الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إصدار خاص بالإنجليزية والعربية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية عن أزمة سد النهضة

صدى البلد

تحت عنوان "سد النهضة.. التهديدات والمحاذير والحلول الممكنة"، أصدر المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية إصدارًا خاصًا باللغتين العربية والإنجليزية حول تطورات المفاوضات المصرية-السودانية-الإثيوبية حول سد النهضة، وإعلان مصر وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وما أتبع ذلك من تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي داخل أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة من أن مصر لن تقبل بفرض الأمر الواقع. 

ويعقد المركز المصري مؤتمرا موسعا لمدة يوم كامل غدا الثلاثاء بفندق ماريوت- الزمالك بمشاركة كبيرة من مختلف خبرات سياسية ودبلوماسية وقانونية فضلا عن خبراء المياه والسدود. وقد وجهت الدعوة إلي مختلف البعثات الدبلوماسية الأجنبية في القاهرة ووسائل الإعلام المحلية والعربية والدولية لحضور المؤتمر.

يتضمن الإصدار سبع مشاركات تتناول المواقف المصرية والإثيوبية والتطورات الجارية في مراحل إنشاء السد والمعوقات التي تقف أمام ذلك، ومسار المفاوضات الجارية بين البلدان الثلاثة، ومسارات الحل بالنسبة لمصر.

كيف أفشلت إثيوبيا سد النهضة؟
استعرض عطية عيسوي الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن الأفريقي بصحيفة الأهرام، المراحل التي أوصلت مفاوضات سد النهضة إلى ما آلت إليه بسبب التعنت الإثيوبي الذي دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي للتحذيـر بقـوة مـن أنـه لـن يتـم تشـغيل السـد بفـرض الأمر الواقـع ليـدق بذلـك جـرس الإنذار حتـى يسـمعه الجميـع فـي أنحـاء العالـم، ويعرفـوا حقيقـة مـا يجـري فـي المفاوضـات، ومن هو الطرف الذي تسبب في تعثرها وعدم التوصل إلى اتفاق، مشيرًا إلى أن الرئيس أكد أن مصر ليست ضد التنمية في إثيوبيا ولكن ليس على حساب مصر والإضرار بها، وهو بذلك يدحض الادعاءات بأن مصر لا تريد التنمية للشعب الإثيوبي.

التصريحات التي صدرت على أعلى مستوى أكدت للعالم كله مدى استياء مصر من موقف إثيوبيا المتعنت الذي حال دون التوصل لاتفاق، رغم توقيع إعلان المبادئ في مارس 2015، ورغم اتفاق الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد في يونيو 2018 على تبني رؤية مشتركة بين الدولتين بشأن السد تسمح لكل منهما بالتنمية بدون المساس بحقوق الطرف الآخر، موضحًا أن إثيوبيا تنصلت من كافة الاتفاقيات الموقعة في هذا الشأن، سواء التي وصفتها بأنها وقعت عليها مجبرة لأنها في عهد الاستعمار، أو تلك التي وقعتها بعد استقلالها، وآخرها اتفاق المبادئ في مارس 2015.

وأوضح عيسوي أن اتفاق 2015 ينص على عدم البدء فـي مـلء بحيـرة السـد إلا بالتوافق بين الدول الثــلاث، كمــا ينظــم أســلوب المــلء الأول للبحيــرة والتخزيــن والتشــغيل بالتشــاور والتنســيق مــع تشــغيل السدود الأخرى في السودان ومصر، مع إشراك مصر والسودان في وضع قواعد تشغيل السد وملء بحيرته، كما ضمن لإثيوبيا موافقـة مصرية-سـودانية على بناء السـد مـع انتظـار التقرير النهائي للجنة الخبراء الدولية حول آثاره المحتملة على تدفق المياه، مفيدًا ان الاتفاق لم يحقق لمصر ولإثيوبيا كل ما يتمنيانه فهو حمل عبارات غير مرغوبة للطرفين وتجاهل أخرى مطلوبة، وذلك لكي يلتقي الطرفان في منتصف الطريق.

ورغم كل ذلك لم تلتزم إثيوبيا بالاتفاق، ولم توافق على خطة المكتب الاستشاري الفرنسي، وكل الدراسات التي أكدت أن السد بوضعه الذي تريده أديس أبابا سيضر مصر، فلـم تنتظـر الحكومـة الإثيوبية رأي الخبـراء قبـل الشـروع فـي بنـاء السـد، ولـم توقـف العمـل حتـى يتـم حسم الخلاف، بل بدأت البناء وبتصميم مختلف يرفع جسم السد إلى 145 مترًا وبسعة 74 مليار متر مكعب.

وأكد المتخصص في الشأن الأفريقي أن مصر بدون الحفاظ على مستوى المياه أمام السد العالي عند 165 مترًا كحد أدنى خلال فترة ملء بحيرة سد النهضة ستكون عرضة لفقد 1.8 مليار دولار من الناتج الاقتصادي، وأكثر من مليون وظيفة سنويًا، وكهرباء بقيمة 300 مليون دولار، وبينما يقل نصيب الفرد المصري من المياه عن  625 مترا مكعبا، يصل نصيب الفرد الإثيوبي إلى 38 ألف متر مكعب في السنة، وبينما لا يوجد لمصر إلا نهر النيل، يوجد في إثيوبيا 12 نهرًا، لافتًا إلى أن مصـر كانت كريمـة مـع إثيوبيـا بعـدم إصرارهـا علـى وقـف بنـاء السـد حتـى تثبـت الدراسـات عـدم إضـراره بحقوقهـا التاريخيـة فـي ميـاه النيـل، وهـو مـا فتـح البـاب للحصـول علـى تمويـل خارجـي لـه كان محظـور، وتنتظـر مصـر الآن مـن إثيوبيـا أن تـرد علـى هـذا الكـرم بمثلـه، ومن المهم التوصل لاتفاق يرضي مصر وإثيوبيا والسودان لأن العواقب فادحة على الاستقرار والتنمية في المنطقة.

صراع الرؤى حول سد النهضة.. مأزق للجميع

أشار الدكتور حسن أبو طالب عضو الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في دراسته إلى أنه على الرغم من أن العلاقات المصرية الإثيوبية تشهد تحسنًا عامًا ومطردًا في السنوات الأربع الماضية، فإن ملف سد النهضة يأخذ مسارًا معاكسًا، موضحًا أن التوصل لاتفاق حول قواعد ملء السد في السنوات الأولى وإجراءات تشغيله الدائم بما لا يتعارض مع المصالح الثابتة والحقوق المكتسبة لدولتي المصب، يتطلب تعاونًا شفافًا وتبادلًا للمعلومات بشكل مستمر حـول معدلات تدفـق النهـر فـي سـنواته الغنيـة بالأمطار أو المحـدودة.

الموقف المصري حيال الأزمة يضعها في إطار علمي وليس سياسيًا، يتعلق بخلافات منهجية حول التأثيرات المحتملة لسـيناريوهات مـلء الخـزان بعـد اسـتكمال بنـاء السـد الإثيوبي وكيفيـة احتوائهـا مـن خلال إجراءات مشتركة، ولذا يطالب الموقف المصري بمشاركة في عملية إدارة السد وفق اتفاق شامل يسـمح لإثيوبيا بالاستفادة مـن المشـروع، ويراعي في الآن ذاته حقوق مصر والسودان المائية، وهي الصيغة التي أكدها الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ رئاسته في 2014 وتقوم على معادلة ثنائية هي حق إثيوبيا في التنمية وعدم الإضرار بمصالح مصر والسودان.

وأوضح أبو طالب أن الموقف الإثيوبي على النقيض من الموقف المصري، ينطلق من مبدأ سياسي يتعلق بالسيادة وتأويله أن النيل الأزرق يمر في إثيوبيا وأن لها الحق في الاستفادة منه وفقًا َ لمصالحها وأولوياتها، أما مراعاة مصالح دولتي المصب فيأتي بعد إتمام المصالح الإثيوبية على اعتبار أن النيل الأزرق نهر إثيوبي، وتجسيدًا لهذا الموقف ترفض إثيوبيا أي تبـادل للمعلومات حـول معدلات تدفـق النهـر، أو بشـأن المواصفـات الفنيـة للسـد، أو رؤيتها في إدارته في سنوات الوفرة أو سنوات الندرة، مشيرًا إلى أن الرؤيتين المصرية والإثيوبية على هذا النحو بعيدتان تمامًا عن بعضهما ولكل منهما مخرجات مرفوضـة مـن الطـرف الآخر.

بل يبدو أن حرص القاهرة على تنميـة علاقاتها الثنائيـة مـع أديـس أبابا ومـع دول حـوض النيـل الأخرى يُقـرأ عكسـيًا مـن إثيوبيـا باعتباره ضعفـًا فـي الموقف المصـري، مبينًا أنه من الواضح أن الالتزام بما تم التوقيع عليه فـي عـام 2015 والمعروف بالاتفاق الإطاري ليس له تأثير على موقف إثيوبيا، بل يتم التعامل معه بطريقة تسمح بتأويلات متباعدة.

وأكد عضو الهيئة الاستشارية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن أي حديث عن عمل عسكري مسـتبعد تمامًا من الرؤية المصريـة لأسـباب متعـددة واقعيـة وإنسـانية، ولأن مجـرد طرحـه سـيأتي بنتائـج عكسـية لن تتوقـف عنـد حد إثيوبيا، بـل مجمل دول حوض النيل، وهو ما تتحسب له مصر جيدًا، ولذا يظل التفاوض مصحوبًا بتحرك سياسي ودبلوماسي نشط وموسع هو الأساس، مع وجود تفهم أفريقي عريض للمخاوف المصرية بما يثمر ضغوطـًا حقيقية على إثيوبيا تؤدي إلى مرونة موقفها، والتنسيق بشكل أكبر مع السودان الذي يبدو أنه لم يتعاف بعد من سياسات نظام البشير، وأن يصبح ملف سد النهضة والتعنت الإثيوبي ملفًا دائمًا في علاقات مع مصر أي دولة عربية أو أفريقية أو كبرى.

أبعاد الصراع بين مصر وإثيوبيا على نهر النيل

استعرض د. محمد نصر الدين علام، وزير الموارد المائية والري الأسبق، في مشاركته مقالا كتبه "إيريك ستوكستاد" نشرته مجلة "ساينس" الدولية العريقة تحت عنوان "صراع القوى في نهر النيل"، والذي بدأ بسرد تاريخي عن مخطط السدود الاثيوبية والذي بدأ بدراسة مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي في نهاية الخمسينات وحتى عام 1964، واستعراض مبادرة حوض النيل عام 99 والتي تم خلالها دراسة العديد من المشاريع المشتركة لدول حوض النيل بدعم غربي 200 مليون دولار، وموافقة مصر حينها على إقامة سد اثيوبي على النيل الأزرق عام 2008 لتوليد 2100 ميجاوات، بالتزامن مع تخطيط "ميليس زيناوي" رئيس الوزراء الاثيوبي حينها لبناء سد ضخم على النيل الأزرق بتمويل ذاتي عبر سندات بنكية، وهو ما أعلن عنه رسميا في 3 فبراير 2011 ووضع حجر الأساس في ابريل من نفس العام.

وحاليا أصبح سد النهضة أقرب للواقع حيث تبلغ أقصى طاقة يولدها السد 6000 ميجاوات، وسعته الكهربية المتوسطة في حدود 2000 ميجاوات، سيتم استخدامها لتغطية احتياجات اثيوبيا وتصدير الفائض للسودان، وأوضح كاتب المقال أن تنظيم تصرفات مياه النيل الأزرق على مدار العام سوف تفيد المزارع الكبرى بالسودان مثل مشروع الجزيرة الذي تبلغ مساحته 800 ألف هكتار، ولكنه سيسبب ضررًا للمزارع السودانية التي تعتمد على مياه الفيضان وسوف يضطر صغار المزارعين لاستخدام طلمبات رفع المياه واستخدام الأسمدة وانشاء المصارف.

وعلى مستوى الكهرباء فسوف تزيد إنتاجية السدود السودانية من الكهرباء قرابة 20% (1000 جيجاوات سنويا)، بجانب استفادة السودان من حجز الطمي والمواد الرسوبية أمام سد النهضة مما يزيد من العمر الافتراضي للسدود السودانية، وأعترف الكاتب بأن سد نهضة سوف يتسبب في تقليل إنتاج الكهرباء من السد العالي بجانب تقليل مياه الري في مصر.

وذكر الكاتب أن تقرير اللجنة الثلاثية الدولية لسد النهضة الصادر في مايو 2013، أوصى بمراجعة وتنقيح دراسات تداعيات السد على تدفق مياه النيل لمصر والسودان، بجانب وجود أخطاء جسيمة في تصميم السد قد تؤدي إلى انهياره تحت ضغط المياه التي سيتم حجزها أمامه، وأوصى التقرير بإعداد دراسات دولية لسلامة السد الانشائية وتأثيره السلبي على نوعية المياه.

كما ذكرت منظمة شبكة الأنهار الدولية أن دراسات تخطيط وتصميم السد غير دقيقة وغير مكتملة، بالإضافة إلى تأثيره على السكان المحليين والذين تقدرهم اثيوبيا بـ 3000 فرد بينما يقدرهم "جينفر فيليكس" الخبير الجغرافي الأمريكي بـ 20000 فرد من الأقليات سوف يمحي سد النهضة مجتمعاتهم وحضارتهم القديمة، وأشار كاتب المقال إلى أن المتخوفون من تأثير السد السلبي أثناء ملئه على مصر حيث من المتوقع أن يتم الملء خلال 5 – 7 سنوات، وفي أول سنة سيتم حجز 10% تزداد طرديًا عامًا بعد آخر.

كما أشار كاتب المقال إلى بحث نشره دكتور "بول بلوك" بجامعة ويسكنسون في عام 2014 بمجلة التخطيط وإدارة الموارد المائية للجمعية المائية للمهندسين المدنيين، الذي أكد أن ملء السد سيتسبب في أزمة مائية في مصر وانخفاض مؤثر في إنتاجية السد العالي من الكهرباء، موضحًا أنه إذا صادفت سنوات ملء السد سنوات فيضان عالية أو متوسطة فسوف تكون الآثار غير فادحة، ولكن في حال صادف سنوات جفاف فسوف تكون الآثار وخيمة، وذكر الكاتب أن دكتور "يلما ساليشي" بجامعة أديس أبابا أبلغه بعدم تحمل اثيوبيا طول فترة ملء السد وفي حال رفض مصر والسودان لذلك فسوف تقوم اثيوبيا بملء السد من حصتها بمياه النيل.

كما ذكر الكاتب أن مجموعة حوض النيل المصرية والمشكلة من أساتذة جامعات ومفكرين حذرت في احدى نشراتها عام 2013، من الآثار الوخيمة الدائمة لسد النهضة والتي ستبلغ أقصاها أثناء سنوات جفاف النيل والتي ستظهر على شكل انخفاض مؤثر في منسوب بحيرة ناصر وبوار مساحات هائلة من الأراضي الزراعية وتشرد ملايين المزارعين، بالإضافة إلى تراكم الأملاح في منطقة الدلتا وزيادة في تداخل مياه البحر بالخزان الجوفي وتملحه بالدلتا، بينما يرى الدكتور "أموري تيلمانت" بجامعة لافال بكندا، أن تنسيق سياسات تشغيل السد العالي مع سد النهضة سيقلل الأثار السلبية على مصر، ويستطيع مخزون سد النهضة مد مصر بمياه إضافية في سنوات الجفاف.

وأوضح كاتب المقال أن علام يتوجس حول نوايا اثيوبيا الحقيقية من السد لما فيه من مبالغة كبيرة في الحجم بجانب تخطيط اثيوبيا لإقامة سدود أخرى للتحكم في النيل الأزرق بشكل كامل، وذكر كاتب المقال أن السد الجانبي الذي تثار حوله مخاوف انشائية سيؤدي حال انهياره إلى إبادة ملايين البشر، بجانب تحذير جامعة "إم إي تي" الأمريكية من انهيار السد في ورشة عمل عقدت عام 2014، وعلق دكتور "يلما ساليشي" على ذلك بأنه سيتم استخدام خرسانة للسطح الخارجي ولغلق الشقوق أسفل السد.

استكمال إثيوبيا لسد النهضة... دوافع وعقبات

أوضح محمود سلامة، الباحث بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن سد النهضة يواجه مشكلات منذ أن شرعت إثيوبيا في بنائه في ابريل 2011، وما صاحبه من تأجيل موعد انتهاء السد نتيجة مشاكل مالية، وهو ما يستدعى التساؤل حول موقع سد النهضة في إطار السياسة الاثيوبية من خلال شقين.

الشق الأول وهو حول دوافع الحكومة الاثيوبية لاستكمال بناء السد، ويأتي في مقدمتها القضاء على أزمة انقطاع الكهرباء نتيجة عجز الإنتاج بمقدار 460 ميجاوات نتيجة عدم ملء السدود المنتجة للكهرباء بالمياه الكافية، حيث تشكل السدود 90% من انتاج اثيوبيا من الكهرباء، مما استدعى بدء خطة لترشيد الكهرباء، نتج عنها خسارة أكثر من 100 مليون دولار جراء توقف تصدير الكهرباء إلى السودان وجيبوتي، وبالتالي تسعى اثيوبيا لبناء سد النهضة لقدرته منفردًا على انتاج ما يقارب ضعف الإنتاج الحالي بجانب الوفاء باتفاقيات تصدير الكهرباء والسعي لفتح أسواق جديدة لجذب المزيد من العائدات الاقتصادية.

كما يسعى "أبي أحمد" إلى تحسين موقفه والحزب الحاكم، فمنذ وصول "أبي أحمد" للسلطة حقق خطوات على طريق الإصلاح السياسي على المستوى الداخلي والخارجي، وهو ما جعل مجلة "التايم" الأمريكية تختاره ليكون ضمن قائمة القادة والزعماء الأكثر تأثيرًا في العالم، لكن الإصلاح السياسي يحتاج لإنجازات اقتصادية تدعمه وتدعم موقفه للبقاء في السلطة، وارسال رسالة طمأنة للخارج حول مستقبل الاستقرار الداخلي، كما يحاول "أبي أحمد" خلق توازن في الشراكات الدولية من خلال بناء علاقات خارجية أكثر تنوعًا من خلال اشراك دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا في مشروع سد النهضة خلال زيارته الأوروبية في أكتوبر 2018، بالإضافة لمحاولة اثيوبيا أن تجعل من سد النهضة أيقونة للدول الأفريقية المشابهة لها في الظروف الاقتصادية في انشاء مشاريع قومية دون الاقتراض الدولي، وهو ما يعزز صورة اثيوبيا كدولة رائدة على المستوى الافريقي.

أما الشق الثاني فيتعلق بتحديات استكمال السد، ويأتي على رأسها مشكلة التمويل فبالرغم من مشاركة الشعب الاثيوبي بما يعادل 15% من إجمالي تكلفة السد، إلا تكلفة بناء أصبحت تحديًا اقتصاديا أمام الحكومة الاثيوبية، نتيجة ارتفاعها من 4.7 مليار دولار إلى 98 مليار دولار حتى الآن نتيجة انخفاض العملة الاثيوبية أمام الدولار، ويرتفع هذا الرقم بمقدار 800 مليون دولار عن كل سنة تأخير في إنهاء السد.

ويأتي من ضمن التحديات أيضًا، مخاطر عدم الاستقرار السياسي جراء السماح للحركات السياسية بالعودة إلى اثيوبيا دون ضمانات لنزع السلاح، بجانب عدم وجود ضمان لعدم صعود العناصر الديكتاتورية والطائفية وهو ما يؤكد تعقد الوضع السياسي الاثيوبي، بجانب الأزمة القائمة بين بعض القيادات العسكرية والحكومة الحالية نتيجة اتهامات بالفساد جراء سحب مشروع بناء السد من شركة "ميتيك" التابعة للجيش لتأخرها في التنفيذ، وذلك بخلاف التهديدات الأمنية نتيجة الصراعات والعنف والنزوح الموجودة حاليا في المناطق الشمالية والغربية.

أزمة سد النهضة.. مرونة مصرية وتشدد إثيوبي

استعرض مصطفى أحمدي الخبير في الشئون الأفريقية والمستشار الإعلامي السابق في إثيوبيا، المراحل التاريخية لإنشاء سد النهضة، مشيرًا إلى أن البدء في الإنشاءات الخاصة بسد النهضة أعلن عنها في إبريل من عام 2011، والذي يعد عاشر أكبر سد في العالم، وكانت نقطة الخلاف الرئيسة بين المفاوض المصري والمفاوض الإثيوبي هو الوقت الذي سوف تستغرقه أديس أبابا في ملء السد.

ثم كان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في مارس 2015 لينهي عقودًا من التي اعتقد واطمأن فيها الإثيوبيون أن مصر حجر عثرة في طريق استفادة أديس أبابا بمياه النيل. وعرضت المشاركة لتعنت الجانب الإثيوبي الذي رفض مقترحًا مصريًا بالسماح بإطلاق 40 مليار متر مكعب من المياه باتجاه القاهرة رغم أنه اقل بكثير من الحقوق التاريخية المصرية المتمثلة في 55 مليار متر مكعب وهو ما ترفض أديس أبابا الاعتراف به أيضًا.

وعلى الجانب الآخر كان هناك عرض للإجراءات الصارمة التي اتخذتها الدولة المصرية للحد من استهلاك المياه ومنها التقليل من زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه. وطبقًا للتطور التاريخي فإن نصيب الفرد من المياه في مصر قد انخفض من 2000 متر مكعب إلى 555 متر مكعب مع تضاعف عدد السكان.

وتعرض أحمدي، للاضطرابات العرقية المتنامية في الجانب الإثيوبي، وذلك علاوة على الاضطرابات السياسية المتوقعة مع تلميحات برغبة رئيس الوزراء الحالي في الحصول على تفويض وتعديل الدستور. وهو ما يجعل هناك حالة مستعرة داخل البلاد لتوحيد الفصائل المتناحرة والقوميات المتباغضة تحت لواء مشروع مثل سد النهضة.

الموقف المصري ما بعد تعثر مفاوضات سد النهضة

أشار الدكتور أحمد أمل، رئيس وحدة الدراسات الأفريقية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، إلى أنه وعلى خلفية عودة ملف أزمة سد النهضة إلى صدارة المشهد في مصر فإنه على المفاوض المصري أن يعيد تقييم الأوضاع خصوصًا بعد ما لمس من مماطلة إثيوبية.

وعرض أمل توجهات سير المفاوضات من الجانب الإثيوبي والذي بدا أقل عدائية مع وصول "آبي أحمد" للسلطة في 2018. إلا أن العدائية المتراجعة لم تفض للكثير، وهو ما لحق به سعي مصري لتحريك المياه الراكدة عن طريق عقد مباحثات ثلاثية خلال قمة الاتحاد الأفريقي في فبراير الماضي. وأسفر عن اتفــاق لعقــد اجتمــاع سداســي يضــم وزراء الخارجيــة والــري ومســؤولي المخابــرات فــي الــدول الثـلاث فــي الخرطــوم قبــل نهايــة فبرايــر من العام الجاري وهو الاجتماع الذي جرى تأجيله أكثر من مرة. وما تلا ذلك من زيارة وزير الخارجية الإثيوبي للقاهرة وهي الزيارة التي اتفق خلالها على استكمال المفاوضات في أغسطس من العام الجاري وطالب الجانب الإثيوبي بتأجيله. وأفضى بدوره إلى إصرار مصر على الانتهاء من المفاوضات بحلول سبتمبر وتلاه لجوء مصر للمجتمع الدولي على خلفية مماطلة المفاوض الإثيوبي.

ويثبت المعدل البناء المتسارع في سد النهضة شبهة سوء النية لدى أديس أبابا حيث أنها في الوقت الذي تسعى فيه لإطالة أمد المفاوضات يجري العمل في السد على قدم وساق وبوتيرة متسارعة.

ورصد رئيس وحدة الدراسات الأفريقية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أبرز نقاط القوة والضعف لدى المفاوض والمصري ونقاط القوة تلخصت في عدم استقرار الوضع الداخلي في إثيوبيا أو في محيطها الإقليمي. ولم يتم إغفال جوانب الضعف والتي سبق وعرض البعض منها إلا أن أبرزها هو الدعم الدولي الذي يتمتع به "آبي أحمد" خصوصًا بعد حصوله على نوبل للسلام. وغمــوض الموقــف فــي الســودان خاصــة مــع الترتيبــات الانتقاليــة الجديــدة ومــا أســفرت عنــه مــن تغييرات أسفرت عن توفيــر حجــة ســودانية مســتمرة للتــذرع بالانشــغال بالملفــات الداخليــة.

سد النهضة بين المفاوضات المتعثرة والبدائل المتاحة

أكد اللواء محمد إبراهيم الدويري، عضو الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في مشاركته أن هناك محددات رئيسة في ملف سد النهضة، أولها أن قضية سد النهضة تمثل قضية أمن قومي مصري، وبالتالي فإن تحرك الدولة المصرية في هذا المجال يعد تحركًا على قدر كبير مــن الأهمية، ويعتمد على خطوات محسوبة وإجراءات مدروسة، وثانيها أن قضية سد النهضة بكل مكوناتها ومراحلها باتت أمرًا واقعًا لا مجال سوى التعامل معها من هذا المنطلق للوصول إلى حل، وثالثها أن مصر لم تعترض يومًا على بناء إثيوبيا لسد النهضة ولكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى الإضرار بحصة مصر المائية.

وقد أبدت مصر العديد من التحفظات على المعايير التي أعلنتها إثيوبيا لبناء السد وخاصة فيما يخص قواعد ملئه بسبب التأثيرات السلبية التي يحدثها ملء السد على ثلاث سنوات مثلما تريد إثيوبيا على مصر بنقص المياه المتدفقة إليها من 9-15 مليار متر مكعب، وبدأت إثيوبيا في بناء السد في الفترة التي كانت فيها مصر في حالة سيولة في أعقاب ثورة يناير، ولكن مصر بعد ثورة 30 يونيو منحت هذا الأمر أهمية خاصة، ودخلت في مفاوضات جادة مع الجانب الإثيوبي للوصول إلى حلول مقبولة من الطرفين تحقق المصلحة المشتركة لكليهما.

وأشار اللواء الدويري إلى أهمية إعلان المبادئ الذي وُقّع بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس 2015 الذي نصّت ديباجته على أن الدول الثلاث ألزمت نفسها بكافة المبادئ العشرة التي تضمنها، ولكنّ الجانب الإثيوبي استمر في نهجه المتشدد متجاهلًا هذه الالتزامات، ولذلك حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على طرح القضية أمام المجتمع الدولي، باتخاذ موقف يركز على القانون الدولي والتحرك السياسي من أجل الحفاظ على الأمن القومي المصري المائي، لافتًا إلى أن القيادة السياسية المصرية مازالت تنتهج في سياستها الخارجية مبدأ حسن الجوار والتعاون المشترك والبحث عن المصالح المشركة، بعيدًا عن الدخول في أية صراعات لا طائل من ورائها.

وقد حرصت الولايات المتحدة على التعامل بسرعة وإيجابية مع المطالب المصرية بشأن الوساطة الدولية في مشكلة سد النهضة، وذلك بإصدار البيت الأبيض تصريح يدعم المفاوضات ويطالب الأطراف بالتوصل لاتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد بما يحقق المصالح المشتركة للدول الثلاث، واصفًا التصريح الأمريكي بالمتوازن الذي يعبر عن نفس الموقف الذي مازالت تلتزم به مصر والذي كان لزامًا عليها أن تنتقل إلى مرحلة جديدة من الجهد والتحرك السياسي المتمثل في المطالبة بوساطة دولية يمكن أن تمارس دورًا وتطرح حلولًا أكثر إيجابية.

وتوقع عضو الهيئة الاستشارية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن تشهد الفترة المقبلة آلية جديدة للتفاوض في إطـار الوساطة الدولية، وعلى جميع الأطراف، ولا سيّما الطرف الإثيوبي أن تفسح لها المجال بكل مصداقية وثقة وشفافية وانفتاح، حتى يتم الانتهاء من هذه المشكلة، ليكون حلها نموذجًا أفريقيًا ناجحًا للتعاون المثمر.