العالم العربى بين مشهدين
مرت 4 سنوات على مشهدين عاشهما العالم العربى من أقصى المحيط إلى الخليج؛ المشهد الأول كان يوم 17 ديسمبر 2011 أمام مقر ولاية سيدى بوزيد التونسية عندما أحرق الشاب الشاب محمد البوعزيزى بعد رفض سلطات الولاية قبول شكواه فى حق الشرطية فادية حمدى التى صفعته أمام الملأ وقالت له بالفرنسية Dégage أى أرحل فأصبحت هذه الكلمة شعار الثورة للإطاحة بالرئيس وكذلك شعار الثورات العربية المتلاحقة، وأدى هذا المشهد إلى انتفاضات شعبية وثورة دامت قرابة الشهر أطاحت بالرئيس زين العابدين بن على؛ أما البوعزيزى فقد توفى بعد 18 يوما من إشعاله النار فى جسده وقد أضرم ما لا يقل عن 50 مواطنا عربيا النار فى أنفسهم لأسباب أجتماعية متشابهة تقليدا لاحتجاج البوعزيزى.
المشهد الثانى كان يوم الأربعاء 4 فبراير 2015 عندما بثت داعش فيديو حرق الطيار الأردنى الأسير لديها معاذ الكساسبة فى ما أعلنت داعش أن تاريخ تنفيذ جريمتهم البربرية كان يوم 3 يناير 2015؛ تلك السنوات الأربع التى عاشها العالم العربى بين المشهدين كانت مليئة بالعنف والدم والحرق والقتل والتدمير وإنهيار الدول والمؤسسات والجيوش على الرغم أن النتيجة المباشرة لتلك الثورات أو الأنتفاضات الشعبية بالمفهوم العلمى نحجت فى الإطاحة بعدد من نظم الحكم الديكتاتورية فى المنطقة مثل زين العابدين ومبارك وعلى عبدالله صالح والقذافى.
فعندما خرجت الشعوب العربية مطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية ودولة القانون لم يكن أى من الذين استشهدوا وأصيبوا فى ميادين الثورة أى كان مكانها وهؤلاء الذين اعتصموا بالشوراع أيام وليالى يتمنى لبلاده هذا الدمار والخراب الذى تسبب فيه دخول الجماعات المسلحة وتيارات الإسلام السياسى على خط الثورة وركوبها لكل الثورات وصراعها على السلطة مع قوى الأنظمة التقليدية ومؤسساته واستعانوا فى ذلك بقوى إقليمية ودولية رأت فيهم ضالتها كى تحمى مصالحها فى المنطقة العربية والشرق أوسطية.
الغريب والمدهش أن أنصار تلك التيارات التى ركبت الثورات العربية يرون فى أنفسهم أنهم أصحاب تلك الثورات وهم الذين تصدروا المشهد وقدموا الضحايا وأن اللحظة التاريخية التى ناضلوا من أجلها قد حانت لتحقيق حلهم فى مشروع إسلامى ودولة للخلافة وأمة واحدة تحت راية الأخوان المسلمين أو السلفيين أو داعش أو القاعدة وجميعها تيارات تنبع من مصدر فكرى واحد يكفر من يختلف معه وتكفر الحاكم والمؤسسات والشعوب التى أتت بالحاكم والمؤسسات وتمنع قيام "المشروع الإسلامى" وتستند إلى فقه وشرائع خاصة بها تقوم على فكر إبن تيمية التكفيرى موروا بسيد قطب وحسن البنا وصولا لخيرت الشاطر ومحمد بديع وأبو بكر البغدادى وأيمن الظواهرى.
مازال المواطن العربى ما بين المشهدين يموت محروقا مرة بسبب الظلم والقهر فى حالة البوعزيزى ومرة أخرى بعد كل تلك التضحيات يموت محروقا على أيدى من ركبوا الثورات العربية ويقتلون بأسم الدين فى حالة الكساسبة.
مازال المواطن العربى الذى حلم بالتغيير يبحث عن طريق للخروج من حالة الضياع وغياب الرؤية والهروب بنفسه وأهلة من مصير الكساسبة والبوعزيزى ولسان حاله من لم يمت بالفقر والقهر مات على ايدى داعش و حماس وأنصار بيت المقدس والقاعدة أو الحوثيين فى ظل غياب للدول والمؤسسات.
غاب الفكر والمنهج والقيادة عن الربيع العربى فتحول إلى شتاء قارس فى بعض الأحيان وخريف عاصف فى أحيان أخرى وصيف حارق وتشرد الملايين فى معسكرات على حدود وخيام لا تحمى جسد نحيل لايجد المأكل والمشرب كالحالة السورية أو إنهيار كامل للدولة مثلما يحدث فى ليبيا واليمن بسبب سيطرة هذا تيارات اليمن الدينى على المشهد.
الغريب أن الذين أنتفضوا وثاروا بعد مشهد البوعزيزى لم يفعلوا نفس الشىء بعد مشهد الكساسبة خاصة بعد أن تبلور عدو جديد وعقبة كبرى أمام تحول الخريف العربى إلى ربيع ة الذى تجسد فى كل تيارات الإسلام السياسى والجماعات المسلحة التى تنتشر فى كل بقاع المنطقة.
الشعوب العربية مطالبة أن تتطهر من داخلها من خلال نبذ تلك التيارات وتدمير البيئة التى تحتضنهم وتجديد الخطاب الدينى وتخليصه من التخاريف والأساطير والفتاوى والممارسات والعادات والتقاليد التى تخلق وتنعش تلك البيئة المريضة؛ والشعوب قبل الحكومات والأنظمة مطالبة بالعمل والتعلم والبحث العلمى ونشر قيم التسامح وقبول الأخر والإنفتاح على العالم بل والإندماج فيه حماية لمصائر الأجيال القادمة ودفاعا عن الإسلام الصحيح الذى اسىء إليه أكبر إساءة على أيدى هؤلاء الخوارج.
الشعوب العربية مطالبة بأن تصر على أحلامها وأن لا تترك مصيرها مجددا بين أيدى جماعة أو فرد من خلال دعم المؤسسات التشريعية التى تمثلهم وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم وان تصر على قيم وممارسات دولة القانون وحماية الدستور وإعلاء قيم العدل والمساواة... فهل ندرك حقيقة ما وصلنا إليه قبل نحترق جميعا فى محرقة كبيرة على أيدى تلك الجماعات والأفكار المتطرفة؟.