على ضفاف التاريخ، حيث تلتقي الأهرامات بوهج الشمس، يقف المتحف المصري الكبير شاهدا جديدا على عبقرية مصر الحضارية، لا باعتباره مجرد صرح أثري ضخم يحتضن كنوز الفراعنة، بل كرمز حديث لـ قوة مصر الناعمة، ورسالة ثقافية وسياسية تمتد جذورها في الماضي، وتطل برؤيتها نحو المستقبل.

منذ اللحظة الأولى لطرح فكرة المتحف المصري الكبير مطلع الألفية الجديدة، لم يكن الهدف مقتصرا على بناء متحف حديث يستوعب آلاف القطع الأثرية، بل تأسيس جسر حضاري وإنساني يربط بين مصر والعالم.
فالمتحف، الذي يقف على مساحة 500 ألف متر مربع عند بوابة الأهرامات، يقدم لمصر أداة دبلوماسية من طراز خاص؛ فهو ليس فقط موقعا سياحيا عالميا، بل منصة للحوار بين الثقافات، تروي للعالم قصة الإنسان المصري عبر العصور، بلغة يفهمها الجميع: لغة الإبداع والجمال.
يضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل جميع فترات التاريخ المصري القديم، أبرزها مجموعة الملك توت عنخ آمون الكاملة التي تعرض لأول مرة في مكان واحد، بعد رحلة ترميم ونقل امتدت لسنوات طويلة.
هذه الكنوز لا تقدم كتحف جامدة خلف الزجاج، بل في عرض متكامل يجمع بين التقنيات الرقمية والوسائط التفاعلية التي تجعل الزائر يعيش تجربة بصرية ووجدانية غامرة، وكأنه يسافر عبر الزمن.
بهذا المزج بين الأصالة والتكنولوجيا، يعلن المتحف عن وجه جديد لمصر: دولة تعرف كيف تحافظ على ماضيها وتعيد تقديمه للعالم بأسلوب معاصر.

في عالم تتنافس فيه الدول على كسب العقول والقلوب، أصبحت القوة الناعمة – بما تتضمنه من ثقافة وفنون وتاريخ – أداة تأثير لا تقل أهمية عن القوة العسكرية أو الاقتصادية.
ومع افتتاح المتحف المصري الكبير، تضع مصر نفسها في طليعة الدول التي تستخدم تراثها كوسيلة لتعزيز حضورها العالمي.. فالمتحف لا يجذب السائحين فقط، بل الدبلوماسيين وصناع القرار والمفكرين من مختلف أنحاء العالم، الذين يجدون في القاهرة مركزا ثقافيا عالميا نابضا بالحياة.
إنه، ببساطة، سفير مصر الدائم لدى الإنسانية، يروي للعالم قصة حضارة لم تنطفئ شعلتها منذ آلاف السنين.
ولا تتوقف قوة وتأثير المتحف عند البعد الدولي، بل تمتد إلى الداخل، حيث أصبح المتحف مشروعا وطنيا يوحد وجدان المصريين حول رمز يعكس عبقرية أمتهم.
فبينما يرى الزائر الأجنبي في المتحف رحلة إلى الماضي الإنساني، يرى المصري فيه مرآة لكرامته وتاريخه، ورسالة تؤكد أن الحضارة المصرية ما زالت قادرة على الإلهام والبناء.
هذا الشعور بالفخر الوطني يعزز الانتماء ويغرس في الأجيال الجديدة الثقة بأن مصر، التي شيدت الأهرامات، لا تزال قادرة على الإنجاز في القرن الحادي والعشرين.
ومنذ بدايات إنشائه، كان المتحف مشروعا عالميا بحق، شاركت فيه مؤسسات ودول من مختلف القارات في مجالات التمويل والترميم والدراسة..هذا التعاون لم يكن مجرد تبادل تقني، بل شكل نوعا من الشراكة الحضارية التي تعكس المكانة التي تحظى بها مصر كحارس لإرث إنساني مشترك.

ومع افتتاح المتحف في الأول من نوفمبر المقبل ، سيتحول المتحف إلى مركز عالمي للبحث والتعليم الأثري، يستضيف مؤتمرات وورش عمل تجمع علماء الآثار والفنون من كل أنحاء العالم، مما يعزز دور مصر كمحور للمعرفة والتراث.
كما يقدم المتحف تجربة مختلفة تقوم على التأمل والفهم والتفاعل، ما يجعله من أبرز ركائز السياحة الثقافية المستدامة في الشرق الأوسط.. فزيارة المتحف لا تقتصر على مشاهدة الآثار، بل تمتد إلى رحلات تعليمية وأنشطة فنية وموسيقية تنظم في ساحاته، لتتحول الزيارة إلى تجربة شاملة تجمع بين المتعة والمعرفة.
هذا النوع من السياحة الراقية يرفع من قيمة المنتج السياحي المصري، ويعيد رسم صورة مصر كوجهة للثقافة والفكر، لا مجرد مقصد للآثار القديمة..من خلال المتحف المصري الكبير، تقول مصر للعالم إنها ليست فقط مهد الحضارة، بل ما زالت قادرة على صناعة المستقبل من روح الماضي.. فالمتحف لا يحفظ التراث فحسب، بل يعيد تعريف معنى الحضارة المصرية بوصفها قوة ناعمة تجمع بين الإبداع والإنسانية والانفتاح.. إنه شاهد من حجر ورؤية من فكر، يجسد مقولة أن من يمتلك التاريخ، يمتلك الحاضر والمستقبل أيضا.