الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

القتل سياسة وشرعي... هكذا تمكن السلاطين الأتراك من قتل أبنائهم وإخوتهم

صدى البلد

الدولة العثمانية أو كما تسميها الأدبيات العربية "دولة الخلافة الإسلامية"، هي امبراطورية أسسها عثمان الأول بن أرطغرل، ودامت لما يقرب من 600 عام، حيث تأسست عام 1299 حتى انتهت نهائيا من الوجود في 29 أكتوبر 1923م.

يقول الدكتور محمد حرب في كتابه "العثمانيون في التاريخ والحضارة" الصادر عن المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي، في القاهرة عام 1994 "ودولة العثمانيين أطول دولة في التاريخ، ولا يطول عمر الدول إلا بحضارة وعدل، وحضارة العثمانيين هي ذروة تطور الحضارة الإسلامية وهم جديرون بالاهتمام". ويضيف الدكتور مجيب حسين المصري، رائد الدراسات التركية في مصر، بحسب المصدر ذاته " ... لقد عرفتهم الشام وبلاد المغرب وارتبط بهم الحجاز والعراق، وتاريخهم من الأهمية بمكان عظيم وهو موصول بعهد طويل من تاريخ الشرق العربي".

بيد أن هذا الثناء على هذه الامبراطورية، والذي يمكن العثور عليه في الكثير من الكتابات العربية، يقابله من الناحية الأخرى تشريح دقيق لمتغيرات الأحوال في الدولة العثمانية، تشريح يبرز الجوانب الأخرى الكامنة خلف الانتصارات العسكرية وامتدادات الامبراطورية العثمانية لتشمل ملكيتها مناطق في القارات الثلاثة القديمة "آسيا وأفريقيا وأوروبا".

يقول الدكتور ﺑﺷرى ﻧﺎﺻر ﻫﺎﺷم اﻟﺳﺎﻋدي، في بحثه المنشور بمجلة مركز بابل بالجامعة المستنصرية، العدد الثاني، تحت عنوان "ﺷﺮﻳﻌﺔ ﻗﺘﻞ ﺍﻷﺧﻮﺍﻥ ﻭﺃﺛﺮﻫا في نظام الحكم آل عثمان" عام 2011 "إن هذه الدولة واجهت طيلة فترة حكمها التي دامت حوالي 6 قرون، مشاكل عديدة كان لها أثرها الواضح في نظام حكمها، إذ كان عليها وهي في بداية عهدها ترسيخ قوتها، وتثبيت نفوذها، أن تواجه الأخطار الخارجية المحيطة بكيان دولتها الفتية. غير أنها وجدت نفسها في خضم مشاكل داخلية تمثلت بالفتن، والتنافس ما بين أبناء وأخوة السلاطين طمعا في عرش السلطنة، فكان ذلك الأمر مدعاة لإضعاف نفوذ سلاطينها، وابتعادهم عن هدفهم الأسمى في التوسع والضم خارج حدود السلطنة".

وضع الساعدي يده على جرح عميق من جراح الدولة العثمانية، لا يزال يدمي حتى اليوم في كتابات بعض المؤرخين الأتراك، والكثير من كتابات المؤرخين الغربيين الذين شكلت الدولة العثمانية جزءا من تاريخ بلادهم، ألا وهو الصراع على السلطنة، وشرعنة قتل الأبناء والأخوة في سبيل الحفاظ على ما تطلق عليه الأدبيات العثمانية القديمة اسم "نظام العالم" وهو ما يقابل في عصرنا الحالي مصطلح "النظام والأمن العام للدولة".

وتمثلت شرعنة القتل في قيام رجال الدين في ذلك الوقت بإصدار فتاوى للسلاطين العثمانيين بقتل الأبناء والأخوة حتى يضمنون استقرار نظام الحكم، والقضاء نهائيا على أي احتمالية لتمرد أي من تلك العناصر ومطالبتها بالسلطنة، ووأد أي محاولة للقيام بهذا الأمر في مهدها، ويوضح أحمد عبدالرحيم مصطفى في كتابه "في أصول التاريخ العثماني" الصادر عن دار نشر الشروق، الطبعة الرابعة، عام 2010، أن بداية تقليد قتل الأخوة الذي برره الفقهاء، كانت في عهد السلطان بايزيد الأول "، رابع سلاطين الدولة العثمانية وحكم في الفترة من " 1389 – 1402" ، وما لبث أن أصبح بمثابة قانون للدولة في عهد السلطان "محمد الفاتح"، ورغم أنه ينم عن القسوة الشديدة، فإنه حقق الهدف المرجو منه، إذ لم تتأثر الدولة العثمانية بالصراعات الأسرية لمدة 5 قرون".

جاء تقنين أو شرعنة قتل الأخوة والأبناء من خلال القوانين التي وضعها السلطان محمد الفاتح لإدارة شؤون الدولة، وتناولها البروفيسور أحمد آق كوندزـ رئيس قسم الدراسات العثمانية بالجامعة الاسلامية في روتردام ، البروفيسور سعيد أوزتورك، المتخصص في التاريخ الاقتصادي، في كتابهما "الدولة العثمانية المجهولة 303 سؤال وجواب توضح حقائق غائبة عن الدولة العثمانية "، حيث أورد كوندز نص المادة القانونية التي وضعها السلطان محمد، والتي تختص بجواز قتل الاخوة وجاء فيها: "إذا تيسرت السلطنة لأي ولد من أولادي فيكون مناسبا قتل إخوته" في سبيل تأسيس نظام العالم، وقد أجاز هذا معظم العلماء، فيجب العمل به".

حاول الكثير من الباحثين والمؤرخين الأتراك نفي هذه التهمة عن الدولة العثمانية، والتشكيك في صحة نسب هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح، نظرا لما شعروا به من مخالفتها للشريعة الإسلامية التي كانت تحكم بها الدولة العثمانية، ومن بين أولئك الباحثين، بحسب ما ذكر كوندز، الخبير القانوني التركي، همت بركي، الذي شدد على زيف القوانين العثمانية "عثمانلي قانون نامه لري" حيث ذهب بركي إلى أن هذه القوانين مدسوسة على السلطان محمد الفاتح، من قبل أعداء الدولة العثمانية من الغربيين، وكانت منطلقاته في هذا الصدد، مخالفة قانون قتل الأخوة للشريعة الإسلامية.

يقول الخبير في الشؤون العثمانية، الدكتور مصطفى الستيتي إن "قضية قتل الأخوة والأبناء موجودة وأمر واقع في تاريخ الدولة العثمانية، وهناك العديد من الحوادث التي تدلل على وجود هذا القانون، الذي لاقى دعما من رجال الدين الذين أفتوا بشرعية تنفيذ هذه الجريمة، وكانت لهم منطلقاتهم الشرعية في هذا الأمر".

وأضاف الخبير الذي نقل كتاب "303 سؤال وجواب" إلى اللغة العربية، أن السبب الرئيسي لوجود هذا التشريع هو وأد الفتنة ومحاولة تثبيت أركان الدولة، لكن على الرغم من الأسانيد الشرعية التي حاول أصحاب نظرية صحة قوانين محمد الفاتح أن يسوقوها للتسويغ لتلك الأفعال، إلا أن هناك العديد من الحالات التي ثبت فيها الخطأ في تنفيذ هذه العقوبة، وأشهرها قتل السلطان سليمان القانوني ابنه مصطفى، بناء على وشاية من المحيطين به".

جدل تشريعي حول قتل الأبناء والأخوة

أثار الخلاف حول نسب قانون قتل الأبناء إلى السلطان محمد الفاتح من عدمه، جدلا شرائعيا، ففي حين ذهب الفريق الرافض لصحة هذا القانون إلى مخالفته للشريعة الإسلامية، اجتهد الفريق المؤيد لصحة نسب هذا القانون في إيجاد الدلائل الشرعية التي تؤيد وتبرهن على عدم مخالفة هذا القانون لصحيح الدين، واعتمدوا في هذا الأمر على المذهب الحنفي، وعقوبات الحدود في البغي، وخاصة "الخروج على الحاكم"، بالإضافة إلى العقوبات التعزيرية، التي فتحت الباب واسعا أمام السلاطين في إعمال القتل بأبناءهم واخوتهم والمقربين منهم بهدف الحفاظ على السلطنة".

من أشهر المؤرخين الأتراك الذين أقروا بصحة نسب هذا المبدأ إلى السلطان محمد الفاتح، هو المؤرخ عبدالقادر أوزجان، وبحسب البروفيسور كوندز، وما ساقه في كتابه، لتبرير قتل الأخوة والأبناء، فإن العقوبات في الإسلام تحتوي على الحدود وعقوباتها مثل عقوبة السرقة قطع اليد ... إلخ ، وفي حالة سقوط أي شرط من شروط اكتمال الجريمة، يكون هناك عقوبة التعزير التي يضعها أولو الأمر. فمثلا لا يطبق حد الزنا وهو الرجم إذا لم يتوافر 4 شهود، فإن توافر ثلاثة فقط، لا يترك المتهم بدون عقاب، بل يتم اللجوء لعقوبة التعزير التي يقررها أولو الأمر.

وفيما يتعلق بعقوبة قتل الابناء والأخوة، يقول كوندز إن عقوبة الاعدام موجودة في كل نظام قانوني للحفاظ على الصالح العام أي نظام العالم حسب التعبير العثماني، وهي موجودة في القانون الجزائي التركي الحالي ما بين المادة 125 والمادة 163 وتنص على عقوبة الاعدام ضد كل من يحاول تحزئة الوطن والعمل ضد حياده.

ويوضح البروفيسور التركي، أنه مسألة قتل الأخوة يمكن تأطيرها شرعيا في تطبيق وإقامة حد البغي "ويقصد العصيان ضد الدولة" وجريمة العصيان تندرج ضمن عقوبات الحدود في الإسلام تحت عنوان "حد البغي" وعناصرها هي القيام بالعصيان والتمرد ضد الإمام أو السلطان ومحاولة الاستيلاء على الحكم باستعمال القوة "المغالبة". وفي هذا الإطار عد فقهاء الدولة العثمانية ومشرعوها كل تمرد على الأوامر السلطانية وكل إخلال بالأمن العام نوع من العصيان وصنفوا الحركات الرامية إلى نشر الفوضى في البلاد على أنها "فساد بالسعي وجريمة بغي، وأوضحوا أن عقوبة هذه الجريمة هي القتل، حتى لو كان الفاعل شقيق السلطان أو ابنه.

ويؤكد كوندز على أن نصف حالات إعدام الأبناء والأخوة في الدولة العثمانية كانت في إطار حد البغي، لكنه يستطرد ويقول إن إعدام طفل رضيع مثلا لا يمكن توصيفه في هذا الإطار، ولا يمكن الدفاع عنه، كما أن معظم عمليات القتل بالتعزير أو كما يطلق عليها "القتل سياسة"، كانت تفتقر إلى الأدلة والأسانيد الصادقة التي تؤيد التهمة على المدان، وتم معظمها بناء على وشايات من المقربين من السلطان، في إطار التنافس على السلطة.

اشهر حوادث الاعدام في تاريخ الدولة العثمانية

هناك الكثير من حالات القتل والإعدام التي تمت في إطار "حد البغي" نتيجة العصيان ضد الدولة، ومن أبرزها إعدام عثمان بك لعمه دوندار بك، إعدام صاوجي بك بن السلطان مراد الأول، إعدام خليل وإبراهيم شقيقي السلطان مراد الأول، إعدام مصطفى شقيق السلطان مراد الثاني، إعدام مصطفى دوزمجه عم السلطان مراد الثاني، إعدام قورقوت وأحمد شقيقي السلطان ياووز سليم، وإعدام بايزيد بن السلطان سليمان القانوني وخمسة من أولاده، وهو أيضا شقيق السلطان سليم. كما قام السلطان محمد جلبي بقتل أخويه عيسى وموسى، كما قتل شقيقه مصطفى أيضا.

أما فيما يتعلق بارتكاب جرائم القتل سياسة أي "القتل بالتعزير"، فأول حالة من هذا النوع وقعت في عهد السلطان يلدرم بايزيد، حيث قتل شقيقه "يعقوب" بوشاية من الجوقة المحيطة به، وقام السلطان سليمان القانوني بقتل أبنه مصطفى بسبب وشاية تقول إنه يجهز للاستيلاء على العرش، كما أن السلطان سليم الذي عاش في وئام مع شقيقه بايزيد، قتل شقيقه وأولاده الخمسه، بسبب وشاية أيضا. كما قام السلطان محمد الفاتح بقتل شقيه الرضيع "أحمد" حتى لا يكون له منافس على السلطة، وهي حادثة تدور حولها شكوك، بحسب البروفيسور كوندز.