الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

داعش وثقافة الشواء


لن أخوض فى تفاصيل بشاعة المشهد الأخير الذى بثه تنظيم داعش الارهابى الذى يقوم فيه عناصره بشواء أربعة عراقيين بعد ربطهم الى أرجوحة واضرام النيران تحتهم ، فالمشهد لا يحتمل التوصيف، وعلاج صعوبة استيعابه محوه من الذاكرة ، كما أن فهمنا لتلك المشاهد فى مسارها الصحيح سيفك اللغز وسيزيل الالتباس ؛ لأن مسارها الحقيقى متعلق بارتباط داعش بأمريكا وبماضى الوحشية والابادة الجماعية للشعوب والتعامل مع البشر بأقسى درجات النذالة والخسة والاجرام ؛ فهو تنظيم ينتمى للاستعمار والأمريكان ولا ينتمى بحال للاسلام والمسلمين.
الإسلام شريف ليس بهذه الدناءة ، ومهما تلوثت الضمائر والساسة والقادة بالخداع والقذارة والخيانات والجرائم التى يندى لها جبين الإنسانية، فالإسلام حريص على ألا يلوث تاريخه ومنهجه بتلك القذارات حتى وان كانت من قبيل ردود الأفعال ، كما فى بداية الشريط المصور لشواء هؤلاء الأربعة كأنهم أربعة دجاجات أو أربعة خرفان يشوونها ويجهزونها للطعام ، حيث أوردوا آية العقاب بالمثل " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " .. ولم ولن يكملوا الآية " ولئن صبرتم " وما صاحبها من سلوك نبوى فى الرد .
ثقافة الاسلام ليست هكذا ؛ فاذا خان العدو العهد فلا يخون المسلمون رداً وثأراً وذلك للحفاظ على ثوابت المنهج ، واذا تدنوا الى الممارسات البغيضة التى تحط من قدر الانسان وتنتقص من كرامته وتنتهك حرمته فلا يكون الرد بالمثل ، واذا اغتصبوا وهتكوا وحرقوا ، لا نرد بالهتك والحرق والاغتصاب والتعذيب انتصاراً لثوابت الاسلام وابقاءاً على نصاعة منهجه ونقائه واعلاءاً لأخلاقياته وقيمه.
كان بوسع الرسول صلى الله عليه وسلم الرد بالمثل عندما غدر به كفار قريش عندما كان محتاجاً للأمانات التى أودعوها لديه لتأمين دعوته الوليدة مادياً ، ولو كان الغدر جائزاً مع الأعداء مهما غدروا لما ردها الرسول صلى الله عليه وسلم لهم ، لكنه تجاوز المصالح وغدر الخصوم ، فلا يتلوث المنهج بالغدر والخيانة.
وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال : " ما منعنى أن أشهد بدراً الا أنى خرجت أنا وأبى حسيل ، قال : فأخذنا كفار قريش ، قالوا : انكم تريدون محمداً " أى معاونته والقتال معه " فقلنا : ما نريد الا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن الى المدينة ولا نقاتل معه ، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال : انصرفا .. نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم".
نفى بعهدهم ونستعين الله عليهم ! .. نعم ، فمنهجنا لا يسمح بالتورط فى الخزايا والسوءات حتى ولو روج اليوم بعض المغيبين عن أصول المنهج والجاهلون بقواعده أنها رداً على ما يرتكبه الأعداء ، لأن الله أخرج أمة الاسلام لتصلح حال البشرية وتوقف مساوئها .. لا أن تتورط فيها ، فيصبح لا فرق بيننا وبين السفاكين الغدارين الهمجيين الوحوش خائنى العهود .. ولأن هذه التعاليم والقيم والأخلاقيات فى الأساس هى ضامن نصرة المنهج وبقائه وظهوره ، فاذا سقطت سقط وتهاوى.
أنظروا الى حضارة الاسلام فى الأندلس التى علمت الدنيا وتتلمذ فى رحابها جهابذة أوربا وصانعو حضارتها الحديثة وقارنوها – ولو أنه لا مجال هنا للمقارنة – بين خزايا وسوءات داعش التى شوهت وجه الاسلام الحضارى وروجت لرواية أعدائه – التى كانوا يحلمون فى ترويجها – أن الاسلام دين الهمجية والعنف والقسوة والوحشية.
وفضلاً عن أن الحضارة فى الأندلس قامت على أسس حضارية صحيحة ومتينة ومنطقية ، حيث لا تنهض الحضارات الا على التنوع والتعددية والتعايش والشراكة و " التكاملية " واحترام وصون عقائد الآخر وممتلكاته ومكتسباته وحقوقه.
وفضلاً عن أن الحضارة فى الأندلس بما تقوم عليه الحضارات من امتداد ثقافي وتاريخي وميراث قيمي وأخلاقى وتفاعل اجتماعي وديني ، ومحصلة مجهودات شعوب أرض ودولة على امتداد قرون فى الصناعة والتجارة والزراعة والثقافة والحرب والسلم والإبداع والفنون والنضال والكفاح وتوارث الخبرات والتجارب والعلم والفكر .. وليست فقط كما تفعل داعش وتعتقد باستيلاء على قطعة أرض وحمل سلاح لقتال العالم بأسره.
فإن المسلمين الأندلسيين لم يتلوثوا بخزايا وسوءات الخصوم والأعداء ولم يتدنوا لمستواهم القيمى والأخلاقى المنحط ، لذا بقيت الحضارة الاسلامية فى الأندلس على نصاعتها ونقائها وشرفها .. معلمة للعالم أصول العلم والفكر والنهضة والتقدم .. وأصول الآداب والقيم أيضاً.
بالرغم مما بلغه خصوم وأعداء الاسلام فى الأندلس من وضاعة وحقارة ووحشية .. وأنظروا الى ما قام به رذيق الفيفارى – المعروف بالسيد الكمبيطور – الموصوف بالطاغية الذى كون جيشاً لينال الأندلس قتلاً وهتكاً وحرقاً بروح عدوانية شريرة .. واستبسل فى الدفاع عن بلنسية القاضى الفقيه أبو أحمد بن عبدالله بن جحاف ، وعاث الكمبيطور حولها تخريباً وحرق من يخرج من المدينة ليلاً كيلا لا تقوى على الصمود ، حتى بلغ بأهلها الجهد فأكلوا الحيوانات الميتة أحياناً.
وبعد استبسال قل نظيره أجبر الفقيه المناضل على المفاوضة والتسليم والصلح بشروط تأمين أهل بلنسية ، وغدر العدو ونقض العهد واحتل الدور والقصور وأحرق العلماء والرموز وكان أول من أحرقه الكمبيطور هو زعيم المقاومة الفقيه القاضى ابن جحاف.
وتم حرق القاضى فى حفل ومشهد أمام الناس ، وبالرغم من المعاهدة وما فيها من شروط تأمينه على نفسه وماله وأهله، فقد سجنه وأذاقه أشد العذاب وأعدمه حرقاً وهو حى!
حفر للقاضى الشهيد حفرة فى ساحة " ولجة " - التى تعرف اليوم فى بلنسية برحبة القاضى – وأنزله فيها الى وسطه ، محاطاً بالحطب وأشعله فيه، والقاضى الفقيه المجاهد يضم النار اليه بيديه ليكون أسرع لخروج روحه ، وهو يقول: " بسم الله الرحمن الرحيم" .. وقبض على أقباسها وضمها إلى جسده فاحترق رحمة الله عليه فى جمادى الأولى سنة 488ه – 1059م بعد سنة من معاهدة التسليم .
السؤال .. هل قرأنا وعلمنا وهل عرف العالم عن حضارة الاسلام فى الأندلس رغم ذلك كله – وأكثر – حرقاً وهتكاً ووضاعة وتدنياً ، فى مقابل ذلك التدنى والهبوط من الخصوم ؟
لا .. لم نعرف ولم يعرف العالم عن الأندلس الا رقياً وتهذيباً وتعايشاً واحتراماً للآخر وتعليماً له ورحمة به .
هذا هو الفارق بين الحضارة .. والحقارة .