ إلي هذه الدُّنيا مِنَ حَيِّثُ لا يَعْلَم – لِيَظلْ فيها زَمَنًا – ثُمَّ يَمضي عَنْها دونَ أن يدري إلي أيْنَ يَمْضي.

 

يُطْلِعُنا "المازني" علي مُعاناة الكاتِب في الحياة مِنْ خِلال "صُندوق الدُّنيا" وكيف أنَّهُ كانَ يَفْرَح وهو طِفْلًا صغيرًا عِندما يأتي صاحِب الصُندوق، فَيَجْلِسْ إِليهِ ويَنظُر إلي ما فيهِ – وفيما بَعْد صارَ يَحْمِلُهُ علي ظهرِهِ يَجوبُ بِهِ "الدُّنيا" يَجْمَعْ مناظِرَها ويُصَوِّر وقائِعَها– عسى أنْ يَسْتَوقِفَهُ بَعْض أطفال الحياة الكِبار فَيدعُوهُمْ إلي أنْ يَنظُروا ويَعْجَبوا ويتأمَّلوا ما فيهِ؟!؟...يَقولُ "المُبدِع الكبير" مُنْذُ أن حَملْتُ صُندوقي علي ظهري لَم يُشغِلُني عَنْهُ شئ سِوى – ماذا أُصوِّر؟ – ولَسْتُأراني أحْفَل بِالحياة ولا الموت ولا الوجود ولا العَدَم – فَوقتي لا يَتَّسِع لِلتفكير في هذا – لِأنني زَوجُ الحياة الذي لا يَسْتَريح مِن تكاليفِها – أقومُ مِنَ النوْم لِأكْتُبْ، وأتناول الطعام وأنا أُفَكِّر فيما أكْتُبْ، فألْتَهِمْ لُقمة وأَخُطُّ سطْرًا، وأنام فأحلُم أنِّي اهتَديّت إلي موضوع يُمْكِنَني كتابَتَهُ، وأفْتَحْ عيني فإذا بي نَسيتُهُ فابْتَسِم وأُحاوِل النوْم لعلِّي أُلاقيه مِن جديد...وتَمرُّ الأيام والليالي فلا ألْتَفِت إليها أو أُعيرَها انتباهًا، فلا وقت عِنْدي أَفْرَغُ فيهِ لِلَهو او لَعِبْ–وكأْنَّنيموكَّل بِمِلْء فضاء الصُحُفْ وفَراغ الأوراق...؟!!.

 

يُحَدِّثُنا "المازني" عَنْ "عُظماء الدُّنيا" وما يمتازون بِهِ مِنْ بساطة – فَهُمْ كالأطفال في اعتدال تواضُعْهُم بِغيرِ ذِلَّة، وابتعادِهِم عِنْ رذيلة الرياء، وبراءَتَهُم مِنَ المَكْر والدَّهاء، وإخلاصِهِم لِطبيعَتِهِم ومُيولِهِم، وقدرَتِهِم علي الاندفاع في مواجهة أخطار الحياة دون خوف أو قلق– رُبَّمالِعَدَم ادراكِهِم أسرار نُفوسِهِم – فلا عِلْم لهم بِما تنتهي إليه مخاوِف الطريق التي تدفَعَهُم طبيعَتَهُم إليها – فالبساطة التي يتميَّزون بِها هي مِنْ مظاهِر الصِّحة والاستقامة والإحساس والفِطرة...فلا تُصَدِّق مَنْ يُشيرونَ عليْكَ بِالترفُّق والتَمهُّل فلا خَجَلْ ولا حياء في الحق – ورُبَّما أراد هؤلاء الفُصَحاء أن يَستأْثِروا بِالفوزِ دونَكْ، فَزيَّنوا لَكَ القناعة والزُهْد – فَليْسَ لِلخَجَل مِن معني في الحياة أو نتيجة سوي أن النَّاس يملأون بُطونَهُم وأنتَ جائِعْ، يتحرَّكون وأنتَ واقِفْ، يَتقدَّمون وأنتَ مُتَرَدِّد لا تُغادِر مكانَك – فعلي قَدْر سعى المَرءْ وما يَبْذُلَهُ مِنْ جَهْديَكونُ لَهُ ما يستَحِقْ في المُقابِل – فالحياة هي الحركة والتدافُعْ، وليْسَت النوْمُ والتواكُل – وما أحقَّ مَنْ يَقْعُد ويَفْتَح فَمَهُ فاغِرًا إيَّاهُ أن يملأهُ الزمن بِالتُراب!؟!.

 

في قِصَتَهُ القصيرة الطريفة بِعُنوان "الصِغار والكِبار" يُرْشِدُنا "المازني"علي ما يجِب أن تكون عليه "مُعاملة الأطفال" وكيْفَ أن هؤلاء الصِغار تمْلأ نُفوسَهُم الشكوى مِنَ الكِبار الذين لا يُحسِنونَ تعليمَهُم أو حتي توجيهَهُم – وكأنهُم هُم أنفسُهُم لا يُخطِئون، أو يَفعلونَ ما يُمْكِن مُعاقبَتِهِم عليه – فَهُم يُكلِّفونِهُم العِلْم بِأشياء عديدة يُلاقونَالمَشقَّة في فِهمِها و إدراكِها، وأنَّ ما يُريدونَ معْرِفَتَهُ لا يَجِدون مِنْ يَدُلُّهُمْ عليه؟!؟ – هذا فيما يتَعلَّق بِالعلوم والمعارِف – أمَّا مِنْ حيْثُ السُلوك والسيرة فالمسألة أدَق وأكْثَر تعْقيدًا – ذَلِكْ أنَّهُم يَتِم تَلقينَهُم في المدرسة وفي البيت أنَّ لِلخير والشر آثارًا تُصيبَهُم بِالحيرة حينَ يتأمَّلونَها– ولا يَعْرِفونَ حقيقة أمْرَها.

 

يحكي "المازني" أنَّهُ في عصر أحد الأيام عَزَمَ علي تأنيب إبنَهُ لِما يُحْدِثُهُ مِنْ عَبَث بِكُلِّ ما تَصِل إليهِ يَداهُ، إنَّما ذَلِك العِزْم ذَهَبَ وتلاشى عِندما راحَ يُفَكِّر في الطفولة وطبيعَتِها –وكيْفَ أننا نُمَسَّخُ هذه الطبيعة بِما نُحاوِل مِن إكراهِها عليه، وما لا يَتفِقُ مع سِماتِها– ثُمَّ تَملَّكَتْهُ روح العَبَث الذي يُنكِرُهُ علي طِفلِهِ مُحاوِلًا النزول إلي مستوي إدراكِه، مُقْتَرِحًا عليه أن يٌشارِكَهُ في تأليف كِتاب علي نَمَطٍ جديد – كِتاب مدرسي لكِنَّهُ يُخالِف كُلَّ ما في المدارِس مِن الكُتُب "كِتاب لذيذ ومُمْتِع" وطَلَبَ مِنْهُ مُساعدَتَهُ –فَسألهُ الطِفلُ وهو يضحَك – وكيْفَ أُساعِدُكَ أنا؟؟... وماذا يُمكِنَني عَمَلَهُ؟؟ – فقالَ لَهُ– ألَسْتَ تشْكو مِنَ الكِبار أمثالي – فقاطعَهُ الطِفْل – ليسوا أمْثالَكَ يا بابا!؟! – فقالَ لَهُ: أليْسَت شكواك أنَّ الكِبار – غيري – لا يُحْسِنون تعْليمَ الصِغار أمْثالك؟!! قالَ نَعَم – وسَنُعْطي الكِتاب اسم "المُختار في تهذيبِ الكِبار" ونَجعَلَ الصِغار هُم الذينَ يُديرون شؤون البيت، والكِبار هُمْ مِنْ يَذهَبونَ إلي المدرسة لِتعْليمَهُم مِن جَديد!!! واستطردَ قولَهُ: فَسوفَ نَقُصُّ لِجدَّتِكَ شَعْرَها وترتدي ملا بِس التلميذات – وإذا لَمْ تَحْفَظ دُروسَها عاقبْناها بِقَطْعِ المصروف عنها– وإنأكْثَرَتْ مِنَ اللَّعِب حرَمناها مِنَ الحلوي–وهَكذا – وأضاف الولد قولَهُ: "وإذا جَلَسَتْمَعَنا واشتَرَكَت في الحديث انتهزناها بِنَظرة قاسية– وإنْلَمْ تَكُفْ عَنِ الكلام أفهَمْناها أنَّ الكِبار لا يَصِحُّ أنْ يُقاطِعوا الصِغار، وأنَّ عليها أنْ تّذْهَب إلي سَريرِها الآن –لأنَّموعِد نومِها قدْ حان...".

 

...وأخيرًا – تساءَلَ الطِفل – ولَكِن إذا لم يُحْسِن الصِغار تدبير شُئون المنزِل أو لَمْ تَكُنْ الصغيرات ماهِرات في طهي الطعام، وحَدَثَ تَذَمُّر بيْنَ الكِبار؟!؟...أَجَبتُهُ علي الفور: لِنْ يَعوزَنا كِلام نُسْكِتَهُم بِهِ – كما يَفعلون بِنا الآن– وما علينا إلَّا أن نَتَّهِمَهُم بِالبَطَر والافتراء –فَضَحِكَالطِفْلوقال:إنَّكَ ماهِرٌ جِدًا يا بابا – لا بُدَّ أن يَكونَ الكِبار قد ضايقوكَ في صِغَرِك، وأنتَ الآن تُريد الانتقام مِنهُم !!! ثُمَّ ألقي نَظرةً خبيثة وهو يسأل؟؟ هل كانَ أبوكَ ثقيلًا يا بابا؟؟ فنَظَرْتُ إليهِ مُتماسِكًا – وسألتَهُ بِدوري– ثقيلًامثلَ مَن ...؟ فَضَحِكَ الطِفْلُ وقال – لا شئ مُجرَّد سؤال!!!– وحاولْتُالهَرَب مِنْهُ مخافةً أن يَستَطرِد في مِثْلِ تِلْكَ الأسئِلة المُحرِجة – ثُمَّ استأذَنَتُهُ في الخروج وطَلَبْتُ مِنْهُ أن يُفَكِرَ في الأمْر...!!! ومتي نبدأ في إعدادِ الكِتاب ؟... وقَبْلُ أن أَصِلْ إلي الباب– باغَتَني سؤالَهُ: وأنتَ يا بابا – هل نضَعْكَ مَعَ الكِبار أمِ الصِغار ...؟ فَقُمْتُ بِدَفعِ الباب مُهَروِلًا إلي الخارِج ولَم أتَمَكَّن مِنَ الجوابْ!؟!.

 

"...رَحِمَ اللهُ "المازني" وقد كانَ مِنْ الروَّاد الكِبار – إنَّما لَمْ تَغِبْ عَنْ رَوحِهِ الطيِّبة... مَرَح و براءة وشقاوة الأطفال...".

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط