لعل عبارة حتى لا يقطع الله رحمته عنك ، تعد طوق النجاة ومن ثم تستدعي الانتباه والتمسك ، فلا يمكن تصور الحياة بدون رحمة الله تعالى ، وإن كان تحمل مصائبها وكدرها بعدما خففته ألطاف الله عز وجل ورحمته من الصعوبات الهائلة، لذا لابد من الالتزام والانتباه حتى لا يقطع الله رحمته عنك .
حتى لا يقطع الله رحمته عنك
أوصت دار الإفتاء المصرية ، برحمة جميع الخلق، حيث قد أمرنا الله تعالى بأن نرحم كبيرنا وصغيرنا، طائعهم وعاصيهم، حتى الحيوانات أمُرنا أن نرفق بها، قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم - : «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ –أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق- من الرحمن، فمن وصلها وصله اللَّه ومن قطعها قطعه اللَّه». وصيغة العموم في الحديث تشمل جميع الخلق راحمين ومرحومين.
واستشهدت «الإفتاء» في وصيتها حتى لا يقطع الله رحمته عنك ، بما أخرجه أبو داود (4941 )، والترمذي (1924 )،وأحمد (6494 )، وحدثه الألباني في صحيح الترمذي ، الصفحة أو الرقم: 1924، عن عبدالله بن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- ، أنه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ . ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ ، الرَّحمُ شُجْنةٌ منَ الرَّحمنِ فمن وصلَها وصلَهُ اللَّهُ ومن قطعَها قطعَهُ اللَّهُ».
وأشارت إلى أنه في هذا الحديثِ يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "الرَّاحمون"، أي: الَّذين يَرحَمون مَن في الأرضِ مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيرِه؛ شَفَقةً ورَحمةً ومُواساةً، "يَرحَمُهم الرَّحمنُ"، برَحمتِه الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ، فيَتفضَّل عليهم بعَفوِه وغُفرانِه وبرِّه وإحسانِه؛ جزاءً وفاقًا، فاللهُ عزَّ وجلَّ متَّصِفٌ بالرَّحمةِ، وهو سُبحانَه الرَّحمنُ الرَّحيمُ، الموصِلُ الرَّحمةِ إلى عِبادِه، وليستْ رَحمتُه سبحانَه كرحمةِ المخلوقِ؛ فإنَّه عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شيءٌ. ... سنن الترمذي .
وتابعت: ثمَّ أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالرَّحمةِ، فقال: "ارحَموا مَن في الأرضِ"، أي: جميعَ مَن في الأرضِ مِن أنواعِ الخَلْقِ، "يَرحَمْكم مَن في السَّماءِ"، أي: مَن عَلَى السَّماءِ، وهو اللهُ تعالى العليُّ بذاتِه، المستوِي على العرشِ فوقَ سَمَواتِه. ... ثمَّ قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "الرَّحِمُ شِجْنةٌ"، والشِّجنةُ في الأصلِ: عُروقُ الشَّجرِ المشتَبِكةُ، والمرادُ بها القَرابةُ المشتبِكةُ كاشتِباكِ العُروقِ، والمرادُ مِنها هنا أنَّها مُشتقَّةٌ "مِن الرَّحمنِ"، أي: مِن اسمِ الرَّحمنِ.
وأضاف: فكأنَّها مُشتبِكةٌ بمعاني الرَّحمةِ اشتِباكَ العُروقِ، وقيل: في وجهِ الشِّجنةِ أنَّ حُروفَ الرَّحمِ مَوجودةٌ في اسْمِ الرَّحمنِ، ومُتداخِلةٌ فيه كتَداخُلِ العُروقِ؛ لكَونِها مِن أصلٍ واحدٍ.
والمعنى: أنَّها أثَرٌ مِن آثارِ رَحمتِه، مُشتبكةٌ بها، "فمَن وصَلها"، أي: الرَّحِمَ، "وصَله اللهُ"، أي: أوصَل اللهُ إليه رَحمتَه وإحسانَه وإنعامَه، "ومَن قطَعَها"، أي: الرَّحِمَ، "قطَعه اللهُ"، أي: قطَع اللهُ عنه الرَّحمةَ والإحسانَ والإنعامَ. وفي الحديث: الحثُّ على التراحُمِ بين الناسِ وعلى صِلةِ الأرحامِ. ... وفيه: التحذيرُ الشَّديدُ مِن قَطْعِ الأرحامِ بينَ الناسِ.
رحمة الله بعباده
ورد أن رحمة الله ليست كرحمة المخلوقين، فالله -سبحانه وتعالى- خلَق الرحمة وأودع في الخلق جزءاً من رحمته، وأمسك عنده تسعةً وتسعين جزءاً كما ذُكر في الحديث النبوي الشريف، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنَّ لِلَّهِ مِئَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ منها رَحْمَةً وَاحِدَةً بيْنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ علَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَومَ القِيَامَةِ)، ورحمة الله التي أنزلها موزّعةٌ على الإنس والجن والبهائم والمخلوقات جميعها.
مظاهر رحمة الله في الخلق
يمكن للإنسان أن يستشعر مظاهر رحمة الله عند تأمّله في الكون والخلق من حوله، فيرى من مظاهر رحمته -تعالى- ما لا يعدّ ولا يُحصى، ومن هذه المظاهر:
- خلْق الإنسان، وجعْله مكرّماً على غيره من المخلوقات وحفّه بنعمه ورحمته بتيسير رزقه وهو جنين حتى يكبر ويخرج إلى الحياة الدنيا، ووضع الرحمة في قلب والدته حتى ترعاه وتحنّ عليه، وتسهيل أسباب الرزق لوالده لتحصيل حاجاته من الطعام والشراب، ومن رحمته بالإنسان أنْ خلقه في أحسن تقويمٍ وأفضل صورة.
- خلق الليل والنهار حيث يستعين الإنسان بالنهار على العمل والسعي في الأرض بما ينفعه، ويستعين بسكون الليل على النوم وأخذ الراحة لاستعادة نشاطه، قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
- تسخير الأرض بما فيها لخدمة الإنسان ولتسهيل عيشه فيها، ومن مظاهر رحمته أنه ينزل من السماء ماء، فالماء أساس الحياة لكل شيء في هذه الأرض، ولولاه ما عاشت النباتات وما عاش الإنسان ولا الحيوان، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).
مظاهر رحمة الله في الناس
ورد أن من مظاهر رحمة الله في الناس في الدنيا والآخرة ما يأتي:
- إرسال الرسل وإنزال الكتب وذلكَ لهداية الناس إلى الحق، وليتبيّنوا الطريق المستقيم، وليحصلوا على ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، يقول تعالى في كتابه العزيز عن القرآن الكريم: (هـذا بَصائِرُ مِن رَبِّكُم وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِقَومٍ يُؤمِنونَ).
- وضع الشريعة وذلك لاحتكام الناس إليها في الحياة الدنيا، حيث وضع الله -سبحانه وتعالى- المبادئ والأحكام والفرائض والأخلاق لاتّباعها والسير على أساسها، فتطبيق ما أمر الله به والابتعاد عما نهى عنه سبيلٌ إلى تحصيل منافع الخلق في الدنيا ودفع المضار عنهم، قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
- الرخصة في الأحكام الشرعية فقد رتّب الشرع أحكاماً لمختلف الأعمال والتكاليف ليقوم بها الإنسان في حالته الطبيعة، أما في حالات الاضطرار والمشقّة والحرج التي لا يتمكّن الإنسان فيها من القيام بالأعمال اللازمة عليه؛ فقد خفّف الله -سبحانه- عنه هذه الأحكام وسهّلها بما يُمكّنه من أدائها، وهو ما يسمى بالرخصة.
- ومن الأمثلة على الرخص: قصر الصلاة الرباعية في السفر، والفطر في رمضان للمريض والمسافر، وأكل الميتة عند الاضطرار لدفع الهلاك عن النفس، قال تعالى: (فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفورٌ رَحيمٌ).
- الإثابة على الصبر وعلى الأعمال الصالحة فما من مؤمنٍ يصبر على مصيبة إلا وله ثوابٌ على صبره ويُحتسب أجره عند الله، قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
- وكذلك المؤمن الذي أدّى الفرائض والتزم بالأوامر واجتنب النواهي فثوابه عند الله، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ).
- فتح باب التوبة للعباد ومغفرة ذنوبهم وتقصيرهم إذا تابوا إليه سبحانه، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ونجاة المؤمنين من العذاب الأليم، قال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
- وشروط التوبة الصادقة ثلاثة وهي: الندم على المعصية. والإقلاع عنها. والعزم الصادق على عدم العودة إليها. وإن كان هناك حقوق للناس والعباد فيلزم إعادة هذه الحقوق لأصاحبها، وجزاء من تاب مغفرة الله وجنّته ورضوانه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ).
- العقل حيث خلق الله للإنسان العقل وجعله قادراً على التعلم، كما وعلّم الإنسان ما لم يعلم بفضله ورحمته، ورزقه القدرة على الفهم والإدراك والبيان والإفصاح عما يعلمه ويفهمه، قال تعالى: (الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ).
- فالبيان الذي ميّز الله به الإنسان على غيره من المخلوقات من أجلّ وأعظم النعم التي تدل على رحمته -سبحانه وتعالى- بخلقه.
مظاهر رحمة الله يوم القيامة
وجاء أن من مظاهر رحمة الله -تعالى- في اليوم الآخر ما يأتي:
- إدخال المؤمنين الجنة يوم القيامة برحمة الله وفضله لا بأعمالهم، قال عليه الصلاة والسلام: (لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ)، حيث تقصُر الأعمال مهما كثُرت عن أن يكون جزاؤها المقابل لها الخلود في جنة عرضها السماوات والأرض.
- قبول الله شفاعة من يشاء من النبيّين والعلماء والملائكة والصالحين ومن الشفاعة التي يقبلها -تعالى- شفاعة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الكبرى في الخلق لتعجيل الحساب، وشفاعته في أهل الذنوب من أمّته لإخراجهم من النار، وكذلك لمَن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لدخول الجنة.
- إخراج من كان في قلبه ذرةً من الإيمان من النار إذ يأمر الله ملائكته: (فيقولُ اذهبوا فلا تدَعوا في النَّارِ أحدًا في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ إيمانٌ إلَّا أخرجتُموهُ قال فلا يبقى إلَّا من لا خيرَ فيهِ)، وهذا مصداقاً لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).
- رحمة الله فيمن يبقى في النار من المسلمين فبعد أن يشفع النبيّون والصالحون؛ ينادي الله في الخلق فيقول: (بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فيُخْرِجُ أقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا، فيُلْقَوْنَ في نَهَرٍ بأَفْوَاهِ الجَنَّةِ).
موجبات رحمة الله
بيّن العلماء الأمور التي يعد فعلها سبباً في تحصيل رحمة الله -تعالى- للمؤمن بعد تيقّن أن الله هو أرحم الراحمين، ويذكر ذلك فيما يأتي:
- رحمة الإنسان بالناس كافة مهما اختلفت أعراقهم وأجناسهم وأديانهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
- قراءة القرآن الكريم وحسن تدبره، يقول تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين).
- تقوى الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، يقول الله تعالى: (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
- صلاة أربع ركعات قبل صلاة العصر من موجبات الرحمة. طاعة الله ورسوله يقول تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
- الإحسان بمراقبة الإنسان لنفسه خلال ليله ونهاره وسرّه وعلنه، بحيث يعبد الله كأنه يراه، فيُحسن عبادته ويتقن عمله ويحسن للناس، لشعوره بوجود الله معه في كل خطوة من حياته، يقول تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ).
- المكوث في المسجد.
- زيارة المريض.