لعل مما يستوقف الإنسان فى محطات حياته التى يقطعها بقطار عمره، مواقف تترجم عن شخصيات أصحابها، وكأنى بهم يهمسون فى سمع البشرية "أن لعظماء الرجال فى الحياة مواقف، فاصنع لنفسك مواقف ينحنى لها عظماء الرجال".
وفى هذه الأجواء انطلقت ندوة الحج الكبرى هذا العام (١٤٤٠ه) لتتخذ من "التسامح والسلام والتعايش" منهجا وعنوانا فى حالة من الرقى الإنسانى شمل مشاركين فى موكبه شخصيات من شتى بقاع الأرض اختلفت ألوانهم ولهجاتهم ولكن جمعتهم إنسانيتهم ودينهم، ولعل نجاح الأشياء مقرون بجد وصلاح من يقومون عليها لهذا فليس بمستغرب هذا النجاح لندوة الحج الكبرى هذا العام الذى امتد من الدروس النظرية فى قاعات المؤتمرات ليعانق الواقع العملى فى النسك والمشاعر، بفريق عمل متميز يقف على رأسه معالى وزير الحج السعودى الدكتور محمد صالح بن طاهر بنتن، ونائبه ومستشاريه.
وقد تجلت معالم الإنسانية والتوفيق والقبول هذا العام فى مواطن كثيرة، كان من أبرزها ما كان فى صعيد عرفة من نزول الغيث والرحمة من السماء ماءً طاهرا مباركا يعانق حرارة الإيمان فى القلوب، والذى ترجم عنها ألسنة ألحة على ربها بالدعاء لتتفتح أبواب السماء بالرحمات والفيوضات والإشراقات التى تجلت على هذا المكان الطاهر لتغسل القلوب من أدرانها، وكأنى بها رسالة من السماء لأهل عرفة من الحق سبحانه يقول لهم فيها: "إنى قد اطلعت عليكم فغسلتكم بماء من عندى فارجعوا إلى دياركم بميلاد جديد يحمل البشرى بالقبول من رب العالمين".
ومما لا يغيب عن مخيلتى من أحوال الصالحين من عباد الله أنه وقف معى عشية عرفة رجل من الصالحين من آل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتهل إلى ربه أن يتجلى على أهل عرفة بغيث ينزل من السماء في يوم عرفه، رحمة بأهل المنسك فكانت رحمة العلى الأعلى فى مطر أحيا به الله الأجساد والقلوب، وهذا هو حال الصالحين فى كل زمان ومكان يخرجون فى دعائهم من دائرتهم الضيقة إلى رحابة رحمة الله التى تشملهم وكل من أخاط بهم فهم القوم لا يشقى جليسهم.
وتبقى جماليات الإسلام وأخلاقه فى المشاعر، فإذا ما اعتبرنا أن الدين الإسلامي هو دستور الحياة لهذه الأمة، فلا غرابة إن أبصرنـاه في بنيتـه العقدية والتشريعية يتميز بالحيوية والإيجابية، فليس الإسلام عقيدة وشريعة مجرد معارف باردة لا أثر لها في سلوك الفرد وحياة الإنسان، بل إنه على النقيض من ذلك، إذ يمثل حركة دافعة تقود الحياة إلى ما هو أحسن، وتُقوم السلوك إلى ما هو أفضل، ولا أدل على ذلك من الآيات القرآنية والآثار النبوية التي تبين الرباط الوثيق بين الجانب العقدي في الإسلام، وبين القيم الأخلاقية التي أمر الله تعالى بها عباده وارتضاها لخلقه.
من أجل هذا وجدنا وصف الإيمان الذي يعبر عن الجانب العقدي من الدين يرتبط بكثير من الصفات الأخلاقية، يقول الحق سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ» التوبة 119.
وهكذا ربط الإسلام بين هذه القيم الأخلاقية وبين الإيمان، بل إنها في حقيقتها كما ورد في الحديث السابق علامات وامارات على تمكن الإيمان من نفس الإنسان وذاته، أما البنية التشريعية في الإسلام فإننا نجد فيها العبادات والفرائض وقد اقترنت بغايات ومٌثل أخلاقية؛ فالصلاة ثمرتها القيمية والأخلاقية ما قاله الحق سبحانه وتعالى "وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ" العنكبوت 45، والزكاة ربطها كذلك القرآن بغايات أخلاقية قال عنها الحق سبحانه وتعالى "خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا" التوبة 103، كذلك الحج كان من غاياته تحقق المسلم بالتقوى التي تمثل جماع كل خلق وسنام كل فضيلة، يقول سبحانه «يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة 183.
وفى هذا السياق، قد يأتي موكب الحج الذي قد يحسبه الإنسان مجرد سفر طويل إلى البقاع المقدسة كُلف المستطيع بالإتيان به، أو هو نوع من التعبدات الغيبية المجردة عن الغايات العقلية. هنا يأتي القرآن الكريم ليصحح هذا المفهوم لدى المتوهمين به، مبينًا أن الغايات الأخلاقية والمثل القيمية غاية كبرى يحصلها الحاج من نسكه، يعبر عن ذلك قول الحق سبحانه «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ» البقرة 197.
د. محمد عبد الرحيم البيومى، عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر