الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حكم الطلاق بلفظ أنت طالئ يثير جدلاً.. الهلالي: لا يقع.. وعلى جمعة يحسم الجدل

حكم الطلاق بلفظ أنت
حكم الطلاق بلفظ أنت طالئ

أثارت فتوى الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، جدلًا كبيرًا، الذي رأى فيها أن طلاق المصريين لا يقع لأنهم يقولون «طالئ» بالهمزة بدلًا من القاف «طالق».

وقال «الهلالي» خلال حواره مع الإعلامي عمرو أديب، ببرنامج «الحكاية»: «إن بعض الشافعية قالوا لابد للطلاق أن يكون بالقاف وليس الهمزة، مضيفًا: إحنا بقينا بندور على الرأي الشاذ عشان البيت ميتخربش».

وكان الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، قد أعد بحثًا عن حكم قول الزوج لامرأته: «أنت طالئ» بالهمزة، مؤكدًا أن بعض الفقهاء رأى أنه طلاق كناية وليس صريحًا ولابد من معرفة نية الزوج.

حكم قول الزوج لامرأته: أنت طالئ
حدد الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، في بحثه الذي أعده عن «حكم قول الزوج لامرأته: أنت طالئ»، ورأى أولًا: أنه من المقرر شرعا أن الأصل في الأبضاع هو الاحتياط، ثانيًا لفظ «طالئ» بدلًا من «طالق» كما هو جارٍ على لسان كثير من أهل مصر: يُخرِج اللفظ مِن الصَّراحة إلى الكناية التي تحتاج إلى نية مقارنة للفظ يقع به الطلاق.

وأضاف المفتي السابق، ثالثًا: الطلاق الشرعي لا يقع إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه؛ كإشارة الأصم والكتابة، فلو نواه بقلبه مِن غير لفظ لم يقع، رابعًا: إذا أُبدلت الطاء في لفظ الطلاق تاءً مثناة «أنت تالق» لم يقع الطلاق إلا بالنية، رابعًا: العبرة في الطلاق بالألفاظ والمباني لا بالمقاصد والمعاني، سادسًا: الفتوى بالأخف ليست بالضرورة من التساهل في الفتوى؛ لأن هذا الأخف قد يكون هو المترجِّح لدى المفتي، أو هو الأليق بحال المستفتي.

ولخص المفتي السابق بحثه، قائلًا: «إن تحريف لفظ الطلاق الصريح بأن يُنطَقَ "طالئ" بدلا من طالق كما هو جارٍ على لسان كثير من أهل مصر، يُخرِج اللفظ مِن الصَّراحة إلى الكناية التي تحتاج إلى نية مقارنة للفظ يقع به الطلاق، وأن الفتوى بهذا القول ليست مخترعة ولا مصادمة للنصوص، بل هي مبنية على مذهب السادة الشافعية تفريعًا وتنظيرًا، وأن الإفتاء بهذا الاختيار فيه مراعاة لأحوال الناس والزمان، وفيه تحقيق لمصلحة بقاء الزوجية قائمة، بما يستتبعها من الحفاظ على كيان الأسرة في زمن تَهَدَّد فيه بقاء الأسرة، واتجه بالإنسانية إلى الفردانية».


البحث الكامل عن حكم الطلاق بالهمزة 
تابع الدكتور علي جمعة في بحثه، قائلًا: جاء الشرع الإسلامي بلغة العرب، فنزل القرآن الكريم بلغتهم، وتكلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بها، وقد تصرف الشرع في بعض الكلمات، فأخرجها من الحقيقة الموضوعة لها إلى تخصيص في الاستعمال كالحج والصوم والطلاق.

وورود هذا النوع من الكلمات التي خُصِّصَتْ في الإطلاق الشرعي في القرآن الكريم هو قرينة قوية على أن الشرع قد قصد لفظها بعينه؛ ولذلك اتفق الفقهاء على أن لفظ "الطلاق" هو الصريح في الطلاق، وزاد الشافعية في المشهور والحنابلة في قول لفظَيْ: "السراح" و"الفراق"؛ بناءً على أن هذه هي الألفاظ التي وردت في القرآن للدلالة على إنهاء عقد النكاح دون غيرها، وزاد بعضهم ألفاظًا أخرى.

وهذه الكلمات التي يقع بها الطلاق لها نطق يدل عليها في لغة العرب، فإذا نُطِقَتْ محرَّفةً: فإما أن تغير المعنى، وإما ألا تغير المعنى، لكنها على كل حال لم تَعُدْ عربية في الدلالة على معنى الطلاق.

وتحريف الكلمة قد يكون بحذف بعض حروفها، أو بإبدال حرفٍ منها بآخر بسبب تقارب مخرجيهما -كما بين الطاء والتاء مثلا-، بحيث يُخرِج التحريفُ الكلمةَ عن أصل وضعها اللغوي.

وقد يكون الإبدال مقبولا لغة إذا كان قد سُمِع مِن العرب، وقد يكون مردودًا، فيُعَدّ مجرد خطأ لُغَويّ، كما أن حذف بعض الحروف قد يكون صحيحًا لغة كما في ظاهرة الترخيم عند النداء؛ كما في قولنا: "يا عائش"، بدلا مِن "يا عائشة"، وقد يكون الحذف سببًا في عدم ترتب الآثار الشرعية على التصرف؛ كمن قرأ بعض كلمات الفاتحة في الصلاة ناقصة الأحرف.

والمقصود بتحريف كلمة الطلاق: حذف أو تغيير حرف أو أكثر مِن حروف لفظ الطلاق الصريح؛ بحيث يخرج اللفظ عن وضعه اللغوي؛ وذلك كنطقها: "تالق" أو "تالئ" أو "طال" أو "طاق" أو "طالِئ" بدلا مِن "طالق"، وهذه الأخيرة هي التي اشتهرت على ألسنة أهل مصر وغيرهم.

والمقرر أن الطلاق الشرعي لا يقع إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه؛ كإشارة الأصم والكتابة، فلو نواه بقلبه مِن غير لفظ لم يقع في قول عامَّة أهل العلم؛ لما روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه -واللفظ لمسلم- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّ الله تَجَاوزَ لأُمَّتِي عمَّا حدَّثَت به أنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّموا أو يَعْمَلوا بِه»، ومُجَرَّد النية يُعَدّ مِن حديث النَّفْس المُتَجاوَز عنه، ولأن الطلاق تَصَرُّفٌ يزيل الملك، والملك لا يزول بمجرد النية؛ كالبيع والهبة والعتق، ولأن الطلاق أحد طرفي النكاح، فلم يصح بمجرد النية كالعقد. (راجع: الحاوي الكبير للماوردي 10/ 149، ط. دار الكتب العلمية، والمغني لابن قدامة 7/ 294، ط. دار الفكر).

وهذه الألفاظ والأفعال المعبِّرة عن الطلاق لا تقع جميعًا في مرتبة واحدة مِن حيث حصول أثرها؛ وذلك لأن بعض الألفاظ تعد صريحة في حَلّ عقد الزواج، وبعضها مِن الكنايات، وبعضها ليس بصريح ولا كناية، فهو غير معتبر في الطلاق أصلا.

فما ليس بمعتبر في الطلاق هو: ما لا دلالة له على الطلاق، ولا دلالة فيه على إرادة الفِراق، ولا يحتمله إلا على تأويل متعسِّف، فهو لَغْوٌ، كقوله: "اقعدي" و"اقربي" و"اطعمي" و"أَسقيني" و"بارك الله فيك"، وما أشبه ذلك، فإنه لا أَثَر له، ولا يقع به الطلاق وإن نوى؛ لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق، فلو أوقعنا الطلاق: لكان واقعًا بمجرد النية، والطلاق لا يقع بمجرد النية كما سبق. (راجع: نهاية المطلب للجويني 14/ 65، ط. دار المنهاج، والمهذب للشيرازي 4/ 296، ط. دار القلم والدار الشامية).

وأما "الصريح" فالمراد به في باب الطلاق: ما لا يحتمل ظاهره غير الطلاق. (شرح البهجة الوردية لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري 4/ 250، ط. الميمنية)، واللفظ الصريح محصور عند الشافعية في ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح، وما اشتق منها -على تفصيل سيأتي-؛ لأن الأول اشتهر في معناه لغة وشرعًا، والأخيرين قد وردا في القرآن بمعنى الطلاق؛ قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} [الأحزاب: 49]، وقال تعالى: {أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ} [الطلاق: 2]. (شرح المحلي على المنهاج 3/ 325-مع حاشيتي قليوبي وعميرة-، ط. دار إحياء الكتب العربية).

وصريح الطلاق لا يفتقر إلى نية لإيقاعه؛ لأنه لا يحتمل غيره، فلا يتوقف إيقاع الطلاق فيه على النية، فلو قال الزوج: "لم أنو بالصريح الطلاق" لم تُقبَل دعواه، ووقع الطلاق.

وأما "الكناية" فالمراد بها في باب الطلاق: ما احتَمل الطلاق وغيره، ووقوع الطلاق بها موقوف على النية، فإن نوى به الطلاق وقع، وإلا فلا.

قال الإمام الغزالي في "الوسيط" (5/ 376، ط. دار السلام): "حَدُّ الكناية ما يَحتَمل الطلاق ولو على بُعْد". اهـ.

ومِن أمثلة كنايات الطلاق: قوله: "أنت بَرِيّة"، و"أنت خَلِيّة"، و"الحقي بأهلك"، وغير ذلك مما ذكره الفقهاء وهو محتمل للطلاق وغيره.

وهذا الفرق بين الصريح والكناية هو ما جَرَت عليه الشريعة في عامة الأبواب، بأن ميزت بالنية بين المحتمل لعدة أمور، كما في التمييز بين العادات والعبادات فيما يحتملهما، والتمييز بين مراتب العبادات فيما يحتملها، فلا بد في كل ذلك مِن النية.

قال الإمام الزركشي في "المنثور" (2/ 310، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): "الصريح لا يَحتاج إلى نية, وقد استُشكل هذا بقولهم: يُشترَط قَصْدُ حروفِ الطلاقِ لمعنَى الطلاق، وعلى هذا: فلا فرق بين الصريح والكناية, وقد تكلَّموا في وجه الجمع بكلام كثير, وأقرب ما يقال فيه: إن معنى قولهم: "الصريح لا يحتاج إلى نية"، أي: نية الإيقاع; لأن اللفظ موضوعٌ له، فاستغنى عن النية. أما قصد اللفظ فيُشترَط؛ لتَخرُج مسألةُ سَبْق اللسان، ومِن هاهنا يفترق الصريحُ والكنايةُ؛ فالصريح يُشترَط فيه أمرٌ واحدٌ، وهو: قصد اللفظ, والكناية يُشترَط فيها أمران: قصد اللفظ، ونية الإيقاع".

والمفهوم مِن كلام الإمام الزَّركشي أنه يشترط في كلٍّ مِن الصريح والكناية أن ينطق باللفظ مع قصد اللفظ لمعناه؛ بأن يكون مُستَعمِلا له في معناه، ويزاد على ذلك في الكناية قصد الإيقاع (مغني المحتاج 4/ 456- 457، ط. دار الكتب العلمية، وحاشية الشَّرواني على تحفة المحتاج 8/ 4، ط. المكتبة التجارية الكبرى).

وألفاظ الكناية كثيرة لا تنحصر، فالفقهاء في كلامهم على ألفاظ الطلاق لم يستوفوا كل الكنايات، بل عدَّدوا منها جملا، ثم أشاروا إلى ما لم يذكروه بضابط، وسكوت الفقهاء عن التعرض لبعض ألفاظ الكنايات بخصوصها إنما هو لكونها لم تقع في زمنهم، كما أنه ليس كل استعمال للألفاظ المشتقة مِن مادة (ط ل ق)، يكون صريحًا في الطلاق، بل منه ما يكون كناية رغم أنه مشتق منها، كما لو استعمل المصدر فقال لها: "أنت الطلاق" مثلا، ويُعَلَّل ذلك بأن المصادر غير موضوعة للأعيان وإنما تستعمل فيها توسعًا، وهو استعمال غير معتاد، وليس جاريًا على قياس اللسان، وكان كالمعدول عن الوضع والعرف، فصار كناية، بخلاف ما إذا وقعت مبتدآت أو مفعولات أو نحو ذلك، فإنها صرائح. ومثله: لو استعمل الفعل المحتمل للطلاق وغيره؛ نحو: "أطلقتك"، أو الصفة المحتملة كذلك؛ كـ: "أنت مُطْلَقة"؛ لاحتمالهما الطلاق وغيره، مع عدم اشتهارهما في معنى الطلاق. (راجع: الشرح الكبير للرافعي 8/ 509، ط. دار الكتب العلمية، ومغني المحتاج 4/ 457، 458).

والضابط في ذلك أن نقول: إن مأخذ الألفاظ الصريحة هو ورودها لغة أو شرعًا مؤديةً للمعنى الموضوع لها لا غير، ولا مدخل لغَلَبَة الاستعمال وشيوعه وحصول التفاهم في كون اللفظ صريحًا، وهذا ما نَصَّ عليه الإمام النووي في "المنهاج" (ص230، ط. دار الفكر) بقوله: "ولو اشتهر لفظ للطلاق؛ كالحلال أو حلال الله عليَّ حرام، فصريح في الأصح. قلت -يعني: النووي-: الأصح أنه كناية. والله أعلم". اهـ.

وعبارته في "الروضة" (8/ 25، 26، ط. دار عالم الكتب): "إذا اشتهر في الطلاق لفظ سوى الألفاظ الثلاثة الصريحة؛ كحلال الله عليّ حرام، أو أنت عليّ حرام... ففي التحاقه بالصريح أوجه، أصحها: نعم؛ لحصول التفاهم، وغلبة الاستعمال، وبهذا قطع البغوي، وعليه تنطبق فتاوى القَفَّال والقاضي حسين والمتأخرين. والثاني: لا، ورجَّحه المُتَوَلي. والثالث حكاه الإمام عن القَفَّال: أنه إن نوى شيئًا آخر مِن طعام أو غيره: فلا طلاق، وإذا ادعاه صُدِّق، وإن لم ينو شيئًا، فإن كان فقيهًا يعلم أن الكناية لا تعمل إلا بالنية، لم يقع، وإن كان عاميًّا، سألناه عما يفهم إذا سمعه مِن غيره، فإن قال: يسبق إلى فهمي منه الطلاق، حمل على ما يفهم، والذي حكاه الـمُتَوَلي عن القفَّال أنه إن نوى غير الزوجة فذاك، وإلا فيقع الطلاق؛ للعرف. قلت: الأرجح الذي قطع به العراقيون والمتقدمون أنه كناية مطلقًا -أي: بلا تفصيل بين العامي والفقيه- والله أعلم. وأما البلاد التي لا يشتهر فيها هذا اللفظ للطلاق، فهو كناية في حق أهلها بلا خلاف".

قال الإمام السيوطي في "فتح المغالق من أنت تالق" -ضمن كتاب "الحاوي للفتاوي" (1/ 205)، ط. دار الكتب العلمية-: "فانظر كيف صدر الفرع بضابط وهو: "أن يشتهر في الطلاق لفظٌ" ولم يخصه بلفظ دون لفظ، ولا يَظُنُّ أحدٌ اختصاصَه بلفظ "الحلالُ عليَّ حرامٌ" ونحوه، فإنما ذكر هذه على سبيل التمثيل". اهـ.

وقال العلامة شهاب الدين القَرافي المالكي في كتابه: "الفروق" (3/ 153، ط. عالم الكتب): "وضابطُ مشهورِ كلامِ الأصحاب: أن اللفظ إن دَلَّ بالوضع اللغوي فهو صريح، وهذا هو الطلاق; لأنه لإزالة مطلق القيد، يقال: لفظ مطلق، ووجه طلق، وحلال طلق، وانطلقت بطنه، وأطلق فلان مِن السجن... والكناية: ما ليس موضوعًا له لغة، لكن يحسن استعماله فيه مجازًا؛ لوجود العلاقة القريبة بينهما". اهـ.

ويظهر من كلام القرافي تعريف الصريح، وأن مداره على الوضع اللغوي، وأنه متى لم يكن اللفظ موضوعًا للمعنى: لم يكن مِن الصريح في شيء.

ويقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (7/ 300) في سياق حديثه عن الكنايات التي اشتهرت بين الناس في الطلاق: "ومفهوم كلام الخِرَقي: أنه لا يقع إلا بنية; لقوله: "وإذا أتى بصريح الطلاق وقع، نواه أو لم ينوه"؛ فمفهومه: أن غير الصريح لا يقع إلا بنية، ولأن هذا كناية, فلم يثبت حكمه بغير نية كسائر الكنايات". اهـ.

وقد سئل الإمام الرملي الكبير مِن الشافعية عن ألفاظ اشتهرت في الطلاق عند أهل "ضيار" ببلاد الهند وبلغتهم وليست ترجمة الطلاق فيها، بل هي ألفاظ اشتهرت على ألسنتهم عند التطليق, واشتهار هذه الألفاظ عندهم أكثر مِن اشتهار الطلاق في الطلاق، هل هي مِن ألفاظ الطلاق أو لا؟ وإذا قلتم: نعم، فهل هي كناية أو صريحة؟ وفي تطليق أهل هذه الديار بلفظ الطلاق مع عدم معرفتهم معناه وغاية معرفتهم أنه للفراق بين الزوج والزوجة، هل تطلق بذلك أو لا؟

فأجاب: بأن الألفاظ المذكورة ليست صريحة في الطلاق, ثم إن احتملت الطلاق فهي كناية فيه، وإلا فليس بكناية. ولفظ الطلاق مِن المذكورين صريح. (انظر: فتاوى الرملي 3/ 340، ط. المكتبة الإسلامية، وانظر: حاشيته على أسنى المطالب 3/ 270، ط. دار الكتاب الإسلامي).

وعلى ما ذُكِر: فكل صور التحريف والتبديل والحذف في لفظ الطلاق مِن كناياته التي تحتاج إلى تحقق قصد معنى الطلاق ووجود النية، ومِن ذلك: "أنت تالق"، أو "أنت دالق"، أو "أنت طالك"، أو "أنت طال"، أو "طال"، أو "أنت طاق"، أو "أنت تالك"، أو "أنت دالك"، أو "أنت طالئ"، فكل هذه الألفاظ مِن قبيل الكنايات لا مِن الصرائح.

قال الإمام السيوطي في "فتح المغالق" (1/ 207): "والحاصل: أن هنا ألفاظًا بعضها أقوى من بعض: فأقواها تالق، ثم دالق -وفي رتبتها طالك-، ثم تالك، ثم دالك وهي أبعدها، والظاهر القطع بأنها لا تكون كنايةً طلاق أصلا.

ثم رأيت المسألة منقولة في كتب الحنفية؛ قال صاحب "الخلاصة": وفي "الفتاوى": رجل قال لامرأته: أنت تالق، أو تالغ، أو طالغ، أو تالك، عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل: أنه يقع وإن تعمد وقصد أن لا يقع، ولا يصدق قضاء ويصدق ديانة، إلا إذا أشهد قبل أن يتلفظ وقال: إن امرأتي تطلب مني الطلاق ولا ينبغي لي أن أطلقها فأتلفظ بها قطعًا لعلتها، وتلفظ، وشهدوا بذلك عند الحاكم، لا يحكم بالطلاق. وكان في الابتداء يفرق بين الجاهل والعالم كما هو جواب شمس الأئمة الحلواني، ثم رجع إلى ما قلنا. وعليه الفتوى". اهـ.

ويدل على أن تحريف كلمة الطلاق على الوجه المذكور يخرجها من الصريح إلى الكناية جملة من الأدلة؛ منها ما يلي:

الدليل الأول: أن اللفظ الصريح إنما يؤخذ مِن ورود القرآن به، أو موافقته الوضع اللغوي، فإذا اشتهر عرفًا لفظٌ للطلاق ولم يَرِد به القرآن ولا ورد به عرف اللغة فإنه يخرج عن أن يكون صريحًا، ويصير كناية.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في أسنى المطالب (3/ 272): "الصريح إنما يؤخذ من القرآن" اهـ، ولعل سبب هذا ما فيه من معنى التعبد.

(راجع: نهاية المطلب للجويني 14/ 104 وما بعدها، والمنثور في القواعد للزَّركشي 2/ 306، 308، والأشباه والنظائر ص293، ط. دار الكتب العلمية، والحاوي للفتاوي للسيوطي 1/ 207، ط. دار الكتب العلمية، وحاشية الشَّبْرَامَلِّسي على نهاية المحتاج 6/ 429، ط. دار الفكر، وحاشية الشِّرْوَاني على تحفة المحتاج 8/ 4، والشرح الكبير للرافعي 8/ 527).

الدليل الثاني: وهو مبنيٌّ على معرفة أن الصريح والكناية يُفرَّق بينهما مِن وجهين:

أحدهما: أن الصريح لا يحتمل إلا معنى واحدًا، فحُمِل على موجبه مِن غير نية، والكناية تحتمل أكثر مِن معنى، فلم تنصرف إلى أحدهما إلا بنية؛ كالعبادات: ما كان منها لا يعقد إلا على وجه واحد -كإزالة النجاسة- لم يفتقر إلى نية، وما كان محتملا -كالصوم- لم يصح أن يكون عبادة إلا بالنية.

والثاني: أن الصريح حقيقة، والكناية مجاز، والحقائق يفهم مقصودها بغير قرينة، والمجاز لا يُفهَم مقصوده إلا بقرينة، فلذلك افتقرت الكناية إلى نية، ولم يفتقر الصريح إلى نية. (انظر: الحاوي الكبير للماوردي 10/ 166).

وتخريجًا على هذا يقال: متى تحقق الوجهان في اللفظ المحرَّف، خرج مِن باب الصريح، وصار كناية يحتاج إلى نية، وهذه الألفاظ السابقة قد حُذِفَ حَرفٌ مِن حروفها الأصلية أو أُبدِلَ بحرفٍ آخر، فخرجت عن انحصارها في معنى واحد، وصارت تحتمل أكثر مِن معنى، وخرجت عن أن تكون حقيقة؛ لأن الحقائق يفهم مقصودها بغير قرينة، وهذه التي دخلها الإبدال أو الحذف لا يفهم مقصودها إلا بقرينةِ ملاحظة المحذوف أو المُبدَل. فقرينة الإبدال في هذه الألفاظ موجودة ومتحققة، وهي التي بسببها انصرف اللفظ مِن كونه صريحًا إلى كونه كناية؛ فإن الصريح لا يحتاج في فهم معناه إلى قرينة، ولفظ "طالئ" ونحوه لا يفهم المقصود منه إلا بملاحظة قرينة الإبدال، ولو سمعه العالم بلسان العرب دون أن يعرف ما استجد عند العامة مِن هذا الإبدال لتوقف في فهم المراد، ولم يحمله على شيء، ولو وُقِّف على هذه العادة بالإبدال لحمله بالقرينة، ومتى احتاج فهم معنى اللفظ إلى قرينة صار كناية، ومتى صار كناية احتاج إلى نية.

الدليل الثالث: سبق أن الشافعية يعلِّلون كون قوله: "أنت طلاق"، وقوله: "أنت الطلاق" كناية في الأصح بأنه كالمعدول عن الوضع، وهذه العلة موجودة في الكلمات المحرَّفة كـ "طالئ" ونحوها؛ فإنها معدول بها عن الوضع، وهذا العدول هو العلة الأساسية في إخراجها مِن باب الصريح إلى الكناية. (انظر: الشرح الكبير للرافعي 8/ 509).

الدليل الرابع: أن ثبوت الحُكم يقتضي ثبوت الاسم، وانتفاء الاسم يقتضي انتفاء الحكم (انظر: الحاوي للماوردي 10/ 158)، ومقتضى هذه القاعدة أن ثبوت حكم الطلاق يقتضي ثبوت اسم الطلاق، وانتفاء اسم الطلاق في صورة: "تالق، وطالئ" ونحوهما يقتضي انتفاء حكم الطلاق، فيصير بناء على هذه القاعدة لغوًا لا حكم له، لكن لما اشتهر استعماله عرفًا خرج عن أن يكون لغوًا، ولم يلتحق بأن يكون صريحًا؛ لعدم وروده في القرآن أو كونه موافقًا للوضع اللغوي، فلم يبق إلا أن يكون كناية يحتاج إلى نية.

الدليل الخامس: تَقَدَّم أنه ليس كل استعمال للألفاظ المشتقة مِن مادة (ط ل ق) يصير صريحًا في الطلاق، بل منه ما يكون كناية رغم أنه مشتق مِن مادة (ط ل ق)، كما لو استعمل المصدر فقال لها: "أنت الطلاق"، أو الفعل نحو: "أطلقتك"، أو الصفة نحو: "أنت مُطْلَقة"، فإذا كان الأمر كذلك: فإبدال حرف أو أكثر مِن مادة (ط ل ق) أولى بالنزول عن رتبة الصريحية إلى الكناية، بل ربما خرج عن باب الطلاق أصلا، ولم يدل عليه لا صراحة ولا كناية.

الدليل السادس: أن الكلمة الواردة في اللغة لها نطقٌ يدل عليها، فإذا نُطقت محرَّفة؛ فإن تغيَّر المعنى دلَّت على المعنى الجديد دون القديم المحرَّف عنه، وذلك كنطق الضاد ظاءً مُشَالَة، ونطق القاف همزة، ولذلك نصَّ الشافعية على أن مَن قرأ الفاتحة في الصلاة وقال: "ولا الظالين" بدلا مِن: {وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 7]، أو "المستئيم" بدلًا مِن: {ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، لم تصح منه هذه الكلمات؛ وبالتالي الفاتحة، وبطلت صلاته إن كان عامدًا عالمًا بالبطلان. وإن لم يتغيَّر المعنى بالتحريف، فلا أثر لهذا التحريف، ولذلك نَصُّوا على صحة صلاة مَن قرأ بالواو بدل الياء مِن {ٱلۡعَٰلَمِينَ} في الفاتحة. (راجع: حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم الغزي لمتن أبي شجاع 1/ 155، ط. عيسى الحلبي، وحاشية الرملي على أسنى المطالب 1/ 151، وحاشية البجيرمي على الإقناع 2/ 25، دار الفكر).

أما إذا حُرِّفت ولم تدل على أي معنًى، فإنها تصير كاللفظ المهمل لا المستعمَل؛ لأن الكلام العربي المستعمَل هو ما وضعته العرب ليدل على معنى معيَّن، وله قوانين لا يجوز تغييرها، ومتى غُيِّر ولم يدل على معنًى حُكِم عليه بأنه ليس بعربي، فصار مهملا، وقد اتفقوا على أن المهمل لم تضعه العرب قطعًا (انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار ص35، ط. مطبعة السنة المحمدية)، ومِن ثمَّ فإذا حُرِّفت الكلمة وخرجت عن نطاق الوضع العربي -كما في "تالق، وطالئ" ونحوهما- لم يَجْرِ عليها ما يجري على لفظ الطلاق الصريح وهو لفظ "طالق" ونحوه؛ لمخالفتها قوانين الكلام العربي، ولكونها لم توضع مِن العرب أصالة للدلالة على معنى الطلاق، فإنه إنما يُستدل على صريحية الكلمة في الطلاق بورودها شرعًا أو لغة مؤدية للمعنى الموضوع لها لا غير، فإذا لم تكن كذلك فقد دخل دلالتَها مِن الاحتمال ما يُخرجها عن الصريح إلى الكناية.

فإذا أُبدلت الطاء في لفظ الطلاق تاءً مثناة فقال الزوج: "أنت تالق"، لم يقع الطلاق إلا بالنية، قال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (3/ 280، ط. دار الفكر): "ولو أتى بالتاء المثناة من فوق بدل الطاء كأن يقول: "أنت تالق" كانت كناية كما أفاده شيخي -يعني: الشهاب الرملي- قال: سواء كانت لغتُه كذلك أم لا". اهـ.

وقال العلامة القليوبي في حاشيته على شرح "المنهاج" (3/ 325، ط. دار الفكر): "وإبدال الطاء مثناةً كنايةٌ على المعتمد ولو لمن هي لغته". اهـ.

وقد صنف الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي رسالته المشهورة "فتح المغالق من أنت تالق" -وهي مطبوعة ضمن كتابه "الحاوي للفتاوي"- ليثبت أن تغيير الطاء في كلمة الطلاق إلى تاء يخرجها من حد الصريح إلى الكناية، وأن ذلك هو مذهب الشافعية.

ومعلوم أن التاء والطاء مشتركان في المخرج وبعض الصفات؛ قال الشيخ محمد مكي نصر في "نهاية القول المفيد" (ص: 89، ط. مكتبة الصفا) في الفصل الثالث في بيان الفرق بين الحروف المشتركة في المخرج والصفة: "والطاء والدال المهملتان والتاء المثناة الفوقية اشتركت في المخرج والشدة وانفردت الطاء بالإطباق والاستعلاء والتفخيم؛ فلولا هذه الثلاثة لكانت دالا، ولولا أضدادها في التاء لكانت طاء، ولو أُعْطِيَت الطاء همسًا مع بقاء الإطباق والاستعلاء والتفخيم لا تصير حرفًا معتدًّا به بل هو لحن، وتنفرد الدال عن التاء بالجهر فقط؛ فلولا الجهر لكانت تاء، ولولا الهمس في التاء لكانت دالا، فالطاء أقرب إلى الدال منها إلى التاء بدون العكس؛ لأن الدال أقرب إلى التاء وبالعكس". اهـ.

ومعلوم أيضًا أن القاف لهوية وأن الهمزة من حروف الحلق؛ فالقاف تخرج من المخرج الخامس ما بين أقصى اللسان يعني أبعده مما يلي الحلق وما يحاذيه من الحنك الأعلى، أما الهمزة فمخرجها المخرج الثاني وهو أقصى الحلق (راجع: نهاية القول المفيد ص54- 55).

وعليه فإذا كانت "تالق" تُخرج الكلمة من نطاق الصريح الذي ورد في اللغة العربية أو جاء في القرآن الكريم -وهما ما يستدل به على الصريحية كما سبق ذكره- فمن باب أولى أن كلمة "طالِئ" بالهمزة تُخرج الكلمة من الصريح إلى الكناية كذلك، وسبب الأولوية: أن التاء والطاء مشتركان في المخرج وبعض الصفات، وأن الهمزة والقاف مختلفان في المخرج، وهو حـق الحرف، فكان ذلك اللفظ –أعني ما بالهمزة– أولى في خروجه عن الصريح من "تالق".

الدليل السابع: أننا نقول: إن اللغات توقيفية، وواضعها هو الله سبحانه وتعالى، كما هو الراجح عند أهل أصول اللغة وأصول الفقه (راجع: المزهر للسيوطي 1/ 12 وما بعدها، ط. دار الكتب العلمية، وشرح الأصفهاني على مختصر ابن الحاجب 1/ 150، ط. جامعة أم القرى، والإحكام للآمدي 1/ 101- 107، ط. دار الصميعي)، وما دامت ألفاظ الطلاق المحرَّفة لم توضع لصريح الطلاق فإنها تكون مِن الكنايات التي يُحتاج في إيقاعها إلى النية.

قال الإمام الإسنوي في "التمهيد" (ص137- 139، ط. مؤسسة الرسالة): "ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أن اللغات توقيفية، ومعناه أن الله تعالى وضعها ووقَّفنا عليها، أي: أعلمنا بها، واختاره ابنُ الحاجب وصاحبُ المحصول في الكلام على القياس في اللغات. وقال الآمدي: إنه الحق، وذهب أبو هاشم إلى أنها اصطلاحية. وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: الألفاظ التي يقع بها التنبيه إلى الاصطلاح توقيفية والباقي محتمل. وفي المحصول قول رابع: أن ابتداء اللغات اصطلاحي والباقي محتمل. وتوقَّف القاضي أبو بكر في المسألة، ونقله في المحصول عن جمهور المحققين. وذهب عبَّاد بن سليمان وطائفة إلى أن الألفاظ لا تحتاج إلى وضع، بل تدل بذاتها؛ لما بينها وبين معانيها مِن المناسبة، كذا نقله في المحصول. ومقتضى كلام الآمدي في النقل عنه أن المناسبة مشروطة لكن لا بد مِن الوضع. إذا علمت ذلك فمن فروع المسألة: إذا قال لزوجته: "أنت عليَّ حرام"، أو قال: "حلال الله عليَّ حرام"، أو "الحرام يلزمني"، ونحو ذلك، فهل هو صريح أو كناية؟ فيه وجهان: صحَّح الرافعي الأول، والنووي الثاني، فإن قلنا: اللغات اصطلاحية: كفى اشتهارُها في العرف والاستعمال العام عن النية، فتكون صريحة، وهو ما صحَّحه الرافعي. وإن قلنا: إنها توقيفية، فلا تخرج عن وضعها، بل تُستعمَل في غيره على سبيل التجوز، فإن نوى وقع، وإلا فلا، وهو الصحيح عند النووي". اهـ.

الدليل الثامن: أن العبرة في باب الطلاق بالألفاظ والمباني لا بالمقاصد والمعاني، وهذا يظهر مِن اختيار فقهاء الشافعية لألفاظ الطلاق الصريحة، فأثبتوا لفظ "الطلاق" بلا خلاف، و"الفراق" و"السراح" على خلاف فيه، واختلفوا في وقوعه فيهما بالاسم؛ لأن النص ورد فيهما بالفعل؛ يقول الجلال المحلي في شرحه للمنهاج (3/ 325): "ويقع" الطلاق "بصريحه بلا نية وبكناية بنية"، والكناية ما تحتمل معنى الصريح وغيره، "فصريحه: الطلاق" لاشتهاره فيه لغة وشرعًا، "وكذا الفراق والسراح على المشهور" لورودهما في القرآن بمعناه؛ قال تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا} [الأحزاب: 49]، وقال: {أَوۡ فَارِقُوهُنَّ بِمَعۡرُوفٖ} [الطلاق: 2]، والثاني: أنهما كنايتان؛ لأنهما لم يشتهرا اشتهار الطلاق، ويستعملان فيه وفي غيره، ومثال لفظ الطلاق: "كطلقتك، وأنت طالق، ومُطَلّقة" بفتح الطاء "ويا طالق، لا أنت طلاق، والطلاق في الأصح"؛ لأن المصادر إنما تستعمل في الأعيان توسعًا، فيكونان كنايتين. والثاني: أنهما صريحان؛ كقوله: يا طالق، ويُقاس بما ذُكر: فارقتك، وسرحتك، فهما صريحان، وأنت مفارقة ومسرحة ويا مفارقة ويا مسرحة، فهي صريحة، وقيل: كناية؛ لأن الوارد في القرآن مِن اللفظين الفعل دون الاسم، بخلاف الطلاق، قال تعالى: {وَٱلۡمُطَلَّقَٰتُ يَتَرَبَّصۡنَ} [البقرة: 228]، وأنت فراق والفراق وسراح والسراح؛ فهي كنايات في الأصح". اهـ.

ففي هذا إشارة إلى أن العبرة في هذا الباب بالألفاظ والمباني لا بالمقاصد والمعاني. وقد صرح غير واحد منهم أن الطلاق محمول على اللغة، بخلاف الأيمان؛ فمحمولة على العرف. (انظر: حاشية البيجوري الفقهية 2/ 405، وحاشية الجمل على شرح المنهج 5/ 309، ط. دار الفكر، وحاشية البجيرمي على شرح المنهج 4/ 328، ط. دار الفكر العربي).

وكما أن مدار انعقاد النكاح على الألفاظ فالعبرة في حل قيده أيضًا تكون بالألفاظ، ولما كان قول القائل لزوجته: "أنت طالق" مما يُحَلُّ به عقد النكاح، كان الاعتماد في إمضاء هذا الحل على اللفظ لا على المعنى، وتحريفُ اللفظِ للفظٍ آخر لا تعرفه العربية إخراجٌ له عن أصله، ومِن ثَم لا يُعتمَد حل العقد به إلا إذا نوى به طلاقًا، فتكون نيته قرينة على إرادته حل العقد؛ إذ العبرة بالألفاظ الموضوعة في العربية، ولفظة "طالئ" ليست موضوعة في العربية للدلالة على حل العقد صراحة، وإنما تحتاج إلى اقتران نية المُطَلِّق معها للقول بوقوع الطلاق.

وقد ذكر الإمام السيوطي في شرحه لهذه القاعدة في "الأشباه والنظائر" (ص166) فروعًا متعددة: منها: "لو قال: أسلمتُ إليك هذا الثوب في هذا العبد. فليس بسَلَم قطعًا, ولا ينعقد بيعًا على الأظهر؛ لاختلال اللفظ. والثاني: نعم؛ نظرًا إلى المعنى"..

وفي هذا الفرع نرى أنه قد نطق بلفظ السلم صحيحًا مِن حيث اللغة، ولكنه أخطأ مِن حيث الشرع؛ لأنه أراد غير معناه الذي وضع له في الحقيقة الشرعية، فلم يعتبروا ما يؤدي إليه معنى اللفظ باتفاق، ثم اختلفوا في اعتبار المعنى: هل يصير بيعًا أم لا؟ فأشبه هذا ما لو نطق بلفظ الطلاق محرَّفًا على غير ما وضع له في اللغة كقوله: "أنت طالئ"، فمِن باب أولى ألا نقطع بدلالة هذا اللفظ على الطلاق شرعًا إلا بقرينة، وذلك لا يُعرَف إلا بسؤال المتلفظ به عن نيته.

وبعد بيان الأدلة على دعوانا، فإنه ينبغي التنبيه على أمرين: الأول: في موضع النية من التلفظ بالكناية؛ فإنها تكون مقترنة باللفظ الكنائي، فإن تَلَفَّظَ بالكناية من غير نية ثم نوى بها بعد ذلك لم يقع بها طلاق. قال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (6/ 32): "فصل: الكناية لا تعمل بنفسها، بل لا بد فيها من نية الطلاق، وتقترن النية باللفظ، فلو تقدمت ثم تلفظ بلا نية، أو فرغ من اللفظ ثم نوى، لم تطلق".

وقال الإمام ابن قدامة في "المغني" (7/ 306): "فصل: فأما غير الصريح; فلا يقع الطلاق به إلا بنية, أو دلالة حال... ولنا: أن هذه كناية لم تعرف بإرادة الطلاق بها, ولا اختصت به, فلم يقع الطلاق بها بمجرد اللفظ, كسائر الكنايات, وإذا ثبت اعتبار النية, فإنها تعتبر مقارنة للفظ, فإن وجدت في ابتدائه, وعَرِيَتْ عنه في سائره, وقع الطلاق... ولنا: أن ما تعتبر له النية يكتفي فيه بوجودها في أوله؛ كالصلاة وسائر العبادات, فأما إن تلفظ بالكناية غير ناوٍ, ثم نوى بها بعد ذلك, لم يقع بها الطلاق, وكما لو نوى الطهارة بالغسل بعد فراغه منه"..

الثاني: أن ما قررناه من أن تحريف كلمة الطلاق يجعلها كناية، لا يتناول ما إذا نطق القاف في كلمة الطلاق قافًا معقودة، كما عليه أهل صعيد مصر وغيرهم.

والقاف المعقودة: هي التي ليست بقاف خالصة ولا بكاف خالصة، بل هي متوسطة في النطق بين القاف والكاف، وهي الجيم المصرية، مثاله: أن تُنطَق كلمة: معقول: معجول.

ونُطْقُ القاف الخالصة قافًا معقودة عربي خالص، وهو لغة بني تميم؛ قال الإمام اللُّغَوي أبو الحسين أحمد بن فارس القزويني في كتابه: "الصاحبي في فقه اللغة" (ص25، ط. المكتبة السلفية): "فأما بنو تميم: فإنهم يُلحِقون القاف باللَّهاة حتى تَغْلظ جدا؛ فيقولون: "القوم"، فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر: ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت .. ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفولُ

ونَصَّ علماء الشافعية على صحة الفاتحة إذا قرأ: {ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} فيها بالقاف المعقودة؛ بناء على أنها عربية صحيحة؛ قال الإمام جمال الدين الإسنوي في "الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على المسائل النحوية" (ص480، 481، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية): "مسألة: إبدال الهاء من الحاء لغة قليلة، وكذلك إبدال الكاف من القاف... أما الثاني -أي: إبدال الكاف من القاف-: فمن فروعه: إذا قرأ: {ٱلۡمُسۡتَقِيمَ} بالقاف المعقودة المشبهة للكاف، وهي قاف العرب، أي: التي ينطقون بها، فإنها تصح أيضًا كما ذكره الشيخ نصر المقدسي في كتابه المسمى بالمقصود والروياني في الحلية وجزم به ابن الرفعة في الكفاية ونقله النووي في شرح المهذب عن الروياني ثم قال: وفيه نظر. ومال المحب الطبري في شرح التنبيه إلى البطلان، لكن اللحن الذي في الفاتحة لا يمنع الصحة إذا كان لا يختل المعنى كما جزم به الرافعي وإن كان حرامًا كما قاله النووي في شرح المهذب، وحكى فيه وجهًا أن الصلاة لا تصح أيضًا، وحينئذ فالصحة في أمثال هذه الأمور لأجل وروده في اللغة". اهـ.

قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح المنهج" (1/ 346، ط. دار الفكر، مع حاشية الجمل): "ويجب رعاية حروفها -أي: الفاتحة-" فلو أتى قادر أو من أمكنه التعليم بدل حرف منها بآخر لم تصح قراءته لتلك الكلمة؛ لتغييره النظم، ولو نطق بقاف العرب المترددة بين القاف والكاف صحت، كما جزم به الروياني وغيره"، قال العلامة الجمل في حاشيته عليه (1/ 346): "المراد بالعرب: أجلافهم, وأما الفصحاء منهم فلا ينطقون بذلك...، وقوله: "صحت" أي: ولو كان قادرًا على القاف الخالصة، ووجه الصحة حينئذ: أن ذلك ليس بإبدال حرف، بل هي قاف غير خالصة".

وذكر العلامة الرملي في نهاية المحتاج (1/ 481): "ولو نطق بالقاف مترددة بينها وبين الكاف كما ينطق بها بعض العرب صح مع الكراهة، كما جزم به الشيخ نصر المقدسي والروياني وابن الرفعة في الكفاية، وإن نظر فيه في المجموع". اهـ.

وبناء على ما سبق: فلو قال رجل لامرأته: "أنت طالق" بالقاف المعقودة؛ بحيث يكون نطقها: "أنت طالج" كان هذا طلاقًا صحيحًا صريحًا، ولا يكون مِن باب الكناية، ولا يسأل فيه عن النية؛ لأن نطق القاف الخالصة قافًا معقودة نطق عربي لا عُجْمَة فيه كما سبق، وبهذا يفترق نطق القاف الخالصة قافًا معقودة عن نطقها همزة.

وهذا الفرع بخصوصه قد نص عليه أئمة الشافعية في كتبهم: قال الإمام السيوطي في رسالته: "فتح المغالق من أنت تالق" (1/ 253): "فرع: ولو قال: أنت طالق -بالقاف المعقودة قريبة من الكاف كما يلفظ بها العرب- فلا شك في الوقوع"، وما قاله السيوطي هو ما نَصّ عليه أيضًا الشيخ الشبرامَلِّسي في حاشيته على نهاية المحتاج (6/ 429)، والشيخ عبد الحميد الشَّرواني في حواشيه على تحفة المحتاج (8/ 4).

أما السؤال عمن اعتبر من الفقهاء السابقين أن كلمة "طالئ" هي من الكنايات المفتقرة إلى النية: فقد ذكر فقهاء الشافعية في مصنفاتهم صورًا عديدة للتحريف، وبيَّنوا أنها ليست صريحة في الطلاق، وعَلَّلوها بِعِلَّة تجعل كلمة "طالئ" أولى في الحكم عليها بالكناية مما ذكروه -كما سبق بيانه-، والفتوى في النهاية مرتبطة بالواقع، وليست حكمًا شرعيًّا مُجَرَّدًا، بل هي جمعٌ بين حُكم شرعي وصورة لواقع يتعلق به هذا الحكم في ذهن المجتهد أو المفتي فينتج الفتوى، فالحكم غير الفتوى، بل هو أحد عناصرها، وهو منضبط لا يتغيَّر، والفتوى قد تتغير بتغيُّر مُتَعَلَّق الحُكم -وهو الواقع- إذا تغيرت جهة من جهاته الأربع: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال؛ فقد تَجِدُّ أمورٌ لم تكن في العصور الأولى، ثم تكون في العصور التالية، كما هو الواقع في كثير من قضايا الفقه الإسلامي، وهذا يكون لتغير الأحوال في الأمصار المترامية الأطراف، وهذا مقرر معلوم، وكون هذه الكلمة لم تُذكَر بخصوصها في كنايات الطلاق لا حجة فيه على أنها ليست كذلك؛ فعدم الذِّكْر لا يصح دليلا على المنع، خاصة وأن إدراك علل المسائل المنصوص عليها وبناء المسائل المستجدة عليها هو لباب الفقه؛ فالأحكام الشرعية تدور مع عللها وجودًا وعدمًا، والمفتي يقوم بهذا الدور في هذه المسألة وغيرها.

ورد الإمام السيوطي على من أنكر كون كلمة "تالق" كناية بكونها لم ترد في كنايات الطلاق المذكورة في كتب الفقه بأن هذا لا يستلزم عدم كنائيتها، لأن كنايات الطلاق غير محصورة، والفقهاء لم يشترطوا حصرها في كتبهم عند ذكرهم لأمثلتها، فقال في "فتح المغالق" (1/ 205): "فإن نظر ناظر إلى أن الفقهاء لم ينبهوا على هذا اللفظ في كتبهم، قلنا: الفقهاء لم يستوفوا كل الكنايات، بل عددوا منها جُمَلا، ثم أشاروا إلى ما لم يذكروه بضابط، وقد استنبط البلقيني من حديث قول إبراهيم لامرأة ابنه إسماعيل عليهما السلام: "قولي يغير عتبة بابه"، أن هذه اللفظة من كنايات الطلاق، ولم ينص على هذه اللفظة أحد قبله، ولعل الفقهاء إنما سكتوا عن التعرض للفظة "تالق" لكونها لم تقع في زمنهم، وإنما حدث ذلك في ألسنة العامّة من المتأخرين"..

فلا وجه لانتقاد هذه دون غيرها من المسائل، وإذا اقتصر دور المفتي على المنصوص فقط فمَن يتصدى مِن الأمة للنوازل والمسائل المستجدة؟! يضاف إلى ذلك أن عدم ذكر الفقهاء لهذه الكلمة بخصوصها يعلَّل بكونها مرتبطة بعرف سائد الآن في كلام الناس لم يكن موجودًا في عصرهم، كما سبقت الإشارة إليه في كلام الحافظ السيوطي.

قال العلامة محمد أمين الشهير بابن عابدين الشامي في "شرح منظومة عقود رسم المفتي" (1/ 47 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي): "جمود المفتي أو القاضي على ظاهر المنقول مع ترك العرف والقرائن الواضحة والجهل بأحوال الناس يلزم منه تضييع حقوق كثيرة وظلم خلق كثيرين".

وكثير من الفروع الخلافية بين أبي حنيفة وأصحابه يصف أئمة الحنفية الخلاف فيها بأنه: "اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم وبيان" لهذا المعنى الذي ذكرناه. (انظر مثلا: المبسوط للسرخسي 8/ 178، ط. دار المعرفة، بدائع الصنائع 6/ 31، ط. دار الكتب العلمية، تبيين الحقائق 1/ 43، ط. دار الكتاب الإسلامي، البحر الرائق 4/ 351، ط. دار الكتاب الإسلامي).

أما دعوى أنه لا يوجد الآن أحد ممن يتلفظ بلفظ: "طالئ" إلا ويعلم أنها تفيد الطلاق، وأن هذا قرينة على أنه إذا تلفظ بها فإنما يقصد إيقاع الطلاق، فهي دعوى غير سديدة.

وجوابها: أن هناك فارقًا بين العلم بمعنى اللفظ وبين إرادة إيقاعه، ودعوى أن كل مَن يتلفظ بهذه الألفاظ المحرَّفة إنما يقصد بها إيقاع الطلاق هي محض مجازفة؛ بل من واقع الخبرة الطويلة لدار الإفتاء المصرية في فتاوى الطلاق فإن أغلبية مَن يتلفظ بهذا اللفظ المحرَّف على زوجته –أي: طالئ- إنما يقصد تهديدها أو تأديبها أو زجرها أو إسكاتها أو النكاية فيها، ولا يقصد الطلاق الذي هو بمعنى انفصام العلاقة الزوجية حالًا أو مآلًا.

فإن قيل: إن هؤلاء المذكورين إنما ادَّعَوا ذلك تَخَلُّصًا مِن تبعات فعلهم وتحايُلا لإبقاء العلاقة الزوجية. فالجواب: أن هذا سوءُ ظنٍّ بالمسلمين ورميٌ لهم بالباطل تخرصًا مِن غير بينة ولا برهان؛ وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞ} [الحجرات: 12]، وفي هذا نهي للمؤمنين عن كثير مِن الظن، وهو التهمة والتخوُّن للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فيُجتنب كثيرٌ منه احتياطًا (تفسير ابن كثير 7/ 377، ط. دار طيبة). وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ».

ولو سلَّمنا بعمومية إفادة الألفاظ المحرَّفة لمعنى الطلاق، فلا يلزم مِن هذا أن كل مَن يتلفظ بها تتوجه نيته وقصده لإيقاع الطلاق، بدليل الواقع الذي ذكرناه، والواقع لا يرتفع، ويُتصور أيضًا أن يفعل هذا فقيه يَعْلم الحكم مِن كون هذه الألفاظ المحرَّفة كناية، ويقولها لزوجته قاصدًا إرعابها وتقويمها إذا اعوجَّت ونشزت عليه، دون أن يقصد التطليق. فدعوى أن أغلب الناس يقصدون الطلاق عند التلفظ بهذه الألفاظ وأن مَن لا يقصد داخل في حد النادر الذي لا حُكمَ له دعوى مردودة لا اعتبار بها، وعلى التسليم الجدلي بها فإنها تُرَدُّ بقاعدة: "تعارض الأصل والغالب"، والضابط فيها: أن الغالب إنما يرجَّح على الأصل إذا كان مستندًا لسبب قوي منضبط، أما إذا كان ما يعارض الأصل مستنده احتمال مجرَّد أو يستند لسبب ضعيف، فحينئذ يترجَّح الأصل (انظر: المنثور للزركشي 1/ 311- 330، والأشباه والنظائر للسيوطي ص64- 68)؛ والأصل هنا في مسألتنا هو عدمُ القصد الموافق لبقاء النكاح، والغالب المدَّعى هو حصول القصد الناقل عن هذا الأصل، وهذا الغالب المدَّعى لا يخرج عن أن يكون مجرد احتمال لا يسنده واقع أو استقراء، أو هو احتمال مستَنِد لسبب ضعيف، فلا يقوى على تغيير استصحاب الأصل.

أما القول بأن اشتهار لفظٍ في الطلاق يجعله صريحًا، وقد اشتهر في أهل مصر هذا اللفظ في الطلاق، فيكون مِن باب الصَّريح لا من باب الكناية: فقد تقدم الجواب عنه، وأن جعل الاشتهار موجبًا للصريحية في الطلاق فيه خلاف بين الشافعية على ثلاثة أوجه حكاها النووي في الروضة ورجح أنه كناية مطلقًا، ونقل القطع به عن الشافعية العراقيين، وهو المفتى به في المذهب.

ومسألة الطلاق بغير العربية -المذكورة في السؤال- قد ورد فيها وجهان عند فقهاء الشافعية؛ الأول: أنه صريح إذا كان اللفظ موضوعًا للطلاق بخصوصه في لغة غير العرب، وبشرط أن يشتهر استعماله في تلك اللغة اشتهار الصريح عند أهل العربية. والثاني: أنه كناية قصرًا للصريح على العربي فحسب.

قال الإمام النووي في الروضة (8/ 25): "ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية وسائر اللغات صريح على المذهب؛ لشهرة استعمالها في معناها عند أهل تلك اللغات، كشهرة العربية عند أهلها، وقيل: وجهان. ثانيهما: أنها كناية".

وعلى كلا الوجهين، فإن "طالئ" ونحوها خارج عن باب الصريح إلى الكناية، لأنه ليس بوضع عربي ولا غير عربي، وإنما يبقى في دائرة الكناية؛ لاشتهار الاستعمال عند العامة، ولشبهه بالظواهر اللغوية العربية مِن إبدال بعض الحروف ببعضها.

أما الاعتراض بأن الأصل في الأبضاع هو الاحتياط، وهذا يقتضي أن يحتاط المفتي في مثل واقعة السؤال ويفتي بالطلاق، فهو ممنوع؛ بل مقتضى الاحتياط: هو الإفتاء بعدم الوقوع بشرطه؛ حيث إن الاحتياط في مسائل الفروج مقتضٍ للإبقاء على الزوجية لا إنهائها كما ورد بالسؤال؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان (الأشباه والنظائر ص51)، والنكاح المُتَيقَّن لا يزال إلا بيقين مثله.

وهذا هو ما عَلَّل به الإمام أحمد عدم وقوع طلاق السكران، فقال في رواية أبي طالب: "والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة, والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حرمها عليه, وأحلها لغيره, فهذا خير من هذا" اهـ من "إعلام الموقعين" (4/ 39، ط. دار الكتب العلمية). فكذلك هنا؛ فإن من يوقع الطلاق قد أتى بهاتين الخصلتين، ومن لم يوقعه لم يأت إلا بخصلة واحدة.

قال الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه: "الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس" (ص 26، ط. دار عمار): "النكاح الـمُتَيقَّن لا يزال إلا بيقين مثله مِن كتاب أو سنة أو إجماع مُتَيقَّن، فإذا وجد واحد مِن هذه الثلاثة رفع حكم النكاح به، ولا سبيل إلى رفعه بغير ذلك؛ وذلك لأن الفروج يجب الاحتياط لها؛ أي أن الفرض هو أن يبقى الزوجان على يقين النكاح الذي سماه الله تعالى عقدة النكاح حتى ما يُزيله بيقين. وكيف يرتكب تحريم الفروج على مَن كانت حلالا له بيقين ولا تحل لغيره إلا بيقين؟!". اهـ.

وأما القول بأن الفتوى بذلك من التساهل الممقوت، وأنه أَخذٌ بالشاذ من الفتاوى فغير سديد؛ لأن التساهل في الفتوى معناه: أن يعجل المفتي فيفتي من غير نظر، أو بغير استجماع للمصادر، أو أن يبادر إلى الفتوى لِهوًى في نفسه، لكن الفتوى من المتأهل بعد استجماع الأدلة والنظر في المقاصد هي من باب الاجتهاد المأجور فاعله.

قال الإمام النووي في "المجموع" (1/ 79، 80): "يحرم التساهل في الفتوى, ومن عرف به حَرُم استفتاؤه, فمن التساهل: أن لا يتثبت, ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر, فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة, وعلى هذا يُحمَل ما نُقِل عن الماضين من مبادرة. ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة, والتمسك بالشُّبَه؛ طلبًا للترخيص لمن يروم نفعه, أو التغليظ على من يريد ضره, وأما من صَحَّ قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها, لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا". اهـ.

والفتوى بالأخف ليست بالضرورة من التساهل في الفتوى؛ لأن هذا الأخف قد يكون هو المترجِّح لدى المفتي، أو هو الأليق بحال المستفتي، كما قال سفيان الثوري: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيُحسِنه كلُّ أَحَد". (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/ 784، ط. دار ابن الجوزي).

والحكم على فتوى معينة بالشذوذ لا يكون بمجرد التذوق والتشهي، بل إن له ضوابط وأسبابًا؛ منها: أن يكون القول مخالفًا للإجماع؛ قال الإمام الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 434، ط. دار الكتبي): "الخلاف الثاني لا اعتبار له... وهكذا يقول الحنفية في الخلاف في الشاذ: إنه لا خلاف ولا اختلاف. يعنون بذلك أنه إنما يعتبر الخلاف المشهور القريب المأخذ بخلاف الشاذ البعيد, فهو خلاف لأهل الحق".

ومنها: أن تكون المسألة مما لم يُعلَم فيها خلاف، ولكن لم يُدَّع فيها الإجماع، فيأتي القول ليقرر حُكمًا مغايرًا للسابق الذي لم يعلم فيه خلاف؛ قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في فتاويه (2/ 19، ط. دار المعارف) -عند كلامه على قضاءٍ مخالفٍ لشرطِ الواقف-: "وهو مخالفٌ لما علمناه من المذاهب الأربعة، وما لم نعلم فيه خلافًا فهو كالمخالف للإجماع، وإن ثبت فيه خلافٌ فيكون شاذًّا، والخلاف الشاذ لا اعتبار به، كما أن الاحتمال البعيد لا يُخْرِجُ النصَّ عن كونه نصًّا".

ومنها: أن يكون لا دليل عليه، والعمل بما لا دليل عليه تَحَكُّم؛ إذ إن فيه ترجيحًا لجانب الفعل على جانب الترك أو لجانب الترك على جانب الفعل بلا مرجِّح معتبر، والترجيح بلا مُرَجِّح باطل. (انظر: التوضيح لصدر الشريعة مع شرح التلويح 1/ 352، ط. مكتبة صبيح).وقال العلامة القرافي في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" (ص225، ط. مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب): "الفتيا بغير مستند باطلة إجماعًا، وحرام على قائلها ومعتقدها". .

ومنها: أن يكون القول مبنيًّا على مُدرَك ضعيف، قال القرافي في "الفروق" (4/ 51): "الخلاف الشاذ المبني على المُدرَك الضعيف لا يرفع الخلاف، بل يُنقَض في نفسه إذا حُكِم بالفتوى المبنية على المُدرَك"..

وعليه فالفتوى بذلك -وهو ما عليه دار الإفتاء المصرية- لا يَصدُق عليه أبدًا أنه من شاذ الفتاوى؛ لأنه لا ينطبق عليه أيُّ شيء مما ذُكِر.

وأما القول بأنه ليس كل تيسير على الناس يكون صحيحًا؛ بل لا بد أن يكون للتيسير حظ من النظر السليم والفقه الصحيح، بدليل أن هناك من الأقوال في باب الطلاق ما لا يُؤخذ به مع كونه أيسر على الناس، فجوابه: أن هذا الكلام صحيح في نفسه، وقد بينا من الدلائل الفقهية والمستندات الشرعية ما يثبت صحة هذه الفتوى وقوة مأخذها، كما أن الرفق بالناس والتيسير عليهم والرحمة بهم لم تكن يومًا مدعاة للذم أو سببًا للوم، بل هي قِيَمٌ لا ينبغي أن تزيغ عن عين المفتي، ما دامت منضبطة مع قواعد الفتوى والفقه؛ فما كان أرفق بالناس فالفتوى به أولى; لأن الحرج مدفوع شرعًا، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ} [الحج: 78].

والفتوى بهذا القول الذي اخترناه لا شك أنها أرفق بحال أفراد الأسرة، خصوصًا المرأة والأولاد، وفيه مراعاة لتغير أحوال أهل الزمان في الاستهانة بالتلفظ بألفاظ الطلاق غير ملتفتين لما يترتب على ذلك شرعًا، والعرف والزمان معتبران في الفتوى قطعًا.

يقول ابن عابدين في رسالته "نشر العَرْف في بناء بعض الأحكام على العُرْف" (ضمن مجموع الرسائل 2/ 125): "قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس؛ فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان؛ بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن إحكام"..

وإرادة التيسير قد تتعارض مع ما هو أرجح منها من المصالح تارة ومن المفاسد تارة أخرى. ينضاف إليه أن تتبع الأهون في كل مذهب قد ذهب كثير من العلماء إلى ذمه والمنع منه؛ قال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله". (انظر: حلية الأولياء 3/ 32، ط. السعادة)، وأطلق الإمام أحمد أنه لو عمل رجل بكل رخصة كان فاسقًا (انظر: البحر المحيط 8/ 382).

وما يختاره المفتي للفتوى يكون له أسباب متنوعة، منها:

أن يكون سبب اختياره أنه الراجح في رأيه واجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، والعمل بالراجح واجب. (جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية العطار 2/ 404، ط. دار الكتب العلمية).

أو أن يكون هو الراجح في مذهبه إن كان المفتي لم يبلغ رتبة الاجتهاد. (شرح منظومة عقود رسم المفتي -ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين- 1/ 11- 13).

أو أن تتكافأ الأدلة فيجنح المفتي للأيسر، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر قط بين أمرين أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا».

قال الحافظ ابن عبد البر: "فيه أنه ينبغي ترك ما عَسُر من أمور الدنيا والآخرة, وترك الإلحاح فيه إذا لم يُضطر إليه, والميل إلى الأيسر أبدًا, وفي معناه الأخذ برُخَصِ الله عز وجل ورُخَصِ رسوله عليه الصلاة والسلام ورُخَصِ العلماء، ما لم يكن القول خطأ بَيِّنًا". اهـ. (بواسطة: طرح التثريب للعراقي 7/ 209، 210، ط. دار إحياء الكتب العربية).

وهذا المعنى قد أُثِر عن غير واحد من علماء السلف؛ فقال الإمام يحيى بن سلام: "ينبغي للعالم أن يحمل الناس على الرخصة والسعة ما لم يخف المأثَم". (التمهيد للحافظ ابن عبد البر 8/ 147، ط. وزارة الأوقاف المغربية).

وقال مَعمَر والثوري: "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد". (التمهيد لابن عبد البر 8/ 147، وجامع بيان العلم وفضله 1/ 785).

ومن الأسباب أيضًا: أن يكون المفتى به هو الأليق بحال المستفتي بحساب المصالح والمفاسد؛ قال العلامة ابن نجيم الحنفي في "الأشباه والنظائر" (1/ 338، مع شرح الحموي، ط. دار الكتب العلمية): "المفتي إنما يفتي بما يقع عنده من المصلحة". اهـ.

ومن هذا الباب: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، ثم سأله آخر، فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته, وأما الثاني فقد قتل وجاء يطلب المخرج فلم أقنطه. (أسنى المطالب 4/ 281).

ومن الأسباب: أن يكون سبب الإفتاء بقول معين هو عموم البلوى، بل قد أجاز العلماء للإنسان أن يقلد المذهب المخفِّف في حال الابتلاء والضرورة أو خوف الوقوع في المحرَّم، ولأَن يُقدمَ المرء على فعل ما له وجه جائز شرعًا خير له من أن تُغَلَّق أمامه كل الأبواب فلا يجد أمامه من سبيل إلا اقتحام المحرم، وقد كان له مندوحة بأن يقلد فيه من أجازه من العلماء.

جاء في متن أبي شجاع وشرحه لابن قاسم الغزي: "ولا يجوز" لغير ضرورة لرجل أو امرأة "استعمال" شيء مِن "أواني الذهب أو الفضة" لا في أكل ولا في شرب ولا غيرهما". اهـ.

قال شيخ الإسلام إبراهيم البيجوري في حاشيته عليه (1/ 40): "وعند الحنفية قول بجواز ظروف القهوة، وإن كان المعتمد عندهم الحرمة، فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك -كما يقع كثيرًا- تقليد ما تقدم؛ ليتخلص من الحرمة".