قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

عيسى بيومي يكتب: الذكاء الاصطناعي ..تكنولوجيا تحجب أسرارها

المهندس عيسى بيومي
المهندس عيسى بيومي

أحدثت التكنولوجيا ثورة صناعية حولت مجرى التاريخ البشري حين استُبدلت قوة الإنسان البدنية بقوة الماكينات، فزخرت حضارته المادية بالإنتاج المتعدد والوفير في شتى أنشطة الحياة، وجعلت من التفوق الصناعي مقياسًا للتقدم وعنوانًا لتميز الأمم ورفعة شأنها. تغلغلت التكنولوجيا في كل لحظة زمن من عمر البشر وأي مكان من الأرض يعيشون فيه، إلا أن يكر المرء عائدًا إلى البراري والأحراش أو تبيد الحياة كما اعتدناها في زمننا الحاضر.

والآن تستطرد الماكينة في تعميق دورها واستكمال سيطرتها على مصير الإنسان بالسعي لاستبدال قوته العقلية باصطناع الذكاء، ما يُطلق عليه الذكاء الاصطناعي؛ به تتفوق الماكينات على عقول البشر وتتخطى حدود أدائهم، وربما يضفي ذلك عليها مفهومًا جديدًا للوعي والشعور يحملها لعصر ما بعد الإنسان، دون ضرورة لما يسمى الضمير وما يفرضه من قيود على أفعال البشر تلزمهم بفعل الصواب ونشدان الخير. 

ما الذي يعنيه الذكاء الاصطناعي وما هو مصدره ولماذا تُنفق البلايين للاستحواذ على تقنياته والسيطرة على صناعته وهل هو يحمل في طياته فعلًا طفرة وجودية لا يمكن تخيل ملامحها بعقولنا الحاضرة، أم أنه ينطوي على مصير محتوم بالفناء؟ وإذا كان الذكاء الاصطناعي بإمكانياته الغامضة يثير قلق المستبصرين بمستقبل الجنس البشري؛ ألا يستوجب ذلك وعيًا أخلاقيًا يشرع معايير تلزم واضعي برامجه من مهندسين وعلماء باتباعها؟ وهل يمكن لأبناء حضارة مادية صنعتها الثورة الصناعية وضع معايير تضاد جوهر تلك الحضارة وتقوضها؟ 

الذكاء البشري 

للذكاء مفاهيم متعددة، ونماذج الإنسان الذكي تختلف باختلاف المجتمعات والأزمنة والتطور الحضاري، فنموذج الإنسان الذكي عند الإغريق غيره عند الرومان أو المصريين القدماء أو الصينيين أو العرب.. لكن مفاهيم الذكاء وتعريفاته ترتبط جميعًا أو تشترط القدرات العقلية على التحليل والاستنتاج وتنسيق الأفكار وسرعة التعلم وقوة الذاكرة. ويشتمل تعريف الذكاء لدى بعض علماء النفس على المقدرة العاطفية أيضًا، وهو ما أعتبره صحيحًا، لأن الشعور جزء من المقدرة العقلية لا شك. 

معنى الذكاء الاصطناعي

المعلومات والبيانات هي محتوى التواصل والاتصال بين أفراد البشر ومجتمعاتهم منذ نضج وعي الإنسان فعرف لغة للتخاطب وتسجيل تجاربه، وبزغ في ذاته الشعور بالزمن فميز ماضيه من حاضره وترقب مستقبله مستعينًا بتحليله للأحداث وما تختزنه ذاكرته من معارف. فبدون الوعي والذاكرة واللغة يفقد الإنسان كنهه، وبدون معلومات يفقد كل شئ جدواه ومعناه.

ومنذ أدرك عقل الإنسان معنى العدد وابتكر الأعداد تطورت مقدرته على إجراء العمليات الحسابية فاخترع علوم الرياضيات من حساب وجبر ولوغاريتمات وهندسة، لتواكب تقدمه الحضاري وتؤسس لمنجزاته في شتى أنشطة حياته من تجارة وصناعة وزراعة وعمارة وغيرها. وكان من المنطقي أن يتفتق ذهنه عن وسائل ويبتدع أدوات لتيسر له عملياته الحسابية وتزيد من سرعتها وتضمن دقتها، مثل المحسبة اليدوية (abacus) التي استعملها البابليون والمصريون القدماء، والحاسب المتناظر الذي صممه الإغريق عام ١٠٠ ق.م ليحسب مواقع النجوم، والمسطرة الحاسبة التي اخُترعت في أوائل القرن السابع عشر بعد اكتشاف عالم الرياضيات الاسكتلندي جون نابير (١٥٥٠-١٦١٧) لمفهوم اللوغاريتم. وفي أوائل القرن التاسع عشر ابتكر عالم الرياضيات البريطاني تشارلس بابيج ماكينة حاسبة تستخدم الكروت المخرمة ولها ذاكرة مدمجة. ويرجع الفضل لعالم الرياضيات الإنجليزي آلان تورينج (١٩١٢-١٩٥٤) في إظهار إمكانية برمجة الماكينات بمفهوم الذكاء الاصطناعي وتعليم الآلة، ولهذا يُعتبر تورينج أبو الذكاء الاصطناعي. 

يرتبط الذكاء الاصطناعي إذن بماكينة نسميها الحاسب الآلي أو الكومبيوتر، يقوم بعمليات حسابية هائلة بسرعة دون كلل، يستخدم ما يتاح له من معلومات وبيانات ليحقق ما يكلفه به صانعه من مهام تتطلب عادة الذكاء البشري، لديه ذاكرة لا تضعف أو تنسى، وتلزمه لغة للتواصل مع عالمه الخارجي.

هناك أوصاف وتعريفات متعددة للذكاء الاصطناعي لكنها في مجملها تتحدث عن تكنولوجيا تهدف لابتكار قدرات حسابية وعقلانية تتفوق على مثيلاتها لدى البشر؛ تشمل التعلم من التجارب السابقة، وأداء المهام المعقدة، واكتشاف الأنماط من خلال تحليل كم هائل من البيانات والمعلومات المرقمنة، وبالتالي يمكنها التنبؤ بما قد ينجم من أحداث وتقديم الحلول والاقتراحات والتوصية بقرارات للتعامل معها ومواجهتها بطريقة موضوعية بحتة تعتمد على كم وجودة المعلومات المتاحة وقدرة آلاتها على الاستنتاج والتعلم. 

تطبيقات الذكاء الاصطناعي

إذا كانت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تهدف للتماثل ثم التفوق على الذكاء البشري فليس من المفاجئ أن تغمر تطبيقاتها العملية شتى الأنشطة التي يمارسها الإنسان، وتضحى أساسًا لطموحاته وما يخطط لإنجازه على هذا الكوكب وفي أعماق الفضاء. الاستخدام المتنامي لأنظمة الذكاء الاصطناعي يزيد من ميكنة الأفعال الإنسانية بخيرها وشرها ويحصر الإرادة في برامج ولوغاريتمات يكتبها ويصممها قلة من المتخصصين توجههم سياسات منفردة لبضع شركات  تخضع لنفس الأسس التي قامت عليها الثورة الصناعية من ربحية وتراكم للثروة والسيطرة على الأسواق.. 

في الطب

الذكاء الاصطناعي أداة مهمة لتداول وفحص وتحليل كميات هائلة من البيانات، لهذا فهو مفيد للغاية في أبحاث هندسة الخلايا، فمثلًا تطبيق  AlphaFold 2 (2021) يمكنه اختصار الفترة الزمنية لبحث بناء بروتين ما إلى ساعات بدلًا من شهور. الذكاء الاصطناعي يسهم في مجال اكتشاف الأدوية الجديدة، ففي عام ٢٠٢٣ ساهم في اكتشاف مضاد حيوي قادر على الفتك بنوعين من البكتريا المقاومة للأدوية المتاحة، كما يمكنه تقليل وقت اختبار الأدوية الجديدة للإسراع بطرح المقبول منها في الأسواق. 

استطاعت أنظمة الذكاء الاصطناعي زيادة دقة تشخيص الأمراض بمساهمتها في تطوير التصوير المقطعي والتصوير بالرنين المغناطيسي والتصوير بالأشعة السينية. وساعد الذكاء الاصطناعي في وضع خطط علاجية مشخصة تزيد من فاعلية العلاج وسلامته بتقليل احتمالية الخطأ، وذلك بتحليل التاريخ الطبي للمريض وتكوينه الوراثي ونمط حياته. 

في التعليم

يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة فعالة لإحداث ثورة في مختلف جوانب التعليم، بما في ذلك التدريس والتقييم وتطوير المناهج الدراسية، مما يساعد على إنشاء نظام تعليمي أكثر كفاءة. ويتم ذلك من خلال تحليل بيانات الطلبة وتقديم توصيات خاصة، وذلك باستخدام خوارزميات (لوغاريتمات) مثل Exact Path تحدد نقاط القوة والضعف لديهم وتقترح تعديلات في خططهم التعليمية وسرعة التعلم التي تناسبهم مما يساعدهم على تحقيق أهدافهم والاستعداد للمستقبل بشكل أكثر كفاءة. كما يساعد الذكاء الاصطناعي المدرسين في تقليل الوقت الذي يقضونه في إعداد الاختبارات للطلبة وإنشاء تمارين للتدريب تركز على الموضوعات التي يحتاج فيها الطلاب إلى الدعم، وذلك بتطبيق برنامج ExamSoft أو برنامج Squirrel AI على سبيل المثال.

في الإدارة المالية 

تُستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي مثل برنامج Tableau في تحليل كميات هائلة من البيانات المالية للشركات والتقارير الاقتصادية والسياسية لرصد الأنماط والاتجاهات والعلاقات الخفية بينها كما يتم تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي باستخدام خاصية تعلم الآلة على توقع الأداء المالي الممكن حدوثه وتقديم توصيات بناء على ما تستوعبه من بيانات جديدة ومتغيرات مالية معقدة مما يساعد على اتخاذ قرارات مالية ذكية لتحقيق نتائج أفضل في مجال الاستثمار وتدوال الأسهم.

يقوم الذكاء الاصطناعي أيضًا بمراقبة الأسواق المالية وتقييم الأخطار المحتملة واتخاذ إجراءات دقيقة وفورية لإدارتها، وربما استغلال التغيرات السريعة في السوق لتحقيق أرباح.

كما يؤدي الذكاء الاصطناعي دورًا هامًا في مكافحة الاحتيال المالي وحماية الأنظمة المالية من النشاط غير المشروع وذلك بتحليل البيانات المالية ومراقبتها واكتشاف التصرفات المريبة أو المتناقضة التي تنذر بغش أو تزوير.

في المجال العسكري

من نافلة القول تأكيد دور الذكاء الاصطناعي في تأسيس القوة العسكرية للدول وتأجيج التنافس بينها، فدائمًا ما تكون التطبيقات التكنولوجية في دائرة اهتمام صناع الأسلحة وواضعي استراتيجيات الحروب؛ لأن التفوق التكنولوجي يحقق تميزًا يرجح الغلبة لمن يمتلكه ويعرف أسراره، والذكاء الاصطناعي ليس استثناء. 

ومن أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري المعروفة نظم الأسلحة ذاتية التشغيل، والمركبات الطائرة بدون طيار المعروفة باسم الدرون، والأمن السيبراني في الدفاع والهجوم، والتجنيد والتدريب والتقييم، والاتصالات، والتجسس والاستطلاع والاستخبارات وجمع المعلومات وتحليلها مما يتيح للقادة وعيًا أفضل بأوضاع خصومهم يجعلهم أكثر كفاءة في إدارة معاركهم.

في الصناعة

تسهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحسين وتطوير قطاع الإنتاج الصناعي بمستوياته المتعددة؛ بدءًا من تصميم المنتج إلى طرق التصنيع وإدارة الإنتاج والأفراد. عن طريق لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي يمكن تقدير احتياجات الأسواق باكتشاف أنماط الاستهلاك وذلك بتحليل سلوك الزبائن وتتبع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ومن ثم يمكن رفع جودة التخطيط لمعدلات الإنتاج وسلاسل التوريد. وللذكاء الاصطناعي إسهام كبير في تطوير نظم الصيانة الذكية عن طريق تحليل البيانات وتقدير أوقات حدوث الأعطال وبالتالي التخطيط لعمل الإصلاحات في أوقات مناسبة تمنع التوقف المفاجئ للإنتاج. 

في الزراعة

الذكاء الاصطناعي يساعد المزارعين لتحديد مساحات التربة الواجب ريها وتزويدها بالأسمدة ومعالجتها ضد الحشرات الضارة بالمزروعات، كما يُستخدم في متابعة نمو المحاصيل والتعريف بأي مشاكل لاتخاذ اللازم بشأنها في وقت مبكر. لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي مثل Agri1 تقوم بتحليل بيانات التربة وتحدد ما ينقصها من عناصر وما يمكن للمحاصيل الإصابة به من آفات وأمراض في الظروف البيئية التي تنمو فيها ومن ثم اقتراح الحلول المناسبة للحفاظ على جودتها وإنتاجيتها. 

في استكشاف الفضاء

دراسة الفضاء لم تعد قائمة على المراصد والتليسكوبات فقط، والسفر إلى الكواكب لم يعد قاصرًا على أفلام السينما، والدول التي أرسلت مركبات لاستكشاف القمر ونجحت في الهبوط على سطحه زادت إلى خمس وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان والهند. آلاف الأقمار الصناعية تدور حول الأرض تيسر الاتصالات والتواصل ونقل المعلومات والمراقبة، والشركات الخاصة تخترع وتصمم وتصنّع وتطلق هذه الأقمار وغيرها من مركبات الفضاء وآليات السفر من صورايخ وكبسولات لنقل رواد الفضاء. فلا يمكن تصور الحضارة الحديثة بدون تكنولوجيا الفضاء، وما يؤديه الذكاء الاصطناعي من دور في حاضرها، وما يحمله لمستقبلها لا حدود له.

وأيضًا الفنون والآداب!

بعد أن اجتاحت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مجالات الصناعة والزراعة والمال والطب والرعاية الصحية والتعليم والحروب والنقل والاتصالات والبيئة والفضاء.. هل يمكن أن تطال هذه التكنولوجيا المجال الإبداعي من آداب وفنون مثل الرسم والموسيقى؟ وأنا لا أقصد هنا برامج المراجعة اللغوية لنصوص الكتب قبل تحريرها للطباعة والنشر أو تحليل نغمات قطعة موسيقية أو استنباط نمطية الألوان في لوحة فنية، وإنما أقصد العمل الإبداعي ذاته مثل نظم قصيدة وتأليف رواية ووضع سيمفونية وتشكيل رسم. كيف يمكن تصميم لوغاريتم يعبر عن أحاسيس ومشاعر الإنسان ويستلهم خياله؟

وفي الموسيقى يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تلحين الأغاني بتجميع ودمج النغمات والعلامات الموسيقية، مثل تطبيق MusicGen الذي أُطلق للاستخدام عام ٢٠٢٣. ولا يقتصر الأمر على التأليف الموسيقي وإنما تشمل تطبيقاته الأداء والإنتاج والتسويق؛ فمنها برامج تستخدم تكنولوجيا التعرف على الأصوات ومعالجة اللغة لضبط نغمات الصوت، ومن ناحية أخرى يمكنها دراسة مميزات الأغاني الشهيرة للتنبؤ بنجاح أغنية جديدة، مما يساعد منتجي الأغاني على تحديد محتويات الألبومات الجديدة مما يروق لمستمعيها ويحقق الانتشار المأمول.

أخطار تكنولوجيا تحجب أسرارها 

تطبيقات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في المجالات المتعددة التي ذكرتها سالفًا - والتي لم أذكرها - مما هو متاح اليوم، مجرد إشارة إلى بحر ما يزال ذاخرًا بكنوز تلهب الخيال وترهبه، يتلهف الإنسان على الغوص في أعماقه واقتحام مجاهله، فهل هو على يقين من أمان معداته وسلامة طريقته؟ هل أخذ ما يكفيه من حذر لما هو متلهف عليه حتى لا يفاجئه قضاؤه؟  ولكن قبل أن نتمثل أخطار المجهول الذي نهرول نحوه نتساءل: وهل التطبيقات المعروفة حاليًا آمنة تمامًا لاستخدام البشر خالية من الأخطار والمهالك؟ 

هذا التساؤل يذكرنا بالمادية الميكانيكية التي تتصف بها الحضارة الحديثة والأسس التي تنهض عليها وتهيمن على مقاصد روادها وصانعيها وهي التنافسية الربحية والسبق التكنولوجي للسيطرة على الأسواق ومنطق القوة المحض. ومع الأخذ في الاعتبار الجانب السئ من الطبيعة البشرية الذي يبحث في أي تكنولوجيا يبتكرها الإنسان عن دواعيها المهلكة، بدءًا من أنصال العصر الحجري حتى تفتيت الذرة في العصر الحديث، نجد أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ليست استثناء، إلا في بنيانها العجيب الذي يخلط اللامحسوس بالمحسوس أو يرتقي بالماكينة لمضاهاة ذكاء الإنسان.