الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الأبوة الرخيصة وهلوسة العلماء


قبل ساعات تذكرت شخصية "الدكتور أحمد الأيوبي" التى جسدها الفنان الرائع لطفى لبيب فى فيلم "النوم فى العسل" للمؤلف وحيد حامد والمخرج شريف عرفة عام 1996 .

كان العبقري نظيم شعراوي يجسد شخصية "وزير الصحة"، فى مواجهة محاولة الفنان عادل إمام "العميد مجدى نور" الاستعانة بشهادة "الأيوبي" على ما آلت إليه صحة المصريين النفسية والجنسية، وهو المشهد المعبر باقتدار عن قوة ممثل الجهة الإدارية والتنفيذية "الوزير"، وقدرته على الإطاحة بوجهة نظر علمية فى تحليل ما أصاب شريحة واسعة من المواطنين من فتور فى علاقاتهم بعائلاتهم ونسائهم وحياتهم الاجتماعية، بشكل يهدد بتحولهم إلى كائنات لا تفرق فى بعض سلوكها عن الخنازير.

كان النفي القاطع لوجود مرض أشبه بحالة الخبل والهلوسة التى أصابت "الوزير" حين نصح المواطنين بالوقوف أمام المرآة واكتساب الثقة بترديد وتكرار عبارة "أنا جامد.. أنا حديد.. أنا زى الفل"، كطوق نجاة من وباء يتفشى بينهم بسرعة، ولم يكن مشهد الصراخ الأخير سوى نتيجة طبيعية لحالة الإحباط والاكتئاب الناتجة عن استمرار كذب المسؤولين وتلاعبهم بمصائر الناس.

24 سنة عادت بي الذاكرة لأستدعي مشاهد الفيلم وأنا أراجع سطور وكلمات الدكتور هشام ماجد الطبيب والاستشاري بمستشفى العباسية للأمراض النفسية، حول دراسة نشرت بمجلة علمية دولية تمت علي عينة من 40 ألف شخص لمدة 11 سنة متواصلة، قورنت خلالها الأوضاع الصحية والنفسية لآباء مطلقين حرموا حقهم فى رعاية ومعايشة أبنائهم، وآخرين حظي أبناؤهم بهذا الحق وانعكس تطبيقه بالضرورة على حياة آبائهم.

النتائج ينقلها الدكتور هشام ماجد عن الدراسة، وتشير إلى أن خطر الموت المبكر والإصابة بأمراض القلب والسرطان والاضطرابات النفسية والتوتر والاكتئاب، يهدد الآباء المطلقين المحرومين من رعاية أبنائهم، ثلاثة أضعاف الآباء المشاركين فى تربية أطفالهم بعد الطلاق.

وترجع تفسيرات أسباب الوفاة المبكرة إلى حالة اليأس وفقدان الأمل والشغف للحياة، وسوء التغذية الصحية والاعتماد علي الوجبات السريعة، والتأقلم الخطأ مع الحياة الجديدة بعد الطلاق، وزياده معدلات التدخين أو تعاطي الكحول أو المواد المخدرة للتغلب علي القلق والاكتئاب، والدخول في علاقات جنسية تمثل خطورة بنقل الأمراض والعدوي، بخلاف الضغط النفسي والعوامل الاجتماعية المعيشية ككثرة القضايا وقلة الدخل وعدم المقدرة علي تلبيه متطلبات الحياة، والوحدة وتفضيل العزلة وتجاهل طلب المساعدة الطبية.

ويعتبر "ماجد" أن تعديل قانون الأحوال الشخصية المصري الحالي ضرورة للحفاظ على حقوق الطفل فى الرعاية المشتركة بين الأبوين وصون "الأبوة" ذاتها كحق للطرف غير الحاضن، ويرى أن هذا الإصلاح التشريعي ضرورة  للحفاظ علي الصحة العامة لقطاع كبير من الشعب المصري، وزيادة الإنتاجية والدخل القومي، وحماية نسيج المجتمع المصري وترابطه، ويؤكد أن نظام رؤية أطفال الشقاق بين الأبوين داخل أسوار حالة غير آدمية تفتقد للتقدير للإنسان وتعدم فرص تربيته الشاملة واكتماله نفسيا.

تأملت رأي الدكتور "هشام" وتوقعت ردود أفعال ضده لن تقل عن إتهامه بالهلوسة، وهى استدعاء ما يسهل إنكاره بالضرورة فى مناخ تسوده أفكار لا تتنازل عنها شريحة واسعة، تحميها تشريعات لا تتفق مع غير عقول أصحابها حتى ظنوا أنفسهم أهل علم ودونهم جهلة حمقى.

كيف يفاجئ الطبيب النفسي المخضرم مجتمعه بحزمة أمراض كهذه وينشر مناخ تشاؤم بين أصحاب أبوة رخيصة يرهنها القانون بيد "حاضن"، ويتجاهل ثوابت صاحبات المكتسبات ولو على حساب العنصر البشري المطلوب فى خدمة وطن ومشروع قومي تدعمه توجهات نحو مستقبل خال من الصراع والشقاق؟

هل أدرك "ماجد" خطورة ما يقول على حقوق "السينجل مازر" والداعيات لقطع أرحام لا قطع غيار لها، أم أن أبحاثه ودراساته وغيره من العلماء فى دول العالم فى هذا الخصوص لم يضع أمام عينيه قبل ترويجها تصورا لموقف جديد للوزير "نظيم شعراوي"؟.

أراد "ماجد" أن يصيبنا بالأمل فى إصلاح تشريعي حينما ردد أسبابا تتعلق بضعف القدرة المادية للآباء المطلقين غير المشاركين فى تربية أبنائهم وتراجع قدراتهم الإنتاجية، لكنه يجدد مصابنا كلما نتأمل الملايين منهم يقفون أمام المحاكم فى عدة ملايين من الدعاوى القضائية التى تصيبهم بالقهر وتغير وجهات نظر بعضهم نحو أبنائهم، فيعتبرونهم نقمة لا نعمة، ويقررون أن صدقة جارية أو علم ينتفع به أضمن من اللهث وراء تحقيق هدف فى "ولد" قد لا يكون صالحا داعيا لهم، وقد أفضت تربية منفردة له إلى كراهية شديدة تجاههم.

خطورة أخرى على علاقات أسرية مهلهلة بسبب القانون ذاته، تجدها فى أحاديث جانبية لآباء مطلقين حرموا حقهم فى رعاية أبنائهم، وانقطعت صلاتهم بهم، تتجه نواياهم نحو فكرة عدم توريثهم أموالهم وممتلكاتهم، كى لا تنعم بها قاطعات للأرحام فيزداد كيد عائلاتهم، وما هو أشد وأكبر من ذلك نسمع عنه كل ساعة مع استمرار الحال على ما هو عليه.

لو أن تحريات "نفسية" فى قضايا الأسرة والرؤية، جرت على الرجل وغير الحاضن، كتحريات قضايا "النفقة"، لوجدنا عدلا فى تقدير مواقف آباء غير مشاركين في رعاية أبنائهم، و لعكست أحكام القضاء حقائق وأوضاع غير واردة بحيثياتها الآن، ربما ظلت أبحاث علمية مختلفة على أرفف المكتبات يكسوها التراب، وظل أصحاب الأبوة الرخيصة أقرب إلى الآخرة من حقوقهم فى رعاية وحماية أبنائهم.

إن نظاما قضائيا يعتمد "هيئة المحلفين" وتقارير الخبراء والفنيين فى تخصصات شتى، يضمن عدالة التقاضي ويحمي الحقوق كافة، ربما كانت قوانين الأحوال الشخصية بحاجة إلى اعتماده حتى نسمع وجهة نظر الدكتور هشام ماجد وزملائه، قبل أن تصيبنا تداعيات التشريعات بالهلوسة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط