حين نقرأ عن الجلسة التي استضافتها القاهرة، بمبادرة من الجهاز العربي للتسويق ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية، قد يظن البعض أنها مجرد فعالية بروتوكولية عابرة. لكنني أراها أبعد من ذلك؛ أراها مؤشراً على وعيٍ يتشكل بأن السودان – ذلك البلد الكبير الذي أنهكته الأزمات – لا يمكن أن يُترك لمصيره وحده.
لقد طالما سمعنا عن "إعادة الإعمار" في أكثر من بلد عربي، لكن كثيراً من تلك الوعود ضاع بين تضارب المصالح أو غياب الإرادة السياسية. والسؤال هنا: هل يكون السودان مختلفاً؟ هل نستطيع أن نتجاوز الخطابات لنصل إلى خطط عمل جادة تُنفّذ على الأرض؟
ما لفت انتباهي في هذه الجلسة هو استحضار التجارب الدولية الناجحة في إعادة البناء، ليس بدافع التقليد، بل من أجل استيعاب الدروس. فالتجربة علمتنا أن الخراب لا يُهزم بالمال وحده، بل بالحوكمة الرشيدة، والشفافية، والمؤسسات التي تُبنى قبل المباني والطرقات.
وهنا لا يمكن إغفال الدور المصري، فمصر كانت ولا تزال قلب العروبة النابض، وملتقى الأشقاء من العرب والأفارقة على حد سواء. عبر تاريخها، احتضنت مصر القضايا المصيرية للأمة، ودافعت عن استقلال الشعوب، ومدت يدها في أوقات الشدة قبل الرخاء. واليوم، وهي تستضيف النقاش حول مستقبل السودان، تثبت مجدداً أنها قادرة على جمع الأطراف وصياغة مسارات تعاونية تليق بمكانتها ودورها الريادي. إن عظمة مصر لا تُقاس فقط بما تملكه من إمكانات، بل بما تجسده من رسالة حضارية وإنسانية تحمل على عاتقها هموم الأشقاء.
ولأن السودان ليس مجرد دولة عربية أخرى، بل عمق استراتيجي لمصر وللإقليم كله، فإن مسألة إعادة إعماره ليست شأناً داخلياً فحسب. إنها قضية أمن قومي عربي، واختبار حقيقي لمعنى التضامن الذي نتغنى به.
ما يقلقني شخصياً أن يظل الحديث في إطار "التوصيات" من دون ترجمة عملية. فما أكثر المؤتمرات التي صفقنا لها ثم نسيناها بعد أن انفض الجمع! ما يحتاجه السودان اليوم هو التزام واضح: جداول زمنية، برامج تنفيذية، ومؤسسات عربية تتبنى التنفيذ لا الاكتفاء بالبيانات.
أؤمن أن لدى السودان القدرة على النهوض، لكن ذلك مرهون بتكاتف عربي صادق، يتجاوز الحساسيات السياسية والبيروقراطية العقيمة. فإذا نجحنا في ذلك، لن نكون فقط قد ساعدنا السودان، بل رسمنا لأنفسنا نموذجاً عربياً جديداً في التعاون والبناء.
إن ما جرى في القاهرة خطوة على الطريق، لكن الطريق نفسه طويل وشاق. ومع ذلك، فإن مصر والسودان، بتاريخهما المشترك ونيلهما الواحد، يثبتان أن ما يجمعهما أكبر من حدود وسياسة؛ إنه مصير مشترك يخطّه شعبان شقيقان، كلما نهض أحدهما كان سنداً للآخر. والسؤال الذي يظل مفتوحاً: هل نملك هذه المرة الإرادة لنمضي فيه حتى النهاية؟